حاوره: صبري الموجي
في عالمٍ مُتسارِع الخطوات والإيقاع، يعتبر العلم الحقيقة الأعمق، والأقدر على التأثير في أنماط التفكير، وأشكال السلوك؛ لذا باتت قضيةُ تبسيط العلوم أمرا ملحا؛ لعرض تلك العلوم المعقدة على غير المتخصص بأسلوب سهل وبسيط، يُمكّنه من استيعابها، وجني ثمارها. على مدى عقود، كرَّس جهده وأبحاثه لخدمة هذه القضية، فأخرج للمكتبة أكثر 30 كتابا، علميا وأدبيا وللأطفال، تخدم فكرة تبسيط العلوم، وكسر الحواجز بين العامة وتطبيقاتها. أكد أنّ تبسيط العلوم قضية غائبة، وأنّ الثقافة العربية عرجاء؛ لانشغالها بالثقافة الأدبية على حساب الثقافة العلمية، وطالب بأن يتصدى لتلك المهمة علماء يمتلكون ناصية اللغة، ويقدرون على التعبير؛ لصياغة الحقيقة العلمية الجافة بصورة مستساغة وأكثر إشراقا. يري أنّ الثقافة العلمية تهدف إلى تقديم رؤية حقيقية واضحة للحياة، ويرفض فكرة تعريب الطب؛ مخافة حدوث فجوة بيننا وبين العالم الآخر، الذي يعتمد الإنجليزية كلغة للعلم.مع أحد رواد هذا المشروع، المفكر العلمي الكبير رجب سعد السيد، كبير الإخصائيين العلميين، مدير عام المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد، يدور هذا الحوار.
تبسيط العلوم قضية ساخنة، يؤيدها البعض ويرفضها آخرون بحجة أنها تسطيحٌ للعلم وتفريغ له عن مضمونه.. فما هو تبسيط العلوم من وجهة نظرك فضًا لهذا الاشتباك؟
ليس تبسيطُ العلوم بالقضية الساخنة، بل قضيةٌ (غائبة)، ودعنا نتحدث على نحوٍ أعم، فنقول (الثقافة العلمية)، وهنا، أدعوك إلى مراجعة كتابي (الثقافة الغائبة .. تحريض على الكتابة العلمية للعامة) – كتاب اليوم – 2023م، إذن، فليست القضية (ساخنة)، بل غائبة، إذ إنّ ثقافتنا العربية بعامة، تسيرُ، في رأيي، بساق واحدة، هي ثقافةُ الأدبيات والإنسانيات، إنها ثقافة عرجاء، وهذا أمرٌ لا يتساوق مع أحوال عالم آخذ في التبدل، معتمداً على العلوم والتكنولوجيا.
لقد نشب هذا الاشتباك بين الثقافتين العلمية والأدبية، في الغرب، عند منتصف القرن العشرين، ففي مايو 1959م، ألقى الروائي البريطانيِّ المُعاصر ” تشالز بيرسي سنو”، المتخصص في الكيمياء الفيزيائية محاضرة عامة كان عنوانها: (الثقافتان والثورة العلمية)، أشار فيها إلى أنه يرصدُ هوَّةً تفصلُ بين ذوي ثقافة أدبية والعلماء، يمكن ردُّها إلى قصورٍ متبادَلٍ في الفهم، وتحدثَ إلى الحضور قائلاً: ” لقد ترسَّخَ لدى غير المنتمين للمجال العلمي انطباعٌ مفادُهُ أنّ العلماء متفائلون بشكل سطحي، وغير مدركين لخبايا أحوال البشر؛ ومن ناحية أخرى، تَكوَّن عند العلماء اعتقادٌ بأنّ المثقفين الأدبيين يفتقرون تمامًا إلى البصيرة، ولا يلقون بالًا لمن لا يحذو حذوهم، كما أنهم حريصون على تقييد الفن والفكر، على حد سواء، باللحظة الراهنة “.
وسرعان ما انتهى سوء الفهم بالتصالح بين الثقافتين، وبإفراد مساحات كبيرة من الاهتمام بالثقافة العلمية، تهيئة للعامة؛ لكي يتفاعلوا مع معطيات العلوم الحديثة، والتكنولوجيا الآخذة في التطور، فيكون التصالح، وتكون الفائدة.
