ديچينا ديا موندا/(الدازاين؟!): ما بين البانتو وهايدغر*

موقع الكتابة الثقافي art 01
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاتم الأنصاري

“لغتهم ليست مثل لغتنا، إنهم يتحدثون على نحوٍ بالغ الحسّية، بكلماتٍ تتعلق مباشرةً بالأشياء عينها؛ هذه الشعوب تتحدث “أنطولوجيًّا”[ii] “.

پلاسيد تمپلز

    “تتحدث أنطولوجيًّا”.. هكذا يُلمح المبشر الفرنسيسكاني البلجيكي ومؤلف كتاب الفلسفة البانتوية إلى تماهي (تحايث؟) القوة والكينونة الذي يسفر عن نفسه صراحةً في كلامِ شعب البالوبا** الكونغولي.

    بحسب الفيلسوف السنغالي سليمان بشير ديانِيي، ينطوي مفهوم “الحديث أنطولوجيًا” على ملمحين هامين متعالقين؛ يهمنا في هذا المقام ثانِيهما: “إثبات وجود فلسفةٍ دون فيلسوف[iii]***.

    ينسب تمپلز إلى (فلسفة) البانتو تصورًا للكينونة الإنسانية قد نلحظ -من الوهلة الأولى وعلى سبيل الطرافة المقذعة- أنه يتقاطع مع تصور مذهب المعتزلة للذات الإلهية (حيث الصفات (الست) عينُ الذات). بل ولنا -في حالة البانتو– أن نصنع ما هو أقرب إلى انقلابٍ لطيف فنكتب: “الذات عينُ القوة (!)”، من واقع أن الكينونة هنا لا تمتلك قوةً ما باعتبارها صفةً لها، ولا يتوفر تحت تصرفها قوةٌ منفصلةٌ (أو زائدةٌ) عنها[iv]، وإنما هي، بذاتها وجوهرها، محضُ قوةٍ حيوية، حيث يحيل مفهوم (الحيوية) هنا إلى الحياة بقدر ما يحيل إلى الدينامية:

دينامية الكينونة في الميتافيزيقيا الأفريقية في مقابل (استاتيكيتها) في الميتافيزيقيا الغربية.[v]

    إلا أن الملاحظة الأخيرة، شأنها شأن الاقتباس في المقدمة، تحيلنا إلى تقاطعات أخرى أشدّ بداهةً (بل -وقطعًا- أشد طرافة)، فضلا عن أنّهـا تترتّب، مباشرة وقبل كل شيء، على الإسفار عن منْطَلَقِ وماهويةِ هذه (الفلسفة): كونُها تتأسس وتتكرّس أنطولوجيًا، لا اپستمولوجيًا.

   تفرض الدينامية نفسها إذًا على الكينونة (البانتوية)، تمامًا كما فرضت/تفرض/ستفرض نفسها على الدازاين الهايدغري في عمائه المقيم:

“يحاول هايدغر (…) أن يبين أن المعنى الأنطولوجي للهم هو الزمنية، فإذا لم يكن الإنسان مادة جوهرية، وليس شيئا وليس حيوانًا (….) فذلك لأنه كائن في حالة انبثاق، انبجاس، انقذاف دائم (…)، أي أنه زمنية، أو حركة، أو انطلاقة. يمكن أن نقول هنا أن تصور هايدغر للكائن الإنساني تصور دينامي لا تصور سكوني.[vi]

    غير أن دينامية القوة وتماهيها مع الكينونة -في (فلسفة) البانتو– سوف تسفر لاحقًا عن تماهٍ تأسيسيٍ آخر يقابل/يوازي التماهي بين الوجود والحقيقة عند فيلسوف الكينونة الألماني[vii]:

 “تتدرج حيوية القوة وتتجلى تصاعديًا: ابتداء من درجة القوة القريبة من الصفر عند من هو في حكم الميت mufu…. وصولا إلى المستوى الأقصى لدى من يتبدى زعيمًا mfumu (….) ومن النطاق الأنطولوجي الذي يتحكم في ترتيب شدة القوة الحيوية تنبثق، بصورة مباشرة، أخلاقياتٌ تترجم نفسها آنيًا في كُودٍ قانوني: “إن ما هو صالحٌ أنطولوجيًا صالحٌ كذلك إتيقيًا، وسيتأسس على ذلك النحو بوصفه ما هو (عدلٌ) على الصعيد القانوني”[viii]“.

    هذا بالأحرى تحايثٌ بين الوجود والأخلاق، أو، تأطيرًا، بين الأنطولوجيا والإتيقا، يلازمه تساوق الأخلاق والقانون.. بداهة (!)

    يدفعنا التماهي/التحايث الأخير، في تقابله/توازيه مع تماهي هايدغر، إلى الاستعلام عن أيْنِيَّة الحقيقة في الفكر البانتوي. ويحيلنا الاستعلام السابق بدوره إلى شرطِ فرانز كراييه:

    “لكي توجد فلسفة بانتوية، كان لا بد من ضمان “إقلاعٍ مفاهيمي Décollage Conceptuel”، “أو أن يتوصل البدائي إلى المفاهيم العامة والمجردة”[ix]”.

    أي: إقلاع بالعقل النظري من مجال القوة إلى مجال الفعل؛ من مَدْرَج المحسوس إلى فضاء المجرّد (حيث لا تتعلق الكلمات مباشرةً بالأشياء/المعاني عينها). ويترتب على عدم تحقق هذا الإقلاع انتفاءُ الفلسفةِ (بما هي نشاطٌ تجريدي، وبحثٌ عن الحقيقة، وإبداعٌ للـمفاهيم كذلك بحسب جيل دولوز) عن فكر البانتوي/البدائي (كانت تلك، بالطبع، محض محاولة استسبارٍ لطيفةٍ لـشرط الفيلسوف البلجيكي (الميتافيزيقي)!).

    ولكن هايدغر دَيْنَمَ الحقيقة عندما دَيْنَمَ الوجود الذي (يَبيتُ) في (اللغة)، كما تمرّد على المفاهيمية، وعلى مصادرة العقل للموضوع والطبيعة، فالكينونة من وجهة نظره هي “إبطال لمبادئ “التصور “concevoir باعتباره مجلّى المتصوَّر/المفهوم concept[x] ”.

    أخيرًا، ومن بين أنواع الأسماء الثلاثة التي يمكن أن يحملها الفرد -بحسب تمپلز– في مجتمع البالوبا، ينتعظ الاسم الداخلي (ديچينا ديا موندا/Dijina dya munda)* متفاخرًا بصفته اسمَ الذاتِ والحياة في صميمها: إنه العلامة التي تنوب عن ذلك الدازاين.. أو بالأحرى، عن ذلك الكائن المتعين المقذوف هناك في أقصى جنوب الكونغو! إنه مجلّى الكينونة ومناطُ الخصوصية ومحكُّ ما يدعوه هايدغر بـ(الإنّية): “أي واقعة قوله: ””أنا” معلنًا بذلك تعلقه بذاته وانتسابه إليها[xi]“:

“بينما سيجيب (الفرد) بنعم أو لا إذا سُئِل عما إذا كان يُدعى بهذا الاسم (الأوروبي) أو ذاك، فإنه سيجيب، عند مناداة اسمه الداخلي:  أنا، أو هأنذا. بعبارة أخرى، تُفْهم هذه الإجابة هكذا: “هذا الاسم، إنه أنا شخصيًا[xii]“.

………………………..

الهوامش

* مقتطف من ورقة بحثية تحمل عنوان: “الُأوكو(و) vs الدِيفِير(ا)نْس: من سجالِ التقاطعاتِ المفاهيميةِ بين التراثِ المعنويِّ الأفريقيِّ وفلسفةِ الاختلافِ الغربية” والبانتو واحد من بين أهم المجموعات العرقية في أفريقيا.

[ii] Placide TEMPELS, “La Philosophie Bantoue”, Paris, Présence Africaine, 1959, p. 101.

* * من شعوب البانتو.

[iii]Souleymane Bachir DIAGNE, “Revisiter “La Philosophie Bantoue”. L’idée d’une grammaire philosophique”, Politique Africaine, vol. 77, no. 1, 2000, p. 47.

* * * أما الملمح الأول فهو إثبات وجود لغاتٍ حِسّيّة بشكل جوهري في مقابل اللغات القادرة على التجريد.

[iv] Souleymane Bachir  DIAGNE,  op. cit., p. 47.

[v] Roland TECHOU, “L’etre-là Africain et Inculturation: Essai d’une Relecture Théologique de Martin Heidegger pour l’Afrique”, Grand Séminaire Mgr Louis Parisot Tchanvedji Bénin – Baccalaureat en théologie, 2010, p.3.

[vi] فرانسواز داستور، “فلسفة هيدغر” ترجمة: محمد سبيلا، تبين للدراسات الفكرية والثقافية، المجلد الثالث: العدد رقم 12، 2015. ص. 101.

[vii]المصدر السابق، ص. 94.

[viii] Souleymane Bachir DIAGNE, op. cit., p.48.

[ix] Bourahima OUATTARA, “Figures ethnologiques de la pensée de l’étre”, Cahiers d’Études Africaines, 2000, p. 81.

[x] Ibid., p. 82.

*  أما الاسمان الآخران فأحدهما أوروبي، خارجي (اسم التعميد المسيحي)، أما الآخر فهو اسم “تدشيني” يَسم وصول الفرد إلى درجة ما معترف بها اجتماعيًا.

[xi] فرانسواز داستور، مصدر سابق، ص. 95

[xii] Placide TEMPELS, op. cit., pp. 106-107.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار