“رجل أبله .. امرأة تافهة”.. “رجل مُتعبْ .. امرأة عاشقة”!

"رجل أبله .. امرأة تافهة".. "رجل مُتعبْ .. امرأة عاشقة"!
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كتبتُ كثيراً من قبل عن فكرة " ائتلاف المتناقضات " في أدب "محمد ناجى" ، واعتبرتها أحد مفاتيح قراءة رواياته ، وأحد مباهج اللعبة الروائية بينه وبين القارئ ، وهى لعبة ليست مجانية على الإطلاق إذْ يبدو هذا الجمع بين المتناقضات عنواناً عريضاً يعبّر عن رأى "ناجى" سواء فى الإنسان أو فى الحياة نفسها التي لا تحتمل زاوية واحدة للرؤية ، وإنما زوايا  متعددة ملوّنة متجاورة تصنع مشهداً واحداً متماسكاً . عندما يسأل "ناجى" في رواياته سؤالاً يحتمل التخيير ب " أو/ أمْ " ، فاعلم أنه على الأرجح يريدك أن تفكّر فى الاحتمال الذى لم تفكر فيه أبداً وهو أن يجمع الشيء بين كذا "و" كذا فى نفس الوقت . هذا هو الإنسان ، وهذه هى الحياة ، وهكذا تسير الأمور لو تأملت أو فكّرت . فى رواية "مقامات عربية " مثلاً يسأل السلطان الحائر كبير الحرس : " السلّم طلوع أم نزول ؟" ، فيرد عليه وهما وسط المرايا المتكسّرة : " هو على اتجاه الوجه ياسيدى " ، فيقول السلطان : " قصدى الطلوع لكن كأنى نازل " . الخطأ إذن أن تفهم "ناجى " من خلال عباراته المباشرة إذ أنه يحتاج الى رؤية أعمق لأن القاعدة الهامة لديه سواء فى الشكل أو المضمون هى : " الأشياء ليست أبداً كما تبدو عليها ، وإنما كما نحاول أن نفكر فيها ونتأملها " .

من هذه الزاوية الواسعة ، فإن رواية مثل ” رجل أبله .. امرأة تافهة ” تبدو كإحدى أكثر روايات “ناجى ” خداعاً سواء من حيث مظهرها البسيط ، أو فى عنوانها الذى يبدو للوهلة الأولى ساخراً من الطرفين فيما هو يتعامل معهما بحب شديد راسماً قصة حب استثنائية فى ظروف صعبة ، مروراً بتجريد اسمى الرجل والمرأة مما قد يوحى للقارئ المتعجل بما يشبه “التنكير” و”التقليل” فيما يريد الراوى العكس تماماً وهو أن يجعل الرجل والمرأة عنواناً على جيل أعطى كل شيء  ( على اختلاف الطريقة والأسلوب ) ولكنه لم يأخذ شئياً ، فلم يعد باقياً له سوى أن يدافع عن أيامه الأخيرة وسط أمواج عاتية ، وكأنه الإله ” شيفا ” متعدد الأذرع  الراقص وسط النار ، وقد عقد بيسراه العالية دائرة اللهب المقدس ، وأطلق بيمينه إيقاع الحياة . ” رجل أبله .. امرأة تافهة ” خادعةٌ أيضاً بهذا السارد الماكر الذى يبدو أكثر ضجراً من أبطاله بينما هو يستدرجنا ليرسم صورة لفكرته البديعة : الحياة ليست أفكاراً كبرى فقط ، وليست تفاصيل تافهة فقط  ، الحياة هى الإثنين معاً . الإنسان ليس عقلاً فقط ، وليس قلباً فقط ، ولكنه الإثنين معا ، وفى جسد واحد . علاقة الرجل بالمرأة لم تأخذ فقط بعداً قدرياً ، ولا هى اختيار من الرجل ليختبر حريته ، ولكنها الإثنان معاً . هى إذن رواية “تصالُح التناقضات” داخل الكائن الأعجوبة : الإنسان ، وهى أيضاً لعبة تعدّد زوايا الرؤية بين بطلى الحكاية ، هو يراها تافهة لأنها تضيع وقتها فى تفاصيل صغيرة ، وهى تراه أبله لأن الأفكار الكبرى التى آمن بها لم تستطع أن توفّر له الحد الأدنى من الحياة المادية اللائقة ، ولم تجعله بعيداً عن هاجس الموت وحيداً منبوذاً عارياً يدارى عورته بيده مثل أستاذه ، ولكن ما أن تنتهى من قراءة الرواية حتى تظهر وجهة نظر ثالثة : لم يكن الرجل أبله ، ولم تكن المرأة تافهة ، لم تكن مشكلته أنه يكتب عن العالم الثالث ولكن المشكلة فى أن يكتب عن العالم الثالث فى إحدى دول العالم الثالث ، فيدفع الثمن مرتين ، نظرياً وعملياً ، لم تكن المرأة تافهة وهى تحسب المرتب بالورقة والقلم ، لأن هذه هى الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة فى زمن المادة . يخدعنا السارد فى بداية الحكى بالإنحياز لوجهة نظر الرجل الخاطئة ، فالمرأة تزوجته من أجل الجاه والمال ، وهى من النوع ” الذى يرمى نفسه ويموت تحت أقدامك ، فتضطر الى حمله على كتفك ” ، فى النهاية تكتشف أنه لم يكن هناك أصلاً لا جاه ولا مال ، وأن المرأة هى التى ستحمل الرجل فى ايامه الأخيرة ، وأنه هو الذى سيموت بين يديها ، المعنى الظاهر هو السخرية من الطرفين ، ولكن المعنى المقصود هو التعاطف الشديد مع حكاية حب بديعة كل مشكلتها أنه جاءت فى خريف العمر بعد أن أصبح الرجل محبطاً إحباط “دون كيخوته دى لامانشا ” فى حربه العبثية مع طواحين الهواء ، ولكن الرجل مثل “دون كيخوتة ” لم يتخلّ أبداً عن افكاره الكبرى ، كانت المعادلة ينقصها قلب كبير فى صورة امرأة عاشقة ، أصبحت بينهما صداقة عميقة ، عميقة كالفجوة ، وكأنه وجد ما ينقصه ، وكأنها وجدت ما ينقصها ، وكأن الإنسان عاد الى ما يجب أن يكون عليه : عقل كبير ، وقلب أكبر .

وبقدر غياب الأسماء عن الرجل والمرأة ، وكأن الرجل “فكرة كبرى ” عن جيل الأحلام الكبيرة والإحباطات الأكبر ، وكأن المرأة فكرة كبرى عن إيزيس معاصرة تلملم بقايا جيل مثخن بالجراح ( الرجل الصحفى و الأخ مدرس الموسيقى الذى يحصل على نصف معاشها و زغلول الدسوقى الذى مات وهى تحمّمه و الطبيب المنبوذ من عائلته والتائه بين السياسة والطب والشعر) ، فإن ناجى يعادل هذا التجريد للبشر كأفكار ، بتقديم كل “التفصيلات الصغيرة” عن أبطاله : هو ولد وعاش وحيداً ، فقد أمه بعد شهرين من مولده ، لم يشعر بالإستقرار لتنقّل والده “شكرى أفندى” ناظر المحطة من مدينة إلى أخرى ، كانت علاقتهما  هامشية ، وكانوا ينظرون للطفل الصغير على أنه رجل كبير فى طور النمو ، ثم جاءت مرحلة الانتماء السياسى والسجن والتخصص فى الكتابة عن العالم الثالث وقضاياه ، كان يفخرأنه ظلّ جاداً دائماً ، أما هى فقد تأخرت فى الزواج ربما لأنها جميلة ، عملتْ فى مهن مؤقتة حتى تحتفظ بمعاش والدها الذى تقتسمه مع أخيها المتزوج صاحب الأولاد ، إخصائية اجتماعية فى دار المسنين تؤمن بالقلب والإحساس ، امرأة عاشقة قوية الشخصية تذكرنا على نحو ما بتلك المرأة فى إحدى مسرحيات ” توفيق الحكيم ” ، التى ذهبت لتخطب الرجل الذى أعجبها ، إنها المرأة الأم والوطن البديل والطاقة البديلة التى ستمتد يدها الحانية الى كل التائهين والحيارى .

ليس هناك أثرٌ لمحاكاة ساخرة للرومانسية ، لأننا أمام قصة حب حقيقية جداً كل مأساتها أنه حدثت فى زمن أبله يسمح لرجل جاهل ولصّ للأفكار بأن يكون مديراً للتحرير ، وزمن تافه يترك مناضلاً حارب الإنجليز ورصّعتْ  جسده عشر رصاصات لكى يموت خجلاَ مُعذباً مُخفياً عورته ، صمد أمام الرصاص ولم يصمد أمام نظرة شفقة من امرأة رأته عارياً ، كان يمكن أن يموت الرجل مثل أستاذه “زغلول الدسوقى ” لولا هذه المرأة التى اقتحمت حياته فأدرك لأول مرة معنى التفاصيل والأشياء الصغيرة ، الأشياء التافهة ،  يقول محبطا “خربت ” فتقول له مشجّعة ” اكتُبْ ” ، يحدّثها عن الغريزة فتحدثُه عن الحب ، يكلّمها عن العقل فتأخذه الى القلب ، الرجل الذى كان يهرب ويشعر بالضجر سيردّد أخيراً كلمات الحب لهذه “المرأة التافهة الرائعة ” ، بل سيفكر أن يمنحها بوليصة تأمين بعد وفاته ، ولكن مشروعه يفشل بسبب أمراضه ، سنكتشف أكذوبة المال والجاه التى تبنّاها السارد الماكر الذى سرعان ما سيعود فى السطور الأخيرة الى  أهمية التفاصيل الصغيرة من خلال امرأة أبرز ما توصف به أنها امرأة عاشقة .

الجدل والتآلف بين الأفكار المجردة والتفاصيل الصغيرة ليس فقط على مستوى السرد ، ولكنه أيضاً فى تحولات الشخصيات وأفكارهم التى تنطلق من تفصيلات صغيرة جداً ، هناك أربعة أفكار كبرى تتردد فى الرواية لأربع شخصيات محوريّة ، ولكنك لو تأملت لاكتشفت أن هذه الأفكار لم تولد هكذا ولكنها خرجت من تفصيلات بسيطة بل وتافهة ، “شكرى أفندى ” مثلا ناظر المحطة الصارم الذى يضبط ساعات الدنيا على ساعته السويسرية ، والذى يكرر عبارة ” الساعة كام ؟” انتظاراً لوصول القطار ، ينتقل بالسؤال المباشر الى ما يشبه حالة انتظار صوفية ، يزور الأولياء والصالحين ، ويصبح لنفس السؤال : ” الساعة كام؟” معنى أكبر وأخطر ، والمعلم “كسّاب ” الذى يبدو جاهلاً يتعلم الحساب بالكاد ، ولكنه ينطلق من المعنى البسيط للأرقام الى اعتبارها سر الكون ، بل إن حكايته عن تعلم الحساب تبدو كما لوكانت إلهاماً خارقاً وكشفاً يفتح مغاليق المعرفة ، والطبيب الذى يعيش حياته بمنطق البدائل يبدأ من خريطة الطاقة الجسدية الى التفكير فى خريطة طاقة للمجتمع كله وربما للكون أيضا ، حتى الرجل الذى يكره التفاصيل الصغيرة يبدأ من واقعة صغيرة شاهدها فى كل دول العلالم الثالث ، وهى ذلك الحاوى الذى يبكى ويقول : “قيدونى.. قيدونى ” ، لينتهى الى فكرة لامعة جداً وهو حال الدول نفسها التى مازالت تصر على تقييد نفسها حتى بعد الإستقلال ، وكانها لا تستطيع العيش بلا قيود . المعنى أنه لا أفكار كبرى بدون الإنطلاق من أفكار صغيرة أو حتى تافهة ، كما أن ” خلفية المشهد تؤثر على درجة رؤيتنا له ” ، وهو ما أدركه الرجل فى نهاية المطاف .

قصة حب وصداقة واحتياج متبادل ، فى منتصف الرواية يعلن السارد المتضجر بلامبالاة أن بطلنا قد مات ، وان المرأة قد واصلت دورها فقامت برعاية الطبيب الشارد صديق زوجها ، لم يكن الطبيب يحب التفاصيل الصغيرة فكتب توكيلاً لزوجته ، باعت أملاكه وطلّقته وتزوجت رجلا آخر ، ومع ذلك لا تنتهى الرواية بموت الرجل ، سيتحول الموت الى  “تفصيلة عابرة” فى مقابل الحوار المتواصل بين الرجل والمرأة التى تبيع دبلة زواجها للإنفاق على المنزل ، وتتغاضى عن سرقة زوجها لخمسين جنيهاً من أجل أن يشترى السجائر والخمور ، تتحول المرأة الى أم تلقى درسهاً على طفل مستسلم ، ولكنها لن تنسى أنها عاشقة تريد ان تحفر اسمها وتاريخ زواجها على دبلة الزواج الجديدة ، تبدأ الرواية بلقطة محايدة  وتقليدية : زوجان يتناقران مثل كل الأزواج ، وتنتهى بمشهد حب استثنائى شديد العذوبة عندما تصبح المرأة هى الباب الواسع للإحتواء ، والواحة الأخير للفارس المُتعبْ .

يقول المصّور صديق الرجل : “الحياة لقطة ” ، فيقول الرجل : “الحياة تصوُّر” ، والرواية تبدأ باللقطة ولكنها تنتهى بالتصوّر الجديد : لم تكن المرأة عاهرة تصطاد رجلاً ، لم تطمع فى المال أو الجاه ، كانت المرأة هى النصف الآخر المفقود لدى جيل الأفكار الكبيرة ، كانت القلب الذى يحتاجه صاحب السؤال ، كانت “إيزيس” التى تلملم الثروات البشرية والفرسان المهزومين الذين قصفتهم تفاصيل الحياة ، كانت نسمة الصيف لكل الذين كتبوا لمن تنفعه الذكرى ثم أصبحوا على هامش الحياة ، لم يكن ينفع الرجل أن يتزوج من صديقته المثقفة الراحلة “رورا” التى لم تهتم أبدا بالتفاصيل  ، كان القطار فى حاجة أن يتوقف قليلاً عند المحطات الصغيرة بعد أن ظل طوال عمره لا يتوقف إلا أمام المحطات الكبيرة ، كان الرجل فى حاجة الى أن يصفّر بمرح وانطلاق بعيداً عن المارشات العسكرية المنتظمة .

ماذا بقى من رحلة الأفكار الكبيرة ؟ صورة مع “كاسترو” وأخرى مع “أنديرا غاندى” وأقنعة أفريقية وتمثال الإله “شيفا” الراقص فوق النار بأذرعه المتعددة ، وماذا بقى من تجربة التفاصيل الصغيرة ؟ رحلة حب عميقة ودرس فى معنى الحياة وعلامة استفهام مفتوحة على السماء  والبحر بين رجل وامرأة  .

هنا رواية عظيمة عن رجل محبط أنقذته امرأة عاشقة من موت مهين مجّانى فعاش لحظات عذبة فى زمن البلاهة و التفاهة والحواة والبهلوانات .

وتبقى الحياة كالرواية: مجرد لقطة ثابتة لا نعرف ” تصوّرها ” إلا فى اللحظات الأخيرة، أو فى سطور الرواية الأخيرة ، عندها فقط نتذكر السؤال المنسى: “الساعة كام؟”.

مقالات من نفس القسم