د. إبراهيم منصور
لو اطلعت على صفحة الدكتور محمد أبو الغار Mohamed Aboulghar على الفيس بوك التي يتابعها أكثر من ٢١ ألفا لوجدت أنه يكتب عن ليلى مراد، وعن محمد عبد الوهاب، وعن فن الرواية، وفن الأوبرا، وعن الفن التشكيلي، بقدر ما يكتب عن الجامعة، وعن أخبار العلم والمؤتمرات التي يحاضر فيها في علم الأجِنّة والحقن المجهري، وقد كتب أبو الغار على صفحته يوم ٣ يوليو ٢٠٢٢ يقول: “أوبرا “لاسكالا” أهم أوبرا في العالم في مدينة ميلانو اليوم محاضرتي عن الذكاء الصناعي في علم أطفال الأنابيب في اجتماع الجمعية الأوربية لأطفال الأنابيب والعقم، ويحضر المؤتمر ٦٠٠٠ طبيب وباحث. وقد وصلتُ ميلانو أمس وعن طريق أصدقاء حصلت بصعوبة علي تذكرة، وحضرت أوبرا “ريجالاتو” التي لحنها فردي”
أبو الغار (مواليد ١٩٤٠) انتهى من دراسة الطب في جامعة القاهرة وبدأ التدريب منذ ستين عاما (١٩٦٢) وبعد عام واحد قضاه في التدريب، أقيم حفل التخرج، حيث قرأ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد آيات من الذكر الحكيم، هكذا سجل الدكتور أبو الغار بالصور في كتابه “على هامش الرحلة” (دار الشروق ٢٠١٠) وهذا الكتاب نشر أول مرة عام ٢٠٠٣ في الهيئة المصرية العامة للكتاب.
*****
يمثل الدكتور أبو الغار ظاهرة لافتة في مجتمعنا الحاضر في الربع الأول من القرن ٢١، فهو طبيب يمارس عمله في عيادته، وهو أستاذ جامعي يؤدي عمله في الجامعة، وهو باحث مجتهد له سمعة عالمية في تخصصه الأكاديمي، لم يتأخر عن زملاء مهنته في العالم، بل سبق إلى نقل فرع من الطب وتوطينه في مصر والمنطقة العربية هو “الحقن المجهري وأطفال الأنابيب” وأنشأ جمعية علمية، هي جمعية الشرق الأوسط للخصوبة MEFS، ولها مجلة أكاديمية باسم مجلة الشرق الأوسط للخصوبة، هو مؤسسها ورئيس تحريرها.
لكن هذا كله يبقى تنويعات على “التخصص” في الطب، أما الذي يجعلني أقول عنه أنه يمثل ظاهرة فريدة اليوم فهو انخراطه في “الثقافة الإنسانية” أي الأدب والفن. فقد صار العلم منذ القرن التاسع عشر، في العالم الغربي، مهيمنا وفارقا بين الثقافتين العلمية والأدبية، واليوم صارت الفجوة في عالمنا العربي بين العلم والمشتغلين به، وبين الفنانين والأدباء، بل سائر المجتمع، تنذر بالخطر، وقد شُخّصت هذه المشكلة على النحو التالي: “من الخطر أن يكون لدينا ثقافتان لا تستطيعان التواصل أو هما بالفعل لا تتواصلان، في زمن يحدّد العلم فيه الكثير من قَدَرنا” هذه العبارة وردت في مقال بعنوان “الثقافتان.. نظرة ثانية” كتبه المؤلف البريطاني سي. بي. سنو C.P. Snow صاحب محاضرة “ريد” الشهيرة في جامعة كمبردج بعنوان “الثقافتان” (١٩٥٩م)
“رجل الثقافتين” قد يكون نادرا في بلادنا، لكنه كان موجودا في مصر، ولاسيما في مدرسة “قصر العيني” الطبية العريقة، ويمكننا ذكر أسماء كثيرة من أبناء تلك المدرسة، جمعوا بين الثقافتين، منهم يوسف إدريس (١٩٩١) وآخرون، وكان أبرزهم محمد كامل حسين (١٩٧٧) أستاذ طب العظام، الذي جمع بين جائزتي الدولة التقديرية في الطب، وفي الأدب عن روايته المتفردة “قرية ظالمة” (١٩٥٧) وله مؤلفات عدة في اللغة والفكر.
أما الدكتور أبو الغار فقد استطاع منذ وقت مبكر جدا أن يبقي نفسه على تواصل مع الفنون، فكان يقتني اللوحات الفنية، وقد واظب على هوايته حتى أصبح يملك مع أسرته مجموعة فنية من اللوحات والمقتنيات المنحوتة، لعدد ١٥٨ فنانا، تمثل متحفا خاصا، وقد أخرج كتابا ملونا هو بمثابة “كتالوج مسبّب” عن مقتنايه الفنية، عنوانه “رحلتنا مع الفن.. مقتنيات عائلة أبو الغار” (دار الكرمة ٢٠١٩) هذه المجموعة الفنية، هي في وصف الناقد سمير غريب “متحف مصغر للفن المصري الحديث”
*****
يقول الدكتور أبو الغار إنه، وقبل أن يصدر سيرته الذاتية في كتابه “على هامش الرحلة” قد أطلع والده أو بالأحرى أخبره بأول كتاب له كتبه باللغة العربية بعنوان “إهدار استقلال الجامعات” وأن الوالد قد فرح جدا بهذا الكتاب، والحقيقة أن كتيب إهدار استقلال الجامعات هو “تقرير” يقع في ٥٣ صفحة ، لكن أهميته تنبع من موضوعه الذي شغل مؤلفه وشغل ثُلّة من أساتذة الجامعة المصرية من تخصصات عديدة، عملوا معا من أجل النهوض بالتعليم الجامعي بضمان استقلال الجامعة والحريات الأكاديمية فيها. لكن يبدو أن نشاط التأليف باللغة العربية والكتابة والنشر قد بدأ يشغل أبو الغار في ذلك التاريخ على نحو جلي، أضاف لحياته بعدا جديدا أو أكد وجود ذاك البعد، وهو الاهتمام بالثقافة الأدبية والفنية، وأيضا بالثقافة الثالثة وهي الثقافة الاجتماعية، فقد شرع الدكتور أبو الغار، منذ نهاية العام ٢٠٠٢م، يكتب في جريدة “الأهرام” وفي مجلة “الكتب وجهات نظر” مقالات حول الوراثة، والاستنساخ البشري، والعقم، كما كتب عن الجامعات الخاصة، وعن الحريات الأكاديمية.
*****
بعد كتاب السيرة الذاتية، أصدر الدكتور أبو الغار ثلاثة كتب يمكن تصنيفها كلها في فرع “التاريخ” وكتاب واحد في الطب هو “المرأة في غرفة العمليات” لم يعن بمسألة إعادة طباعته، أما الكتابة في تاريخ مصر، فقد أصبحت شاغلا له فكتب “يهود مصر من الازدهار إلى الشتات” (دار الهلال٢٠٠٤) ثم “أمريكا وثورة ١٩، سراب وعد ويلسون” (أصدره في العيد المئوي لثورة ١٩) و”الوباء الذي قتل ١٨٠ ألف مصري” (٢٠٢٠) وأخيرا طبعة جديدة موسعة من كتاب يهود مصر بعنوان “يهود مصر في القرن العشرين، كيف عاشوا ولماذا خرجوا؟” (٢٠٢١)
يستغل الدكتور أبو الغار سفره المتواصل لحضور المؤتمرات الطبية في جوانب العالم و وأطرافه المترامية فيجمع الوثائق، ويشتري الكتب ويعود ليطّلع ويوثّق ويكتب، لذلك فإن كتبه قد لا تكون على النهج العلمي الذي يرتضيه المؤرخون المحترفون، لكنها برغم ذلك تعد إضافة مميزة بما فيها من وثائق وصور، وبما امتازت به من اطّلاع واسع، يضاف لذلك كله تواضع المؤلف الذي يدهشك بتسامحه وقوته النفسية التي تحبب إلى القراء ما كتب عن حياته وعن بني قومه على السواء، ولقد بلغ الدكتور أبو الغار حدا من التماهي مع القضية الوطنية، سواء في جانبها الواقعي، أو في جانبها التاريخي، إلى درجة أنه أخذ ينقّب فيما لم يتناوله المؤرخون المحترفون من جوانب التاريخ المصري مثل مسألة “الفيلق المصري” الذي أُخذ بالسخرة لكي يعمل في خدمة الجيش البريطاني في سيناء وفلسطين وإيطاليا وفرنسا، أثناء الحرب العالمية الأولى (٢٠١٤- ٢٠١٨) فهذا الموضوع يشغله حاليا لإخراج كتاب يعتمد على الوثائق البريطانية.
