نص مقتحم لحدود الأجناس ببراعة الممتنع عن البوح بأسرار فنه المقدس ، تأخذك اللغة الشعرية الغنائية، فتردد بتمتع ما تقع عليه عينيك لتشرك أذنيك ما أذهل عينيك من قبل ، فتردد المقطع تلو المقطع وكأنك تلقي قصيدة شعر أسيانه ، ثم تتوقف فقد وقعت لتوك في شرك أراده الكاتب المجيد ،فقد أنساك ببراعة أنك تقرأ رواية وليس قصيدة ، فتفكر مليا فى روعة السرد الحكائي المنسوج بحرفية عالية لتتشابك مصائر الأبطال في حبكة روائية متصاعدة نحو ذروة مبتغاة.. ؛ ليتوقف السيل الغنائي الشعري و السردي الحكائي ليسلمك إلي التقريري على صورة تقارير أمنية
أو مقالات صحفية لتحكي عن نشأة التنظيمات الإسلامية الراديكالية و جذورها التاريخية و توصيف لمعسكراتهم التدريبية ، وكيفية مواجهة الدولة لها ما بين التعايش و الاستثمار ثم المواجهة الدموية ، وخطط مخابرات الدول الكبرى في استيعاب تلك الصراعات القائمة بين التنظيمات و الدول و توجيهها لصالحها، و أخيرا صور القتلة و بيانهم، و البوليسي في كيفية التجنيد و تسليم التقارير في أجواء تآمرية مريبة تشعرك بأن كلا الطرفين مجرد عرائس تحركها قوى خفية غير مرئية، ومنولوج صوفي يبدأ مع طيف عازف العود وسرعان ما يختفي، وبحيلة موحية ينتهي كل فصل بكلمة ليبدأ الفصل التالي بذات الكلمة دلالة على تشابك المصائر و إن اختلفت الأماكن و المشارب و الاتجاهات لكل شخصية من شخصيات الرواية، في تنويعات متباينة الحزن كعازف ينتقل من مقام الصبا الحزين الأسيان إلى مقام النهاوند حيث البحث الضائع عن سعادة هي عين السراب هكذا يعزف هاني القط بيراعه ما بين وليام الشاعر الإنجليزي الحالم ، هكذا يدفعه قدرة إلي معانقة رصاصات الكلاشنكوف- المطلسم و المغلف بتأويلات الأصولية الإسلامية الراديكالية بمذبحة الأقصر الشهيرة- والتي يصوبها سعيد القاهري ضعيف الثقافة و التعليم المنسحق بين طغيان أولئك الذين ظنوا أنهم جندوه لصالحهم ضابط المخابرات الداخلية (أمن الدولة في عهد الرئيس مبارك) و الشيخ العائد من معسكرات الجهاد الأفغانية…ما بين وليام و سعيد تنجدل المأساة، وكل في ضفيرة خاصة منجدلة مع الأخرى لتظهر التفاصيل رويدا رويدا عن طريق “الفلاش باك” البارع في انسجامه و رشاقته ، والآن الوقتي هو معاناة الاحتضار لوليام و تمدد سعيد في ثلاجة الموتى ، لتشكل مأساة الإنسان الأوروبي المتخم بالرفاهية و الباحث بعناد عن قصيدة شعر كاملة لا يسمعها أخيرا إلا ساعة احتضاره بلغة الموتى في عالمهم وسط تماثيل المعبد الجنائزي الغربي المتفرجة بذهول سلبي، وطعنة هجر زوجته جانيت عقب خيانته لها مع الصحفية جاسمين، وحزن قدري يحيط به من كل جوانبه، ومأساة الإنسان العربي /المصري -تحديدا-المثقل بأولويات الحياة البدائية من جنس عز عليه ، فبحث عنه في زحام الحافلات المكدسة و محاولة الهروب من وطأة استبداد الواقع ، وتأمينه الصعب لحاجاته من الطعام و المسكن و العلاج لأمه، و فقر مدقع توارثه من أبيه الغارق في بالوعة مجاري بحثا عن شبشبه البلاستيكي الفقير، وشعوره بتهميش اجتماعي صارخ “لم آت إلي الدنيا سوى لأكتب في دفاتر المواليد ثم دفاتر الموتى”، وزواجه بزينب إحدى زوجات (المجاهدين) القتلى ، و صدمة سعيد باكتشافه علاقتها القديمة مع حبيبها القديم ، وعلى الرغم من طهارة علاقتها مع حبيبها القديم التي لم تتعد مقابلة على كرسي متحرك تفيض روحها على إثره بخلفية صوت “حليم” الشجي من راديو الترانزستور الفقير ، إلا أن معرفته بذلك يزيده كراهية للحياة و للبشر …، مثلثان رأس أحدهما وليام وقاعدتاه جانيت و جاسمين، والآخر رأسه زينب وقاعدتاه سعيد و أحمد الرفاعي ..ليقابل سعيد أحمد الرفاعي المرشد السياحي للضحايا، ويقتله ثم يمثل بجسده ، و تقابل جانيت زوجها المهجور وليام على فراش موته ،طوال الرواية حينما نتقابل مع مالك الإدريسي – وهو الجراح المكلف بمتابعة حالة وليام والذي قابله عرضا على سفح الأهرامات و قضى معه الليلة بأكملها – ونعلم بقصة حبه المبتورة و المفقودة في لندن ، ثم نقابل جانيت وتخبرنا في حوار داخلي عن حبيبها العربي نتوقع كونهما الحبيبين السابقين حتى نهاية الرواية و حينما تقابل جانيت الإدريسي- يصافحها الإدريسي ويعلق “كم تشبه عينيك عين حبيبتي المفقودة”
يلقي هاني القط بالأحجية تلو الأحجية في بدايات الرواية، ثم ليظهر الحل رويدا في بقية تفاصيل الحبكة في لحظات تنوير متفرقة ، ..وعلى سبيل المثال ..دائما تحضر صورة “زينب” التي تموت على كرسيها في مخيلة أحمد الرفاعي ، خاصة بعد إتمام ليلته الأولى مع سارة إدوارد، كنوع من تأنيب الضمير على خيانته لحبيبته الأولى…ثم يحل اللغز في الساعة الأخيرة من حياة ” زينب” ..وهكذا كل الأحاجي ، عدا تلك الأحجية وهي العلاقة المتوقعة بين الإدريسي و جانيت قبل زواجها من وليام هل هي خدعة أوقعنا فيها الكاتب ببراعة ليوقعنا في حيرة ما تشبه متاهة متداخلة ؟!! أم لمحاكاة الحياة فليس لكل الأسئلة إجابات و ليس من لقاء توفره الحياة دائما لكل حبيبين فرقتهما الظروف ..، ليست كل نهايات القصص كقصة الرفاعي و زينب يلتقيان لقاء أخيرا ليفترقا ، بل هو الفراق بداية و نهاية و لا شئ سوى ذلك في تلك المتاهة القدرية التي يحاكيها كاتبنا القدير بكل براعة .
يتأرجح سعيد كبندول محتضر بين أمير الجماعة و ضابط المخابرات ، لتتولد الحكايا الثانوية زينب ، الرفاعي ، سارة إدوارد، جانيت، مالك الإدريسي ، ،جاسمين، عازف العود العجوز، موظف الإستقبال ، مقطوعات متوازية حينا و متداخلة حينا من عزف جماعي حزين ، كلهم يعرفون قدرهم مقدما على شكل نبوءات تهمس في آذانهم كوساوس قهرية لا يملكون إزاءها سوى الانصياع المستسلم ، ليسيروا في مساراتهم ولتتشابك المسارات ناسجة ذلك النص الكفكاوي الكابوسي الشعري السردي متعدي الأجناس المتقاطع مع نصوص المأساة الإغريقية، المنصاع أبطالها أيضا باستسلام لأقدارهم المفجعة، تنتهي الرواية بحوار روحي بين وليام وجانيت يؤكد على ترابط المصير بين القاتل والقتيل تخبر روح وليام جانيت ” مشغول بقاتلي الذي كانت في عينيه دموع متحجرة، وهو يمثل بجسد دليلي بأبشع ما يكون ، إن وحشا اشتعل في جسده كان يعاتبه في اسم امرأة، سأبحث في شقوق الأرض لأعرف اسميهما واسم قاتلي،و أدون حكايتهما إلى جوار حكايتي…” ليؤكد وليام تسامحه ، وليرسخ هاني القط لخطاب محبة نحن في أحوج ما نكون لترسيخه في هذه الأيام العصيبة التي يمر بها الوطن الحبيب.
“رايات الموتي” هي العمل الثاني للروائي المصري هاني القط بعد روايته ” سيرة الزوال” والتي انتقل بها من الرواية الفلسفية التجريدية المنتمية بجدارة لتيار الشعور لصاحبته المؤسسة “فرجينيا وولف” إلى العمل الروائي الواقعي البعيد عن التجريد الفلسفي كما في “سيرة الزوال” مع بعض رتوش الغرائبية المنتمية إلي الواقعية السحرية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري