ذكريات ضالة .. رحلة في متاهات الطفولة
شريف متولي
تبدأ الرواية بدايةً غير تقليدية بالمرة ، مُتابع من متابعين الكاتب "عبد الله البصيص "على موقع (تويتر) يرسل له رسالة مضمونها أنه يريد أن يقابله شخصياً ، يتجاهل الكاتب الرسالة في البداية لأنه مهما كان فأيّموقع للتواصل الاجتماعي الاحتمال الأكبر أنه مليء بالمازحين والراغبين في تقضية الوقت والتسلية حتى وإن كان بالعبث في أوقات الغير.
بعد تجاهل الكاتب في البداية ،يكرر المرسل رسالته مع تغيير المضمون في كل مرة كي يثبت للكاتب جديته وأنه يرغب حقاً في لقائه لأنلديه ما يريد أن يحكيه للكاتب . المهم ،وبعد تفكير في العرض،يدرك الكاتب أن إصرار المتابع يستحق بعض الاهتمام وأن لا بأس بالتجربة ومقابلته ليرى ما يريد
يقابل المجهول الذي راسله، يكتشف أنه قعيد ، يدور لقاء صغير بينهما ، خلاله يقوم المراسل القعيدبتسليم الكاتب مجموعة أوراق تضم قصةًما ، يخبره أنها قصة واقعية مرّبها ويريد من الكاتب – عبد الله البصيص ــ أن ينشرها بأي وسيلة ليطّلع عليها العالم كله ، وأنه لا يطلب من وراء نشرها شهرةً ولا مال ، يتعجب الكاتب من العرض والطلب ويتردد في البداية ، ثم يقرر أن يعطيهالفرصة بقراءة الروايةأو القصة أولاً ثم ينظر في أحقيةما كتبه للنشر .
وتبدأحكاية الرجل المجهول، الذي نكتشف من قصته أن اسمه " سالم " ويعمل في قطاع الشرطة، سالم وباقى طاقم العمل مشغولين على مدار خمسة أعوام بمطاردة مجرم واحد ، هذا المجرم يُدعى " المنشار " ، وهو لقب اكتسبه من عامة الناس ، اكتسبه لما يُقال ويُحكى عنه من أساطير وحكايات ، فهو المجرم الذي يطبق العدالة الحقيقية ، فيسرق من الغني والفاسد ليعطي الفقير والضعيف، وله أسلوبه الخاص في تنفيذ ذلك ، فهو يبتعد عن العنف إلّا إذا اضطر لذلك - وفي الغالب لا يضطر - وبعد أن يتم جريمته يعتذر لمن جنى عليه باحترام ويخبره بأن هذا ما يجب أن يحدث لكي تستقيم الأمور كما يجب أن تكون ، أو يترك له جواب اعتذار إن لم يكن موجوداً . وفي الخلفية نجد الشرطة في موضع حرج أمام المجتمع وأمام نفسها ، فهذا المجرم يتحول مع مرور الأيام إلى أسطورة تنصر الضعيف وتقهر الفاسد المستبد
حتى يأتي اليوم الذي تأتي إخبارية فيه لـ "سالم" بأن تم القبض على "المنشار"، في تلك اللحظة كان " سالم " غارقاً في عالمه الخاص ، حيث المجون والعربدة والدعارة والسُكر وكل ما لذّ وطاب من الآثام .
ينتفض " سالم" ويستفيق من سكرته على وقع الخبر ، فهاهو المجرم، الذى مرمغ سمعته وسمعة قطاع الشرطة في الأرض على مدار خمسة أعوام في التراب ، يقع أخيرا في الشرك ويتم القبض عليه ، ياله من يوم تاريخي سيحتفل فيه هو وكل زملائه في المركز احتفالاً من نوعٍ خاص ، احتفال ستكون فقرته الوحيدة والرئيسية هي فقرة "المنشار" في الحجز
فور وصوله إلى المركز، يجد المنشار مكبلاً وقد تم تهيئته بالضرب والتعذيب كما ينبغي أن يكون استعداداً لقدوم الكبير "سالم"، يهم سالم بالانقضاض عليه هو وبقية العصابة من الضباط والجنود ، يتناوبون في تحطيم عظامه وسحقها . ولكن ، وفي لحظة استراحة قصيرة يتناولون فيها القهوة لكي يستعيدوا لياقتهم مرة أخرى ، وبينما يتأمل " سالم " وجه "المنشار" المزعوم ، تنتفض بداخله الهواجس ، يشعر أنه رأى هذا الوجه من قبل ولكن لا يتذكر أين ومتى؟ يبادره "المنشار" بالكلام ناطقاًباسمه ، وهنا ، تنهار أسوار الذاكرة المنيعة التي تمنع" سالم" من التذكر، وينهار سالم مغشياً عليه فور تذكره لهيئة من يجلس أمامه ،
إنه"حميد شاكر"
حتى هذه اللحظة ، قد تبدو الحبكة مملة ومكررة ولا طائل منها
ولكن لا تتعجل عزيزي القارئ، لا تتعجل في الحكم
فما هذه سوى مقدمة
حسناً
ومن هو حميد شاكر هذا ؟
من هنا تبدأحكاية أخرى ، ألا وهي الرواية نفسها
ينقلك الكاتب إلى عالم الذكريات ، حيث البداية ، حيث الطفولة بمتاهاتها
بدايةً من نشأة "سالم" في أسرةٍ مفككة تعاني اضطرابات عائلية وشجارات تدور على فترات متفرقة بين والده وأمه ، وتتفاوت عواقبها بين الصياح والخناق فقط، وبين هجر البيت لشهور ، فتتأثر نفسية " سالم " ويبدأ في التشوه الداخلي تدريجياً ، وبالتدريجينعكس تشوّهه على ما حوله ، بدايةً بعلاقته مع أصدقاء السوء - المشوهين نفسياً أيضاً - والذين لا يجدون لذةً في الحياة إلا في مطاردة الكلاب الضالة ليس لتعذيبهم والتسلّي بإيلامهم فقط ، ولكن لقتلهم .
ثم ينتقل إلى علاقته مع أبيه التي انحصرت في علاقةٍ جوفاء عمادها اللقاء الصباحي قبل المدرسة واللقاء المسائي قبل النوم وهذان اللقاءان لا يسمنان ولا يغنيان من جوع لعاطفة الأبوة و ينحصران على تبادل السلام فقط تماماً كالأغراب . والد سالم شخصية عجيبة وغريبة وتبدو شاذة للوهلة الولى، لا يشغلها سوى تربية الحمام فوق سطح المنزل ورعايته أكثر من ابنه نفسه، ولكن في النهاية نكتشف أن وراء هذا الوجه البائس والشخصية السيكوباتية شخصاً آخر، شخص مازال بداخله نخوة ندر وجودها في هذا الزمان
أما بالنسبة لـ" أم سالم "فهي بريق النور الوحيد المتبقى له في حياته وهي التي تعينه بقدرٍ ما على تحمل الحياة البائسة التي يعيشها. تمر الأيام وينتقل للسكن بجوارهم "حميد شاكر" مع والده وأمه و أخته "صفاء" التي أحبها "سالم" حباً طفوليا من أول نظرة، تتوالى الأحداث والمواقف التي نكتشف من خلالها مدى قوى شخصية "حميد" التي ملكت عقل "سالم" لدرجة أن سالم رأى فيه المثل الأعلى الذي يتقرب منه احيانا ويشعر بالغيرة منه أحياناأخرى
ينجح الكاتب في رسم عالم الطفولة وما يدور داخل عقول الأطفال بمنتهى الحرفية والإتقان ،من تصوير بديع للحب الطفولي ، إلى الشقاوة والعبث والنمو التدريجي جسمانياً وعقلياً وانعكاس ذلك على تصرفات الطفل ، ورغم قلة التفاصيل داخل الرواية إلا أن في قلتها سحراً خاصاًوجمالأ يدركه من يجلس أمام الرواية لساعات متواصلة وهو غير قادر على الفكاك من سحر جاذبيتها
وتمر الأيام بأحداثها في عالم الأطفال خلال الثلثين الأولين من الرواية ، نتابع فيهما تطور شخصية "سالم" وتشريحها النفسي بناءًعلى ما يحيط به ، وكل ذلك يرويه سالم من ذكرياته الضالة كالكلاب الضالة التي عشق قتلها وهو صغير
تدخل حرب الكويت والعراق في سياق القصة قرب النهاية ، ويأتي ذكر هامشي لمشكلة "البدون" الكويتية ومايعانون منه من ضغط نفسي واجتماعي . الرواية بأكلمها قطعة فنيةجميلةتحمل بين طياتها فكرة عميقة ، يعيبها فقط من وجهة نظري النهاية التي جائت سريعة إلى حد ما، بالإضافة إلى بعض الأمور التي لم يتم تفسيرها بالشكل الكافي ، فخرجت النهاية مبتورة بعض الشيء
الأسلوب كان من أعذب وأجمل الأساليب التي قرأتها
ومادام الأسلوب عذباً فمن البديهي أن تجد اقتباسات فلسفية وتشريحية عن النفس البشرية والحب والجمال ، كلها من أجمل ما يكون
يبدو أن هذه سمة رئيسية في الأدب الكويتي ، فهنيئا للكويت بكُتابها وكفى بهم نعمة
إجمالاً، "ذكريات ضالة " رواية جميلةرغم بساطتها، مليئة بالمعاني الإنسانية، استعرض الكاتب فيها قدرته البارعة على السرد والتحكم بالقارئ وجذبه للعمل من البداية للنهاية ،رسم عالم الأطفال بحرفية بعيدة عن السذاجة والتصنّع ، وأجاد التشريح النفسي لتركيبة الطفل وتأثير ما حوله عليه وعلى تفكيره ونضجه ، كل ذلك مقروناً بقصة تحمل بين طياتها الجمال والبراءة وفي نفس الوقت الحسرة والألم على الواقع البائس الذي يرفض أن يتغير ويصمم على تكرار نفسه!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري