سعيد بوخليط
مات أبي. .
عدت من المدرسة، صبيحة ذاك اليوم من بداية خريف سنوات1978، بدا لي من بعيد مدخل منزلنا، تسوده ضوضاء وحركة غريبة غير معهودة بتاتا في محيطه، كسرت صمته وهو القابع في الظلام ليلا ونهارا، بحكم تواجده داخل ممر أشبه بقبو. شعرت بتثاقل خطواتي، ثم زاغت لاإراديا عن أثرها المفترض.
تبيَّنت طيف جدي متكوما على كرسي، بجلاّبيته وعمامته المشدودة بكيفية لولبية على طريقة أهل الصحراء، تبقي فقط على فتحتي العينين والأنف. عرفته من الوهلة الأولى، رغم شح زياراته هنا وجدتي، بل منذ عهد بعيد، مع قدرتهما الوافرة بالطبع. لأن علاقتهما بأمي، مثلما اكتشفت حينما اشتد عودي ووعيت بما جرى ويجري، اتسمت منذ البداية بالجفاء ولم تكن حسب المرغوب والمعتاد. تحديدا، لم يمتثل أبي لرغبة والدته أساسا، وكسر قاعدة زواج الأقارب التقليدي، فتزوج صدفة على نحو غير عادي، قياسا لما أراده والداه. فكان لابد، أن يدفع بجانب أمي في سبيل ذلك عقابا أسطوريا، وكأنّ لعنة حلت عليهما تباعا، أو أن أبي كان على عجلة من أمره كي يغادر هذا العالم سريعا، فصادف أمي أول ماصادف، ثم صنع كل المطلوب مجتمعيا خلال رقم قياسي جدا. دراسة، عمل، أسفار، زواج، أولاد، مرض، معاناة. . حصيلة اختزلتها عشر سنوات تقريبا، على أبعد تقدير.
ضمني جدي إلى صدره، قبَّلني قبلتين على جبهتي شعرت حقا بحرارة دفئهما، غير أني لم أبادل تحيته بالمثل، لاأدري لماذا، مثل المعتاد؟ بقيت يداي متصلبتين عند مكانهما، بكل برودة القطب الشمالي، دون لملمتهما قيد أنملة. فقط التقطت على نحو يقيني تماما بكل سخونة براكين العالم، الجملة التالية:”كن رجلا يابني، البقاء لله، لقد مات والدك. ولن تصادفه بعد اليوم قط في البيت، جميعنا سيموت ذات يوم، تجلَّدْ !”.
أحسست بأن العالم انهار فجأة بأكمله فوق رأسي، تداخلت لدي في ذات الآن أحاسيس شتى، ثم انتابني تيه عارم. ربما شكلت سنواتي السبع آنذاك، مظلة كافية ضد أعاصير الحياة، وبعدها أصبحت عاريا تماما. فهمت من كلام جدي، أن أبي سيختفي إلى الأبد، لكني لم أدرك حينها معنى الموت. أي شيء يعنيه أن نموت؟ لماذا نموت؟ لماذا أبي تحديدا؟.
ولجت البيت وأنا في غيبوبة. صعدت الأدراج. أتحسس قدماي فلا أشعر بهما بتاتا، مع أني سأبدأ منذئذ رحلة سيزيفية طويلة بلا منتهى. فهل سيتحمل جسدي الصغير متاهة دروب معتمة بلا أمان !تقصد عيناي مسار جهة واحدة، أبحث عن أمي، وسط كل هذا الإعصار. هل ستكون في وضع مماثل لحالة جدي ؟ أم ازداد أمرها وقعا واستفحالا ؟كان المنزل مأهولا بغرباء لاأعرفهم ولاأريد أصلا التعرف إليهم، أحس بنظرات هؤلاء تخترقني من رأسي حتى أخمص أصابعي، وشفاههم تلوك نحوي جملة تعابير؛ لم أستوعب جله.
-”مسكين لازال طريا وصغيرا جدا !فكيف به …؟”.
-“الله، الله، الموت لاتميز بين طفل وشيخ كلنا لها… ”.
-“كم ينتظرك أيها الصغير ! وأتمنى أن تكون طفلا بارا وصالحا. . . “.
كلمات تتقاطر صوبي من مختلف زوايا منزلنا الصغير، غير المعتاد أبدا على جلبة من هذا النوع، القابع دائما بين سكينة صمت مريب، أشعرني برعب شديد خلال لحظات كثيرة، لاسيما لحظات غياب أمي، ثم انزواء أختي إلى فراشها فجأة بعد ساعات من لعبنا المشترك، وانخراطها بعد حين يسير في سبات عميق. حينها، أبقى وحيدا، أتأمل مختلف الأشباح المنبعثة كل آن من الظلمة المخيفة التي تنعرج بنا نحو الدرج.
تواجد بيتنا وسط ممر مظلم يربط بين زقاقين، فكان جواره مرتعا آمنا ودافئا للعشاق؛ وجنة فيحاء بخصوص توضيب سيناريوهات جلسات أهل المتع بشتى ألوانها. لاسيما خلال المساء. كم من مرة، فتحت باب المنزل قاصدا الخارج، فأباغت جسدين ملتصقين؛متوحدين تماما، لكن بمجرد انبعاث إضاءة المنزل، سيرمي أحدهما الآخر إلى الجهة المعاكسة، سريعا، وقد استعادا وضعية التناظر؛ وربما استمر الوضع على ماهو عليه إذا أدركا سلفا أني الطفل إياه. أيضا، ظلمة مثلت ملجأ مريحا، للهاربين إلى متعة التحليق الحلُمي، ليست بالضرورة حشيشا وشرابا، بل مجرد تجريب على رشف أولى أعقاب السجائر، موقف لم يكن وقتها سهلا، فاقتضى الاختفاء وتبني أقصى درجات الحيطة والحذر، مادام تأكيد التهمة من طرف الأسرة أو الأقارب، سيجر على صاحبنا المغامر مختلف الويلات.
(2)
غير عالم هؤلاء، مع انبثاق أولى خيوط الفجر، تملأ الحي أصوات المتسولين، جلهم مكفوفين، يسكنون تلك الغرف الشبيهة بثقب داخل الجدران، المحاذية لضريح الزاوية العباسية. من بينهم جميعا، لم تفارقني حتى اللحظة، وقد ابتعد الزمان كثيرا، صورة شاب مجنون مقيد اليدين والرجلين باستمرار، لايكف بتاتا عن قضم الخبز، ملتصقا بجانب أمه الطاعنة في السن، دائم الترنح والاهتزاز. جسم هائل جدا، أصلع، بملامح تكابد حتى آخر رمق كي تحتفظ بوسامة أصيلة، رغم تغير سحنة وجهه، التي اختلطت ألوانها بركام القاذورات والأوساخ. عندما تدرك حالته مبلغا، منزعجا لأنه لم يتناول خبزا، ينهض مشهرا أمام المارين، جهازه التناسلي وقد تصلب عوده على إيقاع هذيان، بالكاد نستوعب منه مايلي :” ألْبْنات، أَوِيلي هم الْبْنات،. . بْنْ. . بْنْ. . بْنْ”، نتحلق حوله ونحن نتراقص ونتقلب بجنون ضحكا، تنتبه أمه لفظاعة الوضع المخل جدا، تصب علينا لعناتها وترمينا بالحجارة، نتفرق مهرولين صوب كل الجهات، تلتفت إليه، تقذفه بصفعة مدوية : “صلاي”. ترمي ببصرها صوب أي قطعة خبز، ثم تغلق بها فمه، فتعتريه سكينة مطلقة، بحيث سرعان مايأخذه نوم ميت، يتراجع جهازه إلى مكانه ويبدأ شخيره مدويا هديره.
ذات الوقائع تتكرر طيلة الأسبوع، لايكسر رتابتها غير حيثيات معركة ضارية بين شخصين، بمناسبة أمسية حمراء. معارك، يشكل الفيصل فيها القوة البدنية دون الاعتماد على لوازم تذكر، فنادرا جدا ما استعان أحدهم بسكين أو آلة حادة، كما أن مدتها قد تتواصل لساعات طويلة أو أيام، أذكر مثلا أن خالي جلول خاض معركة لثلاثة أيام متتالية، بحيث يستريح ثم يعود ثانية لاستفزاز خصمه، لأسباب على منوال حسابات داحس والغبراء، وتزداد الأمور تعقيدا، في حالة انحدار المتصارعين، من حيين مختلفين، وقتها يختلط الذاتي بالموضوعي، تحضر دواعي المروءة والعزة، ثم تتعقد أكثر فأكثر، إذا تصادف وصارت المعركة قضية شخصية ارتبطت بقيادي الحي.
إذن، ظلمة تكتنف محيط البيت طيلة اليوم، نهاره مثل مسائه، يزيغ داخله كل قادم غريب، غير مدرك لجغرافية الموقع المجاور لضريح الولي الصوفي أبي العباس السبتي، أحد الأولياء السبع الذين اشتهرت بهم مراكش، وقد عرفوا خلال مراحل تاريخية مختلفة، بورعهم وتقواهم وكراماتهم المفارقة لثوابت العقل البشري.
ترعرعت وأختي على مختلف أجواء الطقوس الروحية والصوفية التي ترسخت عبر أجيال طويلة عند ضريح الولي :زيارة قبر”سيدي بلعباس”كما جرت التسمية وتقبيل أركانه بوقار فائض من أربع زوايا، جهتين عند رأسه، والثانيتين عند قدمه؛مع التمسح والتبرك بتمرير اليد على مجموع اللحد ثم إلقاء بعض النقود داخل فوهة الصندوق الموضوع بجواره تحت مراقبة متلصصة لفقيه جامد أبدا عند مكانه، يتلو القرآن في صمت، لكنه لايغفل لحظة عن ترصد مايفعله القادمون. تخصص المداخيل لجماعة المكفوفين والحمقى الذين يعيشون على رصيد الصندوق بعد فتحه كل يوم أربعاء، ريع يزداد سخاؤه حسب المواسم والمناسبات لاسيما الدينية، كشهر رمضان بالأخص خلال يومي الخامس عشر والسابع والعشرين. حينئذ نلاحظ نحن ساكنة الحي، قدوم وفود غريبة وربما من مختلف جهات الوطن.
أساسا، يحدث يوم الأربعاء، بمناسبة أو غيرها، انقلاب كلي، حينما يغدو الحي، قبلة يحج إليها المراكشيون من شتى أركان المدينة، بسبب دواعي السوق الأسبوعي، الذي اشتهر ب “لاربعا”، يمتد فضاؤه من ضريح أبي العباس السبتي، إلى أقصى شمال حي آخر يدعى ”باب تاغزوت”. أيضا، اليوم الذي تبعث فيه السلطات الرسمية، إلى المكفوفين سيارة مكدسة بالخبز كما تذبح بقرة أو ثور ثم ناقة خلال مناسبة عيد المولد النبوي، وتوزع قطع اللحم على مريدي الضريح.
تأتي القوافل من كل أحياء المدينة، ليس فقط للتسوق، بل أيضا للترويح عن النفس من خلال متابعة حلقات المهرجين، و المشعوذين، و الفكاهيين، والسحرة، والحكواتيين، ، والدجالين، وبائعي الأعشاب الصحراوية، والفقهاء، ومروضي الثعابين، وقارئي القرآن، والفرق الفولكلورية، وأصحاب اللُّعب المثيرة كما الشأن مع فرقة أبناء سيدي حماد وموسى، الذين يسترعون الانتباه بقفزاتهم اللولبية نحو الأعلى، الثنائية والثلاثية والرباعية، واستعراضهم البارع لحركات تماثل حركات الفنون القتالية، فوق أرضية جرداء خالية تفتقد لأي صمام أمان، لذلك فأدنى حركة زاغت بمليمترات طفيفة على غير القياس، تؤدي حتما بصاحبها إلى هلاك مبين.
مشاهد بهلوانية في غاية الخطورة والمجازفة، من أجل استمالة أكبر عدد ممكن من الحضور، بالتالي إمكانية توسيع حصيلة الإيراد. حينما ينتهي العرض، يطوف رئيس الفرقة على امتداد تفاصيل جوانب الحلقة، يخاطب الجمهور بلغة مسجوعة أشبه بلغة المقامات، تتأرجح إيقاعاتها بين الكوميديا و التراجيديا، ثم المدح بما يشبه الذم، وكذا الذم بما يوهم على أنه مدح، ضمن قالب اللهجة الشعبية بكل قساوتها و حيادها. غير أن أغلبنا، في المقابل، يركز نظره على عضلاته اليابسة والمفتولة جدا، مع أن حجمها كان واهنا، نستحضر معها تجسيدا حيا لجسم بروس لي، وقد أدمنا نحن أطفال الحي أفلامه بالتكرار والتكرار، غير الممل، رغم عدم تجاوزها لأصابع اليد الواحدة، بحيث كنا لانبرح يوميا القاعة السينمائية العريقة داخل الحي، الشهيرة المسماة ”مرحبا”.
مع كل إعلان إشهاري لبروس لي، تبدأ حالة الطوارئ ولاتتوقف الاستعدادات، قصد الاحتفال بالعرض الأول، تقتضي أولى خطى ذلك تدبر ثمن التذكرة بأي طريقة من الطرق، شرعا أو حراما، لايهم، ثم الاستعداد الجسدي والنفسي للتمكن من مواجهة زحمة الحشود، والقدرة على الولوج إلى القاعة سالما معافى، دون اقتلاع لعين أو كسر في الأنف أو تحرش مقصود من الخلف لاتكون دائما عواقبه عادية. وإن دخلت واستويت في مقعدك، فلا تطمئن لحالك، فقد اشتهرت القاعة بأعداد الجرذان الهائلة، التي يحلو لها بالدرجة الأولى، التسكع بين أقدامنا للترويح عن نفسها؛وربما التقطت مايمكن التقاطه من غنائم، في ظل سواد القاعة الدامس، ثم غيبوبتنا شبه المكتملة بانسياقنا وجهة الشاشة لمتابعة متواليات الفيلم، بالتعقيب والاستطراد والتأويل والانفصال والاتصال تارة همسا وفي الأغلب صراخا.
بالتأكيد تخرج الأمور عن السيطرة، فتحدث جلبة داخل القاعة، ينتقل على أثرها الصراع من الافتراضي إلى الواقعي، ونبدأ في التنافس والتباهي بإخراج نفس صرخات البطن الشهيرة عند بروس لي، من أجل سحق أي جرذ تصادف وجوده تحت قدم أحد منا، هكذا يتعالى تباري الأصوات داخل القاعة، حد بلوغه عنان السماء، ومدى نجاح أحدنا في الإتيان بذات معالم الصرخة قلبا وقالبا، مصحوبة بحركة تليق بالمقام، مع التفنن في لعبة تشكيل ملامح الوجه، تبعا لتجليات القوة الداخلية، ثم تحط بكلِّية جسدك على الجرذ وتأتي عليه دون هوادة، وقد تستمر ارتدادات تلك الحركة وتجلياتها، غاية التأكد بأن الحيوان الثقيل الذي أفسد الحفل، قد تمزق جسده إربا إربا، وتناثر شظايا والفضل كله يعود إلى متابعة بروس لي.
داخل القاعة نفسها، خلال سياقات غير هذه، ربما مع أفلام الكاراتيه وأبطال آخرين للكونغ فو. يشعر الحضور بالضجر والرتابة، إما بسبب حالة الفيلم المتردية، أو لأن متواليات الحكي فشلت في الاستحواذ على الألباب، فيتكسر الصمت، بتبادل التعليقات احتجاجا، تبدأ بدائرة تداول ثنائي هامس، لكن سرعان ماترتفع عقيرتها لتكتسي طابع حلقات نقاش مبثوثة عند مختلف أركان وزوايا السينما. نقاشات تدلي بتعليقات شفوية، من باب النقد الانطباعي الأولي لمجريات الفيلم، لاسيما طبيعة الضربات وكيفية تحرك المقاتلين خلال المواجهات، ويزداد حجم السخط، إذا بدا لون الدم المنبعث من فم القتيل غير أحمر تماما، يكشف بسذاجة تقنيات الخداع السينمائي. هكذا تتزايد صيحات الاستنكار : أف ! سفلة، مجرد صباغة، أو عصير الباربا(يقصد الشمندر).
لذلك، يتم في حينه وعلى وجه السرعة، اتخاذ قرار جماعي، مفاده تشكيل فرق في عين المكان، والتحول بالفرجة إلى واجهة السطح العريض الممتدة أضلعه أمام الشاشة، ثم تنظيم مباريات في الكاراتيه، بالسعي إلى تطبيق ذات سرد الفيلم، لكن هذه المرة وفق ترتيب على مستوى الإخراج محكم الصنع، نستعيض به عن جل الهفوات التي رصدناها حين متابعتنا لما كان يعرض على الشاشة. يخلق التباري ”الجاد” وليس السينمائي أعطابا وحوادث ثم ضجيجا لايطاق، يثير حفيظة عمال السينما من بعيد جدا، فيسرعون مدججين بمختلف أنواع الهراوات ويشرعون في إخراجنا بالضرب والرفس والركل والشتم، ثم إشعال الإنارة وإنهاء العرض قبل الوقت المحدد. بالتأكيد، يحفظون جيدا ملامح عرَّابي المباريات داخل، قصد منعهم من العودة إلى السينما لفترة تطول مدتها أو تقصر، حسب التحريات الدقيقة بخصوص مستويات حجم الجرم.
أيضا، داخل القاعة نفسها، وبجانب حكايات الجرذان ومباريات الكونغ فو. هناك تجربة أخرى مختلفة، لابد من ذكرها. أقصد ازدهار مواسم الاستمناء الجماعي، بمناسبة عروض أفلام البورنو أو ”لامور” بلهجتنا آنذاك، التي شكلت مرتكزا ثالثا، ضمن الثالوث المقدس بالنسبة لأبناء الحي :كاراتيه، هندي، أو التاريخ والجغرافيا، مثلما دأبنا على نعتهما تفكها، نظرا لارتباطهما العضوي، ثم أفلام الجنس. مع ذلك، لاينبغي أن يحلق خيالنا حاليا بعيدا، ويعتقد المستمعون بأنه بنفس ملحمية ما يتداول حاليا أو بذات زخم إمبرياليته الهائلة، بل فقط مشهد بطل وبطلة، تميزهما غالبا قامة طويلة ونحافة أقرب إلى نتائج سوء التغذية منها إلى الأجسام الطرية والمثيرة، بتسريحتي شَعْر مدرسية تعكس رومانسية سنوات السبعينات، بناء على شعار :”مارسوا الحب، ولاتمارسوا الحرب”. نصف عاريين، يتبادلان قبلات سطحية على طريقة المبتدئين. هنا، يتوقف المشهد، ولايصبو نحو المبتغى المنشود بالتطلع إلى المنطقة المحظورة، حتى نكتشف ماينبغي اكتشافه. ترى المتفرجين سكارى، كأن على رؤوسهم الطير، يسود صمت مطبق، ولاهسيس، ولاوشوشة تنساب في الأفق، فالجميع مشدوه بكل تفاصيل حواسه الحية والميتة نحو الشاشة/اللذة، ولايخترق صمت الأموات، سوى ازدياد فاضح لإيقاعات ارتفاع وتيرة الاحتكاك الميكانيكي بالأجهزة القضيبية، مع اقتراب تحقق الانتشاء الجنسي، حيث لايكترث أحد بوجود الجميع.
لحظة تتسع أبعادها المفارقة، إذا تصادف الحدث مع زحمة نساء يوم الأربعاء، فرصة لاتتكرر كل آن، بالنسبة لشباب الحي، كي يحتفوا شبقيا وسط جبرية الازدحام والتزاحم، فيتعمدوا، جيئة وذهابا، الاحتكاك بمؤخرات النسوة القادمات للتسوق، منهم من يقضي وطره بسلاسة وسلام، في حين يتعثر حظ آخر، فتتضايق من سلوكه سيدة ما، وتقرر فضحه أمام خلق الله بالزهيق والصراخ. أما نحن الصغار، فكنا نسرع إلى المرحاض العمومي، كي نتابع، من جهة سلوكات الجرذان، ونعاين أوزانها، وإذا كان الجو حارا نرتمي في الحوض المائي الذي يتوسط المرحاض العمومي، لكن ونحن ننتعش بطراوة الماء، سنتلصص من جهة أخرى بسخرية، على عري الكبار وبالأخص الكهول، وهم يفرغون أحشاءهم داخل بيوت في غاية النتانة والقذارة ونصف مغطاة، قبل خروجهم بعورات وأجهزة مكشوفة إلى الصهريج للتوضأ…
(3)
ولجت الغرفة، كان أبي مسجى تحيط به أمي وجدتي وخالي محمد. عيناه بالكاد مفتوحتين، وقد تسمر نظره نحو السقف. الفم مفتوح مع غرغرة حشرجة. لاحظت جدتي تسكب قطرة عسل، لتليين فصل الروح عن الجسد مثلما فهمت بعد ذلك. الوقت زوالا، هكذا استمر الصراع من أجل البقاء، أربع ساعات تقريبا، لأني أذكر صبيحة ذلك اليوم وأنا أهم للمغادرة نحو المدرسة، لاحظت بذكائي الطفولي أن أبي يلح علي بملاحقة متكتمة، لم أعهدها من قبل، كأنه أراد اصطحابي أو إخباري بشيء ما، لكن لسانه لم يسعفه. صار حقيقة تلفظه شحيحا، يعبر أكثر بسيمياء وجهه، لاسيما حاجبيه و تقوسها الحاد حين الغضب. نظرة مختلفة تماما، تضمر مغزى معين، لم أستوعبه إلا بعد سنوات، وشرعت ذاكرتي بين الفينة والثانية، تجذبني من أذني قصد استعادة الوقائع، لكن مثلما أريدها أنا.
في الليلة الأخيرة قبل صباح الرحيل، هيأت أمي للعشاء طبق أرز بالحليب و الزبدة والعسل، أمدته بصحن فلم يأبه، ثم عاودت الكرَّة بملعقة ممتلئة وضعتها في فمه، لكنه أزاحها جانبا ممتعضا. شرع يهذي بكلام، غير مفهوم لم نفرز منه سوى كلمة واحدة :سنسافر.
-“إلى أين وجهة سفرنا؟”، بادرته أمي بالسؤال.
قابلها بنظرة فاترة، غير مهتم رافضا الإجابة، ثم حلق بعينيه ماسحا مختلف تفاصيل أبعاد البيت. لاحظتُه يململ شفتيه، كأنه في حديث خاص مع نفسه بهمسات غير مفهومة.
(4)
ملأت أمي ملعقة معتبرة من الأرز ثم وجهتها بحنو إلى فمه. تقبل هذه المرة سلوكها بأريحية، فأتى على الحمولة جملة وتفصيلا. شرع يمضغ، ويقلب الطعام يمنة ويسرة، لكن بدت عليه علامات العسر حين محاولته الابتلاع. اضطربت تقاسيم محياه، واتضح جليا أنه صادف صعوبة جمة في تمرير اللقمة إلى معدته.
أتأمل أمره باستغراب، و أستشعر في قيرورة نفسي خطرا وشيكا مجهول المصدر. حالته لاتطمئن عدوا.
