د.محمد السيد اسماعيل: الشعر فن صعب وغير متاح طوال الوقت

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورته: رشا حسني

تتعدد الزوايا التي يمكن أن نقارب من خلالها المشروع الإبداعي والنقدي للدكتور محمد السيد إسماعيل، صحيح أن الشعر اقتحمه مبكرا جاذبا إياه منذ مطلع الشباب نحو عوالمه الرحبة لكن اهتماماته النقدية سرعان ما ظهرت أيضا منذ التحاقه بكلية دار العلوم التي تخرج فيها عام 1982 ولم يكن غريبا أن يدعم تلك الاهتمامات بمواصلة الدراسة الأكاديمية حتى حصوله على الدكتوراه فى الدراسات الأدبية بمرتبة الشرف الأولى.

وبرغم عدم امتلاكه ترف الوقت أوالتفرغ للابداع فقد أنجز الدكتور اسماعيل عددا من الدراسات والكتب النقدية المهمة منها: “رؤية التشكيل قراءات تطبيقية فى القصيدة الحديثة”، “الحداثة الشعرية فى مصرمن  1945إلى 1973″، “بناء فضاء المكان فى القصة العربية القصيرة”، “غواية السرد”، “الخروج من الظل.. قراءة فى القصة النسائية فى مصر”، “شعرية شوقى..قراءة فى جدل المحافظة والتجديد” بالإضافة لكتابه الأشهر “الرواية والسلطة”.

كما اصدر نحو خمسة دواوين شعرية هي: “كائنات فى انتظارالبعث”، “الكلام الذى يقترب”، “استشراف إقامة ماضية”، “تدريبات يومية”، “قيامة الماء” فضلا عن أعماله المسرحية: “السفينة”، “زيارة ابن حزم الأخيرة”، “وجوه التوحيدي”، و “رقصة الحياة”.

وبالإضافة لهذا التنوع في الإبداع يحرص د. اسماعيل”على المشاركة الفاعلة في متابعة الحركة الإبداعية والتصدي نقديا لكثير مما يستحق إلقاء الضوء عليه. في حوارنا مع الدكتور محمد السيد اسماعيل ناقشنا كثير من تلك الزوايا المتعددة لمشروعه الابداعي النقدي المتكامل.

– اقتربت فى كتابك ” شعرية شوقى…قراءة فى جدل المحافظة والتجديد” من عالم أحمد شوقى بمحبة وموضوعية وتناولت عالمه الشعرى من زاوية “بنية القصيدة ” بمعزل عن حياته الشخصية السياسية وهو اختيار يثير الدهشة خاصة وأن كثيرا من شعراء قصيدة النثر لهم موقف مغاير من التقليدى والمدرسة الإحيائية على وجه الخصوص كيف ولماذا اخترت ذلك؟

أستطيع القول إننى – رغم انتمائى لشعراء التفعيلة وقصيدة النثر – شديد الإعجاب بشاعرية شوقى ولا أمل قراءته والرجوع إليه دائما وأراه موهبة فذة نادرة التكرار فى الشعر العربى ولا يهمنى فى هذه الحالة أنه شاعر كلاسيكى أو إحيائى ورفض بعض شعراء قصيدة النثر لشوقى أو للكثيرين من كبار شعرائنا هو مراهقة شعرية فليس من المنطقى أن أرفض المتنبى أو المعرى لمجرد أننى أكتب بصورة مختلفة عنهما ولن يتطور شعراء قصيدة التفعيلة والنثر إلا بتمثلهم الواعى لتراثهم البعيد والقريب. ورغم كثرة ما كتب عن شوقى فقد لاحظت أنه وقع بين نقيضين لم يقتربا بموضوعية من شعره: الذى يمجدونه حد التنزيه عن كل عيب والذين يسلبونه شاعريته وأصالته ويرونه شاعرا تقليديا يجتر أصوات أسلافه والعقاد أشهر من اتخذ هذا الموقف المجحف من أجل هذا قررت الاقتراب من شوقى دون أحكام مسبقة واضعا إياه فى سياق عصره ودارسا فى الأساس لبنية القصيدة عنده مستبعدا مواقفه السياسية التى لا نقره على بعضها مثل موقفه من الخديو أو عرابى فلهذا درس آخر غير النقد الأدبى الذى ينبغى أن يكون الشعر فحسب هو غايته ومجاله الحيوى.وأعتقد أن توقفى أمام بنية القصيدة عنده هو الذى كشف لى تنوعه و عمق موهبته النادرة وأصالتها.

