رئيسة لجنة مكافحة الشيوعية العالمية!

ragab saad alsayed
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رجب سعد السيد

= إنت شيوعي؟

كنت أجلس على سلم مدخل مبنى كلية العلوم بالشاطبي، أراجع بعض الأوراق قبل الدخول إلى مختبر الكيمياء. جلستْ إلى جانبي، وسألتْ (إنتا شــيوعي؟). نفيتُ. عادت تسألُ (طيب.. إيه حكاية البلوفر الأحمر اللي ما بيتغيرش؟!). في بساطة شديدة، رددتُ (ما عنديش غيره). قهقهت، كأنها سمعت نكتة.
مساء اليوم التالي، سارت إلى جانبي حتى محطة الترام. قبل أن تركب الترام وتغادر، باتجاه سيدي جابر، ناولتني كيساً ورقياً، وقالت مبتسمة (أنا رئيسة لجنة مكافحة الشيوعية العالمية!).

جلستُ على المقعد الحجري بالمحطة، قبل أن تصل ترام اتجاه محطة الرمل، وفتحت الكيس. كان به (سويتر) أنيق، رمادي اللون.

إنتقلتُ من المرحلة الحمراء إلى الرمادية، وأصبحت الشتاءات أدفأ. وقبل أن نتخرج بشهور قليلة، إغتالها سرطان في إصبع قدمها.
كانت رئيسة لجنة مكافحة الشيوعية العالمية !

 

= رجـب.. إنتا مسيحي؟

راحت المعيدة، في مختبر الطلاب، بقسم (علم الحيوان)، تسجل أسماء مجموعات المتشاركين في درس التشريح. وكانت كل مجموعة مكونة من اثنين من طالبات السنة الأولى، مجموعة البيولوجي، وطلابها. إنتظرتُ أن يعرض عليَّ أحدٌ مشاركته، فلم يحدث، حتى بقيت أنا وحدي. فجأةً، دخلت (رئيسة لجنة مكافحة الشيوعية العالمية)، وراحت تعتذر عن تأخرها للمعيدة المشرفة على الدرس العملي، التي أشارت إليها، وإليَّ، وقالت: (إنتى وهُوَّا مجموعة).

جلستُ أمامها وبيننا، على طاولة المختبر الممتدة كمستطيل ناقص، ككل المجموعات الأخرى، وعاءٌ مملوءٌ لمنتصفه بالشمع الذي يغطيه الماء. لم أفتح جرابَ عدة التشريح، بينما راحتْ هي ترتبُ أدواتها أمامها. مرَّ علينا أحد العمال، يوزع علي كل مجموعة ضفدعاً حياً. مدتْ هي يدها وأخذته منه، وراحتْ تُخدِّرَه، حتى خمدتْ حركتُه تماماً.

أشارتْ إليَّ أن أبدأ، فرفعتُ كفيَّ معتذراً. بلا تردُّدٍ، بدأتْ تعملُ، فمَدَّدَت الضفدعَ على ظهره في الوعاء، وثبَّتتْ أطرافَه الأربعة المشدودة تماماً. عادتْ تعرضُ عليَّ أن أبدأ العمل بأن قدَّمَتْ لي مِشرطاً، فعدتُ أعتذرُ بنفس الإشارة، فانطلقتْ بكل ثباتٍ تشقُّ بطنَ الضفدع. قالت لي (خللي بالك.. في حالة الجهاز العصبي نفتح من الضَهْـر..). وبعد أن انتهت من تسليك الأعضاء الداخلية، قالت لي (ثبِّتْ إنتا الـ فلاجز، بَقَى..). قلتُ (حاضر)، وشمَّرتُ ساعديَّ، ورحتُ أُثبِّتُ الدبابيسَ المشبوك بها وريقاتٌ مكتوبٌ عليها أسماءَ مُختلَف مُكوِّنات أحشاء الضفدعة.

فاجأتني رفيقةُ التشريح، تسألُ (رجـــب.. هُــوَّا إنتا مســـيحي؟!). وكانت تشيرُ إلى أثرِ جراحة قديمة، غير مُتقنة، على سطحِ بدايةِ رُسْـغ يدي اليسرى !. سألتُها بدوري (إزاي أكون رجب.. وإزاي مسيحي؟!). وفسرتُ لها (أصدقائي المسيحيين بيدقوا علامة الصليب على باطن الرسغ، موش على ضهره). قالت (كنت أحاول تخفيف عصبيتك من الضفدعة الميته!).

وفوجئنا برأس ثالثة تتهابطُ بين رأسينا. كانت المعيدة تقترح: (موش الأحسن ترسموا تشريح البوفو ريجيولاريس علشان أدِّيكوا عليه الدرجات؟!).

 

= إنتا شاعر جبَّار..وأنا أعظم قصائدك..

رتبنا معاً فوزها بعضوية اتحاد الطلبة عن سنة أولى علوم؛ ثم أدرنا مؤامرات صغيرة، غير مؤذية، فانتُخبتْ أميناً للجنة الثقافية في اتحاد طلاب الكلية. اقترحتْ أن نُصدرَ معاً مجلة حائط. قالت (عايزاها مجله مجنونه.. يلعن أبو الجمود). طلبت مني أن أكتب كلَّ محتويات المجلة، وأن يتصدرَها إسمانا كمسئوليْن عنها. صممت هي لوحة المجلة مطراً مدراراً يملأ جنباتها. سألتها (عندي قصيدة بنت كلب مجنونه)، راحت تضحك بشدة حتى خفت عليها أن تسقط. قالت (وَرِّيني.. كل يوم باكتشف فيك شيئ جديد). أعطيتها الورقة. راحت تقرأ، صامتةً أولاً، ثم في صراخ تردد في ركننا الأثير تحت شجرة تين بنغالي مُسنَّة، قرب آثار باب قديم للإسكندرية، في حدائق الشلالات. أعادت تلاوة القصيدة القصيرة مرة أخرى، من خلال دموعها:

جِلْـدٌ.. جِلْــدٌ.. جِلْـــد…(*)

(جُلودُنا ثيابُنا الزاهيه، أو ثخينة الجراح الكابيه..

كاسيةٌ مانعةٌ واقيةٌ ساتره

فالحياةُ جلدٌ، والهلاكْ

ومذاقُ المتعة، وتدابيرُ شِـراكْ

“إجلدْ!”..

إن الجلدَ يُشكلُ إسمَ الجلاد وصفته

ونعيقَ الطغيان وسوطَه

يرسمُ لسكارى العشق علامات الميدان

فيخترقُ البعضُ خطوطَ البعضْ

والجلدُ حقيقتُه اللعقُ، العضُّ، الفضْ

الجلد حصير الأرضْ)

وقدَّمت لي بشرةَ صفحة وجهها، لتقطف شفتاي كُمِّثـرات عبراتها المُقطَّرَة الدافئة. وقبَّلتْ هي شفتيَّ، وقالت (قصيده حلوه جداً.. إنتا عاشق فظيع وشاعر جبَّار.. لكن أنا اللي ح اكون أعظم قصايدك).

 

= إنتا ابني اللي ما حبلتش بيه..

تغلب عليَّ النعاسُ وأنا في مقعدي، على بعد 77 سنتيمتراً من وسادتها. فتحتُ عينيَّ، فكانت ابتسامتها تقول لي (صح النوم). مدتْ كفَّها لتلمسَ أصابعي، وهمستْ (إنتا ابني اللي ما حبلتش بيه.. رضعت من بِزِّي.. تِنْكِرْ؟!). وراحت الابتسامة، وانطبقتْ برفقٍ شديدٍ جفونُها التي كانت لا تزال تحتفظُ بالرموش الطويلة. ورحتُ أحاولُ مُدافعةَ النعاسِ، حتى ألحق ببداية مجيئها التالي إلى الحياة؛ فأجهز عليَّ النعاسُ. وانتفضتُ مع تصاعدِ أصواتٍ مُكَبَّـرَةٍ إلى أقصى حد، ومتنافرة جداً. كان الفجرُ يحلُّ. كانت عيناها مفتوحتين، وشفتاها مذمومتين. حاولتُ أن أخفف انفعالي (مكبرات مؤذية.. كأنهم امتلكوا الفضاء). همست (ما يهمش.. أخـدْت عليها). وطلبت ماءً، بللتْ شفتيها ببعض نقاط منه. قالت (رجب.. يا حبيبي.. وزوجي.. ووليدي). أجبتُها وأنا أُغادرُ المقعدَ وأجثو لألامسَ صفحةَ كفِّها مُتْقَنَةَ الصنع بخدي الأيمن (عايزه إيه يا جنية بحري اللُّجيّ؟!). فحاولتْ أن تحكَّ كفها بخَـدِّي. قالت (قبل الأدان، لقيتني خايفه على جمال). قلت باختصار(من إيه؟.. ما تخافيش عليه.. دا جمل). ثم حاولتُ أن أداعبها، فزدتُ (لو كان يعرفِـك، كان اعتقلني عشان ياخدك مني!).

فابتسمت أوسع ابتسامة عرفتها شفتاها في الأيام القليلة المريرة الماضية.

وحسبتها عادت فغابت، فعدتُ إلى جلستي، فلم تمض دقائق قليلة حتى حرَّكتْ جفونَها، ونادتني بطريقة جديدة أدهشتني، قالت (رجب يا ابن سعد يا ابن السيد). قلت محاولاً أن أقتبس شيئاً من طلاوتها (السمع والطاعة لسيدة جنيات البر والبحر). قالت (ما تكسفنيش وترفض طلبي). قلت (لا أجرؤ). قالت (قوم اتوضا وصلي الفجر.. إنتا موش زي ما انتا فاكر. إنتا عيّل غلبان!).

……………………………..

(*) قصيدة لكاتب القصة، وقت أن كان يكتب الشعر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي.

مقالات من نفس القسم