استيقظتُ صبيحة اليوم التالي، متأخرا عن موعد المدرسة، بخلاف المعتاد، ربما هي دقائق نووية لكنها ستحرمني بالتأكيد من ملحمة فتح الباب، حيث لحظة الولوج الحاشد للتلاميذ، بكل اندفاعهم الصاخب، شكّل لدي طيلة سنوات الطفولة انتشاء يوميا لايعوض، ومرحا مكتملا طقسه في غمرة التدافع المرح والصراخ والقهقهات بالتسارع عبر مباريات الركض وجهة الأقسام، والأهم الإفلات من العقوبة المنتظرة من طرف حارس المدرسة، إن أخلفت الجماعة وربما تعقدت الأمر ووصل الأمر إلى ضرورة إحضار أحد الأوصياء.
ارتديت ملابس بسرعة على غير هدى، كيفما اتفق، تغض أمي في سبات أهل الكهف، محشورة عند زاوية في الغرفة. خرجت إلى وسط البيت، وهاجسي منصب بثقله على إيجاد فردة حذائي. اكتشفت بأن أبي مستيقظا على غير عادته، وقد صوَّب مجمل نظره نحوي، كأنه يريد الإدلاء بشيء ما لكنه عاجز. مادام قد فقد خلال الأيام السابقة، قدرته الطبيعية على التلفظ. لم أستوعب معاني تلك النظرة، بادلته ابتسامة خفيفة ثم غادرت.
حين عودتي بداية الظهيرة، اكتشفت ببساطة أبي جثة ممددة، تحت رحمة صوت فقيه يقرأ عند مسمعه آيات من القرآن، حينها تجلت لي بعض ألغاز نظراته الصباحية. يصارع الموت بإباء، تُسمع تبعات حشرجته. الفم فاغر بارتخاء، والعينان انطفآ وميضهما.
صرخت جدتي، في وجه خالي محمد :”هيا أسرع !وأحضر قليلا من العسل البلدي، يلزم سكب قطرات في حلقومه”.
أتابع المشهد، برهبة كبيرة. في نفس الوقت أحاول فهم حركات الجيران الذين تقاطروا على منزلنا. يقيّم كل واحد طبيعة الموقف بطريقته الخاصة، حسب درجات معرفته الخاصة بأبي أو فقط مجرد عابر سبيل. مادامت الطقوس الاجتماعية، لاسيما مع واقعة الموت، اقتضت هذا الالتئام غير المبرر في كثير من الأحيان.
جاء أبي إلى هذا العالم ثم غادره سريعا. لم يتجاوز عمره سن الثلاثين، حينما راكم كل شيء :هجرة من بلدته الصحراوية، دراسة، وظيفة، زواج، أولاد، صراعات، مرض، وفاة. بالتأكيد، سرعة قياسية.
رحل أبي، ولم أبلغ بعد سن السابعة، بالتالي لاأذكر سوى اليسير من حياتي بصحبته، لكني أحفظ بقوة تلك الوقائع الزهيدة، وحافظت دائما على طرواتها بين تلابيب ذاكرتي. أول ماوعيت حضور أبي، الفيزيقي والنفسي، أدركت ببداهة أنه ليس بخير، وتشغله هواجس كونه ليس على مايرام. غول يعبث بأعضائه دون رحمة.
شرع يفقد توازنه حين مشيه، يظنه الملاحظ من الوهلة الأولى سكرانا تستغرقه عربدة شديدة، كان حيز كتفي الصغيرين جدا، بمثابة عكاز، معتمدا علي في توجيه أبسط خطاه، كأنه أعمى، غير أنه حقيقة لم يكن قادرا على التماسك بتوازن. لم أتبين غاية اليوم، علة مرض أبي، وقد عجّل باختفائه نحو اللانهائي.
الجاهز لدى أمي، كلما استعدنا حيثيات الموضوع، جزمها أن أبي أصابه داء الروماتيزم. أحيانا أخرى، تروي رواية ثانية، مفادها حادثة سير قديمة تعرض لها خلال فترة بداية عمله صحبة مرافق له، عندما انقلبت بهما سيارة “جيب”عند منعرج خطير. صحيح أنه نجا من الموت، لكنه أصيب أسفل عموده الفقري إصابة ربما لم تشكل له عائقا كي يواصل حياته بشكل عادي، لذلك لم يبد الجدية المطلوبة، بخصوص تجربة من هذا القبيل. هكذا ظلت ارتدادات أثر الضربة، يتسع مكمنها رويدا رويدا، إلى أن أنهكته تماما.
صرت وأنا في مقتبل العمر، مرشدا لاغنى عنه، يعتمد علي أبي لمغادرة البيت في كل صغيرة وكبيرة، الحمام البلدي، الحلاق، السوق…إلى أن استنفد طاقته تماما وأضحى عاجزا عن مغادرة المنزل. تتشابك خطواته لولبيا، فتفقده السير ضمن خط هدف واحد، كأنه ثمل. نظرات المارة مسلطة نحونا، وقد اعتقدته غالبا مترنحا، في حين توخز آلام عظام أطرافه السفلى، واستمر الوضع كذلك إلى أن أقعده عن الحركة تماما، بحيث أنهى سنواته الثلاث الأخيرة من حياته فيما أذكر، قابعا في البيت، لم يعد يقوى على المغادرة، غاية لحظة وفاته.
لم يكن مزاجه قابلا للملاءمة، بل هو شخص شفاف جدا، يتكلم قلبه ولسانه لغة واحدة، بذات المرجعية، لذلك واجهته مشاكل عدة جراء افتقاده زئبقية دبلوماسية التواصل، سواء مع رؤسائه في العمل، وأمي أيضا.
كان أبي تقنيا بيطريا، ضمن مجموعة خريجي أول فوج في البلد، اختار أفراده هذا التخصص، غير المطروق قياسا لطب البشر. انحدرت أصوله من بيئة صحراوية، اتسم أهلها الأولون، أقصد قبل غزوات التقنية ثم العولمة، بطبع الطيبوبة المفرطة الأقرب حد السذاجة والشفافية المثلى، مع انقلاب ذلك في لمحة طرفة عين إلى شخصية مزمجرة ساخطة كليا، حين أبسط إحساس بالظلم.
غادر منطقته باكرا، قاصدا معهدا بمدينة مكناس، لدراسة الطب البيطري. فعلا نجح مسعاه، وصار طبيبا يهتم بصحة وسلامة الأبقار والأغنام و الجياد والمعز والكلاب ومختلف الكائنات التي تدور في فلكها. منتقلا بين القرى والمناطق البدوية، دؤوبا على اللامكان. لذلك ولدت أنا في منطقة، وأختي الثانية في منطقة أخرى، وأختي الصغرى أيضا في منطقة غير السابقتين.
هذا الترحال الدائم، كما استوعبت مع مرور الأيام، تبعا لأحاديث أمي، أثر بكيفية سلبية على مزاجها وبالتأكيد تحوُّل علاقتهما إلى مساحة محتقنة من الشد والجذب، لاسيما أن مختلف العوامل الموضوعية، حرضت على هذا الاتجاه :حداثة سنهما، افتقادهما لخبرة كبيرة بالحياة، حدّة مزاجهما، تصلب طبعهما، تباين تام على مستوى انتمائهما الاثني والاجتماعي والثقافي، إلخ.
كابد أبي في علاقاته مع مدرائه، لأنه صاحب مزاج لايعرف سبيلا إلى فنون المواربة وأساليب التمويه فمابالك بالنفاق الاجتماعي، فأدى تكلفة ذلك طيلة فترة انتمائه لسلك الوظيفة، إما بتدبيجهم لتقارير سيئة تبخس أداءه المهني والشخصي، مهما فعل، بل والزج به في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، بدعوى أنه مضطرب. قضى هناك شهرا، ثم حين المغادرة أجبر على اتباع وصفة طبية، تلزمه بضرورة تناول أقراص مهدئة، فاقمت على العكس حالته الجسدية والنفسية.
أذكر بهذا الخصوص، تواتر زيارة شخص تعرف عليه خلال فترة استشفائه. ربما كان بدوره منتميا للجسم الطبي، هل الحيواني أم الآدمي، لاأعرف؟أتى إلى بيتنا ضمن فترات متقاربة لزيارة أبي. يجلس معه طويلا، تستغرقهما أحاديث شتى، لم أكن أستوعب منها حرفا واحد. لكن ما أثار انتباهي أساسا إبانها، تلك الحركات البهلوانية المباغتة التي يرسمها ضيف أبي على سيمياء وجهه حينما يتكلم، تدفعني بعفوية طفولية إلى التمادي في بعث قهقهات متواصلة في حضوره، تحرج أبي حرجا شديدا، لأنه يدرك سلفا قصدها. ولتضليل اهتمام صديقه، يرفع أبي عقيرته أو يشرع في التثاؤب مبديا رغبة مصطنعة في النوم.
أراقب بدقة جل حركات وسكنات الضيف، لاسيما طريقة نفثه أدخنة سجائره المتعاقبة، الواحدة تلو الثانية، بحيث يبعث خيوطا من منخريه وفمه بطريقة بارعة، ترسم الأفق بلوحات هندسية مختلفة. عملية، يتجلى إيقاعها حسب درجة تذوقه لنكهة سيجارته. لاتتوقف عيناه عن ملاحقة امتدادات خيوط الدخان الهلامية المنبعثة بين طيات أنفاسه. يصمت قليلا، يلتقط من الطاولة علبة الكبريت بتقنية لافتة ويشرع في كتابة جمل بالفرنسية، أو يؤثتها بخطوط أشبه بالسومرية والهيروغليفية. يشرد لثوان عديدة وقد نسي تماما حضور أبي، الذي استهواه بدوره تأمل عميق غير مفهومة دواعيه، وقد أشعل بطريقة أرستقراطية سيجارة دون أن ينسى وضع مصفاة النيكوتين، لكنه مع ذلك ونكاية بصحته الهشة يتماهى بكنه سيجارته غاية سماع شهيقه.
تنتهي الجلسة السوريالية، ينهض ضيفنا مسرعا، دون سابق إنذار أو مقدمات موحية، كأن شيئا وخزه بقوة. يكتفي بلفظة”ciao”ثم يهرول نحو وجهة الباب، وقد خلف وراءه فوضى عارمة. شاي مسكوب على الصينية، أعقاب سجائر متراكمة بكيفية مقززة، وعلبة الكبريت قد انمحت هويتها السالفة، بعد أن غمرت إطارها رسوم غريبة تماما.
حالما يغادر، تحضر أمي على الفور وهي تلعن بكل لغات العالم صداقات مستشفيات المجانين، ونتائج الاتصال بعالم الحمقى والمغفلين. يحاول أبي التخفيف من روعها، بكلمات مطمئنة من قبيل ضرورة احترام الضيف وواجب الضيافة، ثم مبدأ رفع القلم عن المجنون، والمجانين كالأطفال، والأطفال أحباب الله، ولولا المجانين والحيوانات والأطفال لما سقانا الله مطرا…
تنظر إليه أمي باستخفاف، وتهمس مع نفسها بكلمات لاتكشف عن معانيها غير إيماءات وجهها.
جدتي من أبي، لم تكن تزورنا سوى لماما، لأن علاقتها بأبي تعرضت لهزة عنيفة، جراء زواجه “الليبرالي” من أمي، مادام قد كسر القاعدة الجاري بها العمل داخل قبيلته، بحيث يجدر به الارتباط بامرأة تنتسب لنفس المنظومة العشائرية، ويستحسن أكثر انحدارها من أقرب الأقارب، يعني أبناء الأعمام أو الأخوال، غير أن أبي الذي غادر قريته مبكرا، انفصل تماما عن المنظومة المتسيدة أو ربما لم يتمثلها أصلا مادامت أواصر صلته بمنطقة مولده، انتهت قبل بدئها، محاولا أن يختار لنفسه طريقا مغايرا لما أراده والداه.
جلست جدتي يوم وفاة أبي وسط الوافدين على بيتنا الصغير، ثم افترشت سجادة، وأخذت قماشا في يدها، تلوح به وهي ترثي سيرة وجود لم يكتمل، وفق ميلوديا تثير بنبراتها الضحك أكثر من البكاء. لم يكن السرد بالحبكة المناسبة، لكنها حاولت الإشارة في لمحة موجزة مختلف تفاصيل رحلة أبي خلال تلك الفترة الوجيزة التي قضاها في هذه الحياة.
توقف نبض أبي. دفن في مقبرة الحي.
دأبتُ على زيارة المقبرة لسنوات كل يوم جمعة صباحا باكرا بعد صلاة الفجر، وخلال الأيام المقدسة شعبيا. مرة بمفردي، مرة أخرى برفقة أختي أو جدتي. بعد فترة بدأت أظهر كسلا.
ذات مرة، وأنا بصدد تصفح جريدة محلية، استرعى انتباهي خبر مفاده أن الشرطة تمكنت أخيرا من إلقاء القبض، على مجهول يسرق من المقبرة التي دفن فيها أبي، وللمصادفة !الشواهد الرخامية المنقوشة، ويترك القبور مبعثرة في أسوأ حالاتها.
قررت الذهاب إلى هناك، حتى أطمئن على مصير قبر أبي. قصدت المكان المحدد مستندا على توجيهات ذاكرتي القوية. لاحظت من الوهلة الأولى انقلابا كبيرا في بنية المدفن، وقد تداخلت القبور بكيفية عشوائية.
نعم، متيقن بأنها الزاوية التي تضم قبر أبي. أعدت البحث مرارا وتكرار، طويت نفس الأمتار جيئة وذهابا، غير مامرة وأنا أعيد بتؤدة العجائز تهجي أسماء القبور. بعد جهد جهيد، تأكدت على وجه اليقين، أن شاهدة قبر أبي ضاعت وضاع معها رفاته للأبد، وافتقد أيضا هويته كميت. فهل رفض موته مثلما تنصل سريعا من حياته؟
ربما، مرَّ ذات يوم، من هنا؟
لا أدري حقيقة.