حسن عبدالموجود
دون جيومانى، هذا هو اللقب الذى أطلقته عليه حبيبته السابقة، صديقته الحالية مونيكا على وزن دون جيوفانى، ولكن معنى اللقب يتضاد مع معنى الدون جوان. الدون جوان يوقع بالسيدات، ولكن الدون جيوفانى هو من يتعرض للإيقاع من قبل السيدات، يضحك دون جيومانى، أو أحمد يمانى قائلاً “يعنى تقدر تقول صياد بس على تقيل”. أنا صدقت تلك الحكاية، لأن هناك واقعة كنت شاهداً عليها، بطلها أسامة الدناصورى ويمانى. كان الدناصورى معجباً بفتاة سويسرية فرنسية، وربما شك فى أننى معجب بها أيضاً، ولذلك قرر أن يعطينى كتفاً، مؤكداً لها بلا مبرر درامى، أننى متزوج، وبعدها بأيام قابلته، وكان يضحك بلا توقف، وحينما سألته عن السبب، اعترف لى بما فعله، وقال “تقريباً الحياة بتخلص فىّ اللى عملته معاك، أصل الغراب خطفها وطار”، والغراب فى حكايته كان يمانى الذى ظهر لساعات فى القاهرة وأجهز علينا ببساطة شديدة وبدون مجهود يُذكر.
يمانى شخص عاطفى جداً يقول “إسبانيا أعطتنى كثيراً من قصص الحب والصداقات. حتى هنا يقولون عنى إننى عاطفى جداً. لدىّ مشاعر قوية بكل تأكيد، ولكن لم أعد أحمّل أحداً ثقل تلك المشاعر، وهو ما يجعل العلاقات أكثر سهولة، يعنى إذا كان عندى مشاعر عميقة فهى دائما تُقابل بمشاعر عميقة، وعموماً الجانب العاطفى عمره ما كان فيه مشكلة يالنسبة لى، دائماً أتصوّر أن علاقاتى سواء الصداقة أو الحب فيها عمق ما، حتى فى العلاقات السريعة، بمعنى أنك تعيش العلاقة بقوة حتى ولو كانت لليلة واحدة”. لو أُجبرت على كتابة وصف لك ماذا ستكتب؟ أسأله ويجيب “أنا متصالح مع نفسى ومع الآخرين ومع الحياة”.
عادل السيوى نصحه بالسفر إلى دولة أجنبية، قال له “اذهب إلى هناك، وعلّم نفسك بنفسك “منذ تعرفى إلى عادل فى بداية التسعينيات وهو ينصحنى أن أتعلم لغة ثانية، ليس هذا فقط، ولكن أن أعيشها مع ناسها وثقافتها، وكنت خلاص سأذهب إلى ألمانيا، وصديقنا أحمد فاروق ساعدنى فى استخراج أوراق تخص الجامعة التى كان يدرس فيها فى جرمرسهايم، والجامعة قبلتنى فعلاً، وبالمناسبة أنا درست الألمانية لفترة، وكنت أحاول مع هيثم الوردانى ترجمة شعر ألمانى قبل سفره، ولكن فى النهاية لم أذهب إلى ألمانيا، لأنى تعرفت فى تلك الفترة إلى زوجتى السابقة، وبعدها بعامين سافرت إلى إسبانيا، وبالطبع أنا راض تماماً عن تلك الخطوة، ولو عادت بى الأيام سأفعل نفس الشىء”.
من الأمور التى تشغلنى فيما يخص أصدقائى المغتربين فكرة الصداقة، فبالتأكيدحينما يأتون إلى القاهرة يرون أصدقاءهم وقد انخرطوا فى دوائر أخرى من الأصدقاء، فكيف يفكر يمانى فى ذلك الأمر؟ يقول “أتصور أن صداقاتى القاهرية أو المصرية لم تتأثر، يعنى الفارق الوحيد حالياً بين الأمور قديماً وحالياً، أنك بعيد جسدياً ولاترى أصدقاءك. فى المرات القليلة التى نزلت فيها إلى القاهرة كان دائماً عندى نفس المشاعر،ثم إننا لسنا بعيدين عن بعضنا البعض، فنحن نتواصل باستمرار، ومناقشاتنا لا تنقطع”،ويضيف “أصبحت عندى صداقات جديدة، لكن الصداقة تشبه الحب، لا توجد علاقة تعوّض علاقة أخرى، بمافيها علاقاتك بأصدقاء رحلوا، مثل أسامة الدناصورى، وفيما يتعلق به على وجه التحديد فإن السفر جعلنى أتصور أنه ما زال موجوداً، بس بقالنا فترة متكلمناش”.