– هل تفصل بين انحيازاتك كشاعر وكناقد؟

الفصل التام شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلا فالشاعر والناقد داخلى يتبادلان التأثير والتأثر، لكننى أومن أن الشعر متعدد ولا تقتصر الشاعرية على شكل واحد فمن يستطيع أن يقول إن البردونى وصلاح عبد الصبور ومحمد الماغوط ليسوا شعراء كبارا رغم اختلاف رؤيتهم للشعر وشكل كتابته، بهذا الفهم أقارب الشعراء فى كافة الاتجاهات ولا أحكم الشكل الشعرى الذى أتبناه بل أنصت إلى نبض النص وأمنحه فرصة أن يبوح بسر صنعته وجماليات بنائه.دون أن يمنع ذلك أن مقارباتى لقصيدة النثر ثم شعر التفعيلة هى الغالبة لأنها الأكثر جاذبية لى.

– برغم منجزك النقدى المهم والمؤثر يرى البعض أن عملك النقدى أضر بوجودك فى المشهد الشعرى وطغى عليه فى كثير من الأحيان..هل تتفق معهم؟

الشعر – أساسا – فن صعب وغير متاح طيلة الوقت ولا يأتى بإرادة الشاعر.إنه حالة خاطفة وقد تعجبين إذا قلت إننى كتبت ديوان ” تدريبات يومية ” فى شهرين تقريبا لقد كنت أكتب يوميا وربما من هذا جاء عنوانه ثم تأتى فترات توقف طويلة حتى أظن أن الشعر قد هجرنى لكنه يعود بغتة.وعموما فقد أصدرت خمسة دواوين وعندى ديوان سادس مخطوط وأعتقد أن هذا جيد.أما عن تأثير النقد فهذا صحيح لأنه احتل مساحة اهتمام كان من الممكن أن توجه للشعر.لكن صدقينى الكتابة هى التى تختارنا والشعر لم يغب لأنه جعلنى أدرى بمسالكه وظل فاعلا فى رؤيتى النقدية وقديما قال الشاعر”لا يعرف الشوق إلا من يكابده / ولا الصبابة إلا من يعانيها “

– تمارس الكتابة سواء كانت إبداعية أو نقدية كهواية دون أن تتمكن من التفرغ لها.متى يمكن للكاتب فى عالمنا العربى أن يتفرغ للكتابة؟ وهل نعتبر احتراف الكتابة مفيدا للمبدع وداعما لمستوى إبداعه؟

من المؤكد أن التفرغ للإبداع والكتابة عموما حلم كل مبدع لكننا ياسيدتى فى مجتمعات لم تتعود القراءة ولم تعرف أهمية الثقافة وليوسف إدريس كتاب لافت بعنوان ” أهمية أن نتثقف يا ناس ” لكنه كان صرخة ضائعة مثل غيره من الصرخات ولهذا لايستطيع الكاتب أن يحقق حياة كريمة من كتابته شأن أقرانه فى البلاد المتقدمة.ولن يتحقق ذلك إلا إذا اهتمت مؤسسات الدولة كلها بالثقافة واعتبارها زادا يوميا ونشر الثقافة المستنيرة أول حائط صد ضد الإرهاب ونحن نعلم أن الثقافة والفن المصريين هما قوة مصر الناعمة التى ينبغى استثمارهما.بإيجاز نحن فى حاجة ملحة إلى تدعيم دور المثقف الحقيقى وإعادة الاعتبار إلى قادة الرأى بتعبيرات طه حسين.

– قلت إنك لا تتعامل مع القصيدة بوصفها حالة شعورية وإنما بوصفها حالة معرفية تضيف إلى وعى القارىء الأمر الذى يثير من جديد قضية المفاضلة مابين اتجاهين ” الفن للفن ” أم ” الفن للمجتمع ” هل تظن الأدب الملتزم بقضايا مجتمعه لايزال يجد جمهورا فى ظل العولمة؟

