مع الريحِ جئنا
غرَيبينِ لا وجهةٌ أوقَفَتْنا،
ولا أنصفتنا المواعيدُ يا بنتَ عمي
بريئَيْنِ إلا من الأمسِ، والذكرياتِ التي لا تُدَواى،
كبحارةٍ أجهشوا بالحنينِ لأولِ مرسى
وقفنا نلوِّحُ من شرفةٍ للبعيدِ: انْتَظِرْنا
وهيِّيءْ لنا سُلَّمًا للصعودِ إلى ما نريدُ
وكان المدى حينها مُسْرِفاً في الغوايةِ
بعدَ انحسارِ المسرَّاتِ عن ساحلِ العمرِ،
والأرضُ فوضى،
وكانتْ بلادٌ مصابيحها الوهمُ تعوي،
وكانتْ مساميرُ من يصنعون الصليبَ لكلِّ نبيِّ
تدقُّ عظامي،
وكنتُ وحيدًا،
معي كلُّ ما خبَّأتْهُ القرى من بيوتٍ،
وما أنْضَجَ الشيخُ في قِدْرِ روحي،
معي صوت أمي سلاما وحلوى
وما أسقطتْ نخلةٌ في الجنوبِ البعيدِ من التمرِ،
ما دسَّهُ حقلُ قمحٍ، مواويلَ تمشي فأمشي،
معي كلُّ ما أحرقته المسافاتُ عامدةً من غناءٍ،
وما دوَّنَتْهُ المنافي من الجوعِ، والبردِ،
والركضِ خلفَ المجازِ العنيدِ على عتباتِ الليالي،
وما خلَّفَتْهُ البناتُ اللواتي تَقَاسَمَنَ قلبي،
معي أصدقائي مريدو ضلوعي،
وما زلتُ وحدي
وأنتِ على بركةِ الغيبِ صفصافةٌ من ضياءٍ
تَفُكِّينَ شَعْرَكِ،
كي تضعَ الحربُ أوزارها،
كي تطيرَ العصافيرُ للجانبِ الخَصْبِ،
دونَ رصاصةِ غدرٍ،
وعيناكِ أخرُ حدُّوتَتَيْنِ لطفلٍ رَمَتْهُ المحطاتُ مثلي،
وكفَّاكِ غُصْنانِ مالا فقالا، وقالا،
ونهداكِ قُمْريَّتانِ تنامانِ دونَ ضجيجٍ،
وخَصْرُكِ موسمُ جمعِ المجرَّاتِ من حقلها في الأعالي
على حينِ ما لستُ أدري
كما يفتحُ الليلُ أحضانه للسكارى،
كما تستعيدُ المراعي غزالًا شريدًا،
كما تلتقي دونَ سابقِ معرفةٍ موجتانِ التقينا،
نما الريشُ في ساعدينا فَطِرنا،
وأَرْخَتْ لنا غيمةٌ شالها فاسترحنا،
خَفِيفَيْنِ مثلَ الندى فوقَ خَدِّ الصباحِ
ومُمْتَلئينِ بما يشعلُ الحزنَ غيظا،
وكنتُ أعلِّقُ ليلي على حَبْلِ شَعْرِكِ
حتى يجفَّ اختبائي وراءَ الشبابيكِ وحدي،
وكنتِ اعتذارَ الحياةِ المثاليَّ عن كلِّ ما ليس يُحْكى
وكان عليكِ احتضاني،
وكانَ، فذبنا
ومثلَ انسحابِ عصا عازفٍ من عروقِ الكَمَانِ انسحبنا،
غريبَيْنِ يستأذنانِ الشوارعَ
في أنْ تمنَّ بحائطِ مَبْكَى
___________
حسن عامر ـ شاعر مصري
صدر له: هكذا أطلعكم عليّ ـ بياضٌ ملائمٌ للنزيف