أمّا عندنا، فلا زلنا نقترب من هذا الموضوع، من حين لآخر، ليرفع كثيرون أصواتهم بالإدانة للثقافة العلمية، فيرفضونها، ويتهمونها بالتسطيح وتفريغ العلم من مضمونه – كما ورد بسؤالك – وحقيقة الأمر أنهم لا يرفضونها، بل يخافونها!
وليست مشكلة الثقافة العلمية أن نفرًا من المغامرين أقدموا عليها وهم لا يمتلكون أدوات معالجتها، فأنتجوا كتابات ممجوجة، منعدمة الصلة بحقيقة الثقافة العلمية.
إذن فمن برأيك مؤهلٌ لهذه المهمة؟
إن تبسيط العلوم عملٌ يحتاج لكاتب يمتلك ناصية اللغة، قادر على تطويعها؛ لتعيد خلقَ الحقائق والأخبار العلمية في صورة مستساغة للقارئ غير المتخصص، بالرغم من أنَّ لغتنا العربية لا تزال بعيدة عن لغة العلوم الحديثة، ولا يتطلب ذلك أن يكون المشتغل بهذه العملية من العلماء المتخصصين، فمعظمهم لا صلة لهم باللغة العربية، ناهيك عن امتلاك فنونها التعبيرية، فإن توافر نفر منهم على مودَّةٍ باللغة العربية، انتهت المشكلة، وتيسر لهم أن يبسطوا العلوم للعامة غير المتخصصين.
وما الهدف من هذا المشروع؟
لا تستهدف الثقافة العلمية خزانة معلومات القارئ، صحيح أنها تثريه، ولكن بهدف تشكيل رؤية حقيقية واضحة للحياة في هذا العالم الذي يتغير في كل صباح، فتكسب القارئ قدرة على فهم التغيرات والتفاعل معها.
ولي تجربةٌ شخصية في هذه الناحية، فبعد أيام قليلة من صدور كتابي (مسائل بيئية) في مشروع مكتبة الأسرة، عام 1999م، فوجئتُ بمكالمة هاتفية، قال لي فيها المتصِل إنه طالب بمدرسة ثانوية في المنصورة، وإنه سعى حتى تَحصّل على رقم تليفون منزلي، من الدليل؛ ليكلمني، ويشكرني على الكتاب الذي تأثر به جداً، خاصة ما جاء به من كلام عن الهائمات المائية (البلانكتون)، وبلغ تأثره لدرجة أنه استعار من أمه قطعة قماش أعدها كشبكة، واستأجر قاربا في نيل المنصورة، وجرّ الشبكة وراءه، تماما كما وصفت أنا في الكتاب، ثم أفرغ ما ترسب في الشبكة من هائمات، رجع بها إلى منزله، وطلب من أبيه، وهو أستاذ في طب المنصورة، أن يأتي له بمجهر بسيط، وراح يتفحص صيده من (البلانكتون)، وقال لي: وجدت هذه الكائنات الهائمة بالضبط كما جاءت في رسوماتك بالكتاب.
ذلك ما يمكن أن تفعله الثقافة العلمية، التي يمكن، أيضاً أن تكون مصدر متعة ذهنية، إن جاءت في سرد متقن، متخذة شكل حكاية.
ومما يُذكر في هذا المجال، قالب (الخيال العلمي)، الذي يزاوج بين الخيال البشري، والحقائق العلمية، في قصة أو رواية، ولقد تعرضتُ لهذه الناحية في كتابي (الخيال والعلم معاً .. مقاربات في أدب الخيال العلمي) – دار المعارف – 2019م.
ولا أعتقد أنَّ دعم الثقافة العلمية وإعطاءها حق قدرها من الاهتمام هو (مشروع)، ولكنه توجُّه لاستكمال هيئة معاصرة صحية للثقافة العامة، التي تخدم المواطن، وتجعله أكثر قدرة على وزن الأمور بميزان دقيق، وأشدّ وعيًا.