مقولة ” الفن للفن ” مقولة واهمة فلا شىء مطلوب لذاته وأى فاعلية إنسانية لابد أن تستهدف الإنسان أولا وآخرا، أما إذا كان المقصود منها ضرورة إخلاص الفن لطبيعته الفنية فهذا أمر بدهى فالفن ليس منشورا سياسيا وليس وثيقة اجتماعية أو نفسية وينبغى أن نتذكر أن هذه المقولة كانت ضد تسليع الرأسمالية للأدب وضد توظيفه أيديولوجيا سواء من قبل سلطة أو حزب ونحن نعلم أن الأدب الدعائى هو أضعف أنواع الأدب أما عن مبدأ الالتزام فى زمن العولمة فينبغى أن نفرق بين الالتزام والإلزام فالأديب ملتزم بإرادته الحرة بوصفه مواطنا مهموما بقضايا وطنه لكنه ليس ملزما من قبل أى قوة وقد يتبنى – وهذا هو الغالب – موقفا مختلفا عن الجميع وهو يستخدم كل تقنيات فنه مثل الرمز وتوظيف التراث والمعادلات الموضوعية.بإيجاز يمكن أن نقول إن الأدب يبدأ من الوقتى لينتهى إلى الخالد القادر على اختراق الزمن.

– ” زيارة ابن حزم الأخيرة ” و” رقصة الحياة ” مسرحيتان تضمنهما أحدث كتبك وبرغم اختلاف الأجواء فى كل منهما، الأولى تنتقل مابين التاريخى والمعاصر والثانية واقعية تماما لكن ثمة رابط بينهما يقودنا فى النهاية للبحث عن إجابة لسؤالى ” العدل والحرية ” لماذا تميل إلى استخدام شخصيات تاريخية فى سياق درامى معاصر؟ وهل ترى العمل المسرحى فى حاجة لأن يتجسد على خشبة المسرح ليكتمل أم أنه مستقل ومكتفى بذاته حتى وإن بقى بين دفتى كتاب؟

دعينا نقول إن العدل والحرية سؤال واحد فهما وجهان لحقيقة واحدة ولا يمكن تصور أحدهما دون الآخر، هذا السؤال هو سؤال النهضة منذ محاولات مصرالأولى لدخول العصر الحديث وظلت جهود المفكرين والشعراء تدور حول الإجابة عن هذا السؤال.والمؤسف أننا – رغم كل مابذل وماتحقق فى هذا السياق – مازلنا نراوح فى مكاننا وأحيانا كثيرة يتم التراجع عما تم حسمه فكريا وتحقيقه واقعيا،من هنا كانت الضرورة ملحة لاستعادة تراث التنوير سواء فى مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية أو فى الماضى القريب منذ عصر النهضة وهذا مايفسر رجوعى إلى التراث مستدعيا ابن حزم والتوحيدى وأعمل الآن لاستعادة ابن رشد وعبد الله النديم لا لاستعراض أحداث حياتهم بل لطرح أسئلتهم من جديد ومحاولة الإجابة الراهنة عنها. أما عن تجسيد هذه النصوص على خشبة المسرح فهذا ماأتمناه لكن دعينى أصارحك أننا نفتقد الفنان المثقف الذى عهدناه عند سعد أردش وعبد الله غيث وحمدى غيث وسميحة أيوب وعبد الرحيم الزرقانى بل ومحمود يس هذا الجيل الذى قدم أعمال الحكيم والشرقاوى وصلاح عبد الصبور إن إعداد الممثل لايقل أهمية عن أى مشروع ثقافى تنويرى.لكن أين نحن من هذا؟

– فى كتابك ” الرواية والسلطة ” رصدت تأثير السياسة على الشكل الروائى من خلال ثلاثة مسارات: الشخصية الروائية – بناء الزمان والمكان – بناء الخطاب الروائى.هل تتوقع أن تختلف الرؤية إذا ما قارنا بين الرواية العربية والرواية فى دول أخرى بها قدر أكبر من الديمقراطية من زاوية علاقتها بالسلطة؟

سوف أستشهد بيوسف إدريس مرة أخرى عندما قال إن الحرية المسموح بها فى العالم العربى كله لاتكفى كاتبا واحدا.لهذا فمن الطبيعى أن تختلف رؤية الكتاب وحيلهم الفنية فى هذه الأجواء الضيقة عنها فى أوطان تسمح بأعلى درجات الحرية.إن كتابنا – أو معظمهم – ينتزعون حرياتهم انتزاعا غير مكترثين بمآلات هذا الانتزاع لأن الإبداع لايمكن تحقيقه بدون هذه الحرية التى هى كالماء والهواء بالنسبة للإنسان ناهيك عن المبدعين.

………….

*”القاهرة”، 29 أكتوبر 2019

 

مقالات من نفس القسم