*****
في ذكرى السادس من أكتوبر ٢٠٢٢، يذكرنا أبو الغار بالعنوان الذي كتبه توفيق الحكيم في الأهرام يوم ٧ أكتوبر عام ١٩٧٣ “عبرنا الهزيمة” ويحكي عن نفسه وعن تجربته ومحاولته الابتعاد والهجرة، بعد هزيمة ٦٧، وكيف أن ذلك كان بالنسبة له كابوسا، منعه من النوم، فمزق أوراق الهجرة وعاد من الدنمارك ليعيش مع أهله ويعمل لهم، ولذلك فإن الجانب الثالث من جوانب ثقافة أبو الغار هو العلوم الاجتماعية، التاريخ والاجتماع، والسياسة التي كانت مرة حزبا سياسيا اسمه “الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي” ثم آلت إلى فلسفة في الوطنية، فقد صار الدكتور أبو الغار يكتب عن هموم قومه في جريدة المصري اليوم مقالا أسبوعيا ينشر يوم الثلاثاء، ويختمه الكاتب بعبارة واحدة كل مرة، هي “قوم يا مصري، مصر دايما بتناديك” وهي عبارة مأخوذة من النشيد الذي كتبه بديع خيري ولحنه سيد درويش، وارتبط بثورة ١٩.
الدكتور أبو الغار تعلّم في مصر وحصّل جميع علومه وجميع درجاته العلمية في مصر، ولكنه اليوم اسم عالمي في مجال علاج العقم والخصوبة والوراثة البشرية، إنه ابن رجل كان يعمل ويؤلف ويحاضر في مجال “الائتمان التعاوني” وظل يعمل حتى جاوز الخامسة والثمانين، ولم يتوقف إلا لفقدان بصره، وقد عمد ابنه الدكتور محمد أبو الغار إلى تسجيل سيرة أسرته والوسط الذي نشأ فيه في كتابه “على هامش الرحلة”
لا يتوانى الدكتور أبو الغار عن مواصلة الجهد في نشر الثقافة العلمية الطبية، والثقافة التاريخية الموثّقة، والثقافة الفنية الداعية إلى التسامح وحب الإنسان لأخيه الإنسان، من أجل الخير والحق والجمال، وأخيرا الثقافة الاجتماعية السياسية بجوانبها الشائكة والجالبة للمتاعب، ثقافة الانتماء والالتزام. وهو بذلك ليس فقط رجل الثقافتين العلمية الطبية، والفنية الأدبية، بل هو رجل الثقافات الثلاث، رجل التنوير الذي يستحق التحية والتقدير العميق. يملك أبو الغار حياة حافلة بالعمل، حافلة بالأمل، أطال الله عمر صاحبها وحباه الرضا جزاء عمله الدؤوب.