وإلى أي مدى يخدم هذا المشروع العلم؟
يسهم هذا المشروع في نشر الوعي العلمي، ومحو الأميّة العلمية، وتطوير العلوم، والتعاطي معها، وإزالة الحاجز النفسي بين العامة، وتطبيقات تلك العلوم، إضافة إلى دوره في نشر الوعي الصحي، ومعرفة فوائد المخترعات والتقنيات.
وما هي وسائل تطبيق هذه الفكرة على أرض الواقع؟
تتعدد تلك الوسائل، فمنها أفلام الخيال العلمي، التي أسهمت منذ القرن السابع عشر في تبسيط العلوم، وتقديمها لعامة الناس، كذلك المحاضرات، التي تنامى دورها خلال القرن التاسع عشر، ومن أشهرها محاضرة ” التاريخ الكيميائي للشمعة” لـ(ميشيل فاراداي)، فضلا عن المقالات والبرامج التليفزيونية، والأندية العلمية، التي تُسهم في توصيل العلوم لشريحة أوسع عن طريق حلقات مناقشة قضايا العلم الساخنة، وأهم من هذا كله، الكاتب العلمي المتميز، الذي ظهر دوره بارزا عقب الحرب العالمية الثانية؛ بغرض تبسيط العلوم والتصدي للآثار المدمرة للحروب.
تقودنا هذه الدعوة إلى نقاش فكرة تعريب الطب، والتي كانت محل اعتراض وقضية (قيل وقال) ؟
تعريب العلوم بعامة، وليس الطب فقط، مسألة أخرى، غير الثقافة العلمية، وأنا لا أميل إلى تعريب العلوم، لسببين: الأول، أنّ اللغة العربية، لم تتطور لتتيح لدارسي العلوم، في مختلف التخصصات، اعتمادها كلغة صالحة للتعامل مع علومهم، كما أنّ التعريب سيخلق فجوة بيننا والعالم الآخر، الذي يعتمد معظمه على الإنجليزية كلغة عامة للعلوم، ولا أجد أيّ غضاضة في أن نظل على اتصال بالمنجزات العلمية، في هذا العالم الذي لا يكف، ولن يكف، عن التبدل في كل يوم.
والجدير بالذكر هنا أن الإسرائيليين عكفوا زمنا طويلا على تطوير (العبرية)، حتى أصبحت الآن لغة صالحة لتدريس العلوم بها، ولكتابة الأبحاث العلمية.
اعتبر البعض أنّ تبسيط العلوم يحلل الظواهر تحليلا ماديا مجردا ويغفل دور الخالق .. فما تعقيبكم ؟
كاتب الثقافة العلمية، أو تبسيط العلوم، لا يُحلل، فهو لا يكتب ورقة علمية سيقدمها للجان العلوم المتخصصة، ليحصل على ترقية، مثل أساتذة الجامعة، وإنما ييسرُ، في أسلوب جذّاب، وسرد هو أقربُ إلى (الحكي)، لأنه – ببساطة – إنْ حلّل الظواهر تحليلا ماديا مجرداً، فقدَ قارئه غير المتصل بالمجالات العلمية المختلفة، كما أنه غير ملتزم لأن يكون (داعية) دينية في ثوب كاتب ثقافة علمية.
قلت إن ثقافتنا الأدبية عرجاء؛ لإغفالها العلم، وعبر رحلة طويلة أثمرت عشرات الكتب والمطويات، والقصص والأبحاث عبر سلاسل (اقرأ، وآفاق المستقبل، وكتابك، وغيرها) .. فهل اشتدت سواعد هذه الفكرة، واستوت على سوقها أم أنها مازالت حلما؟
أعتقد أنّ المستقبل سيشهد ازدهارا للكتابة العلمية للعامة، وقد شرفت بأن أسندت إليَّ هيئة قصور الثقافة، منذ سنوات قليلة، مهمة رئاسة تحرير سلسلة كتب للثقافة العلمية، أصدرتُ خلالها 24 كتاباً، لعدد من الكُتَّاب، جانب كبير منهم يكتب في هذا المجال لأول مرة، وكانت تجربة ناجحة مبشرة، ولكن السلسلة توقفت، للأسف، فثمة دائما من يأتي ليطفئ الأنوار!