أول بلد أوروبى عاينه يمانى كان فرنسا لا إسبانيا. خرج من القاهرة إلى باريس، وهناك استقبله صديقه كاظم جهاد، وذهب لحضور مهرجان لوديف. نصائح أصدقائه أصحاب التجربة الكبيرة مع السفر والحياة فى بلد آخر وفرت عليه كثيراً من الأمور. بعدالمهرجان عاد إلى باريس ومن هناك إلى برشلونة ومنها إلى بلنسية، ولم تواجهه صعوبة فى الاندماج بالمجتمع الجديد “الاندماج مسألة تخص كل واحد وتكوينه وأيضاً الظروف التى تحيط به. اندماجى كان سهلاً جداً من أول يوم، وكانت المشكلة الأساسية أنى فى محيط يتحدث القطالونية وكانت هناك ضرورة لتطوير لغتى الإسبانية بنفسى”. يعترف يمانى بأن زواجه من “بنت البلد” فتح أمامه الحياة على وسعها، ومنحه القدرة على مشاهدتها من داخلها لا من خارجها كمهاجر يبحث عن الأمان وسط أهله، وبكل تأكيد شعر أن نظرة الناس إليه مختلفة، يعلّق “بعد كده الباقى عليك، أن ترى وتعرف وتدخل فى حياة أخرى كأنك تبدأ من الأول، وهذا شىء جيد فعلاً، أن تكتشف نفسك فى أماكن أخرى، والمهم فى كل هذا هو إحساسك بالندية، يعنى أنا لست تلميذاً فى مدرسة وذاهب من أجل أن أتعلم، لكن أنا أيضاً أستطيع أن أكون مُعلّماً. تلك كانت فترة البداية، والصعوبة الكبرى فيها هو العمل، ولظروف إسبانيا الخاصة تظل مشكلة العمل قائمة حتى الآن، وهذا يشمل معظم أصدقائى هنا”. برغم ذلك لم يفكّر أبداً فى العودة إلى مصر “لكن لا أستطيع أن أصادر على المستقبل. أنا أحب الحياة هنا. أنا من اخترتها، وحتى الآن أنا مبسوط بها رغم الصعوبات، وعمرى ماشعرت بأننى أواجه مشكلة العنصرية مثلاً، وهذا يعنى أننى لم أشعر، بالتبعية، بأننى غريب فى إسبانيا”.
تعرف صاحب “شجرة العائلة” إلى هدى حسين، طالبة الثانوية العامة فى ندوة الدكتور يسرى العزب، والأخير تحديداً هو أول من شجعه على مواصلة الكتابة هو وصديقه الشاعر مؤمن أحمد وأول صديق فى الجامعة كان محمد متولى. كان كل منهما يظن أن الآخر فى سنة رابعة لا فى سنة أولى. الإثنان تعرفا بعدها إلى عصام أبو زيد ورضا العربى وأشرف أبو جليل وأحمد بخيت وكمال أبو النور والسعيد عبد الكريم وكلهم كانوا فى دار علوم ما عدا عصام الذى كان فى إعلام. فى السنة الثانية تعرف إلى ياسر عبد اللطيف وأصبحا صديقين على الفور، يقول “بدال ما كنا اتنين، متولى وأنا، بقينا تلاتة مع ياسر”، ثم تعرف إلى سيد محمود، يقول “كان فيه حاجة اسمها شعراء الجامعات وكان اللقاء فى المنصورة. المهم الجامعة اختارتنا نحن الثلاثة لتمثيل جامعة القاهرة فى المنصورة، سيد محمود عامية، ومتولى وأنا فصحى، فى هذا الوقت توطدت علاقتى بصديقى الشاعر حسن طلب، وهذا الرجل أيضاً شجّعنى كثيراً، كما توطدت علاقتى بالراحل حلمى سالم، وبدأنا نتعرف على الوسط الأدبى ونذهب إلى قهوة البستان والأتيليه، وعرفنا ساعتها أبناء جيل الثمانينيات، وخصوصاً شعراء العامية، الراحل محمد الحسينى، ومصطفى الجارحى، ومجدى الجابرى الله يرحمه، وشحاتة العريان، عرفنا أيضاً إيمان مرسال وعلاء خالد وأسامة الدناصورى. أذكر أن ذلك كان سنة 90 و91 وشخصياً لقائى مع بشير السباعى كان خاصاً جداً فى حياتى، طلب منى أن أقرأ قصيدة له، وحينما فعلت نهض وسلّم علىّ بقوة وقال برافو”، ويضيف “الجامعة كانت مهمة لأنى عرفت فيها أصدقائى التاريخيين وأيضاً أساتذتها، عبد المنعم تليمة وجابر عصفور وسيد البحراوى ونصر أبوزيد وحسن حنفى ومحمود على مكى وغيرهم، كما توطدت علاقاتى بالطلاب من مختلف الاتجاهات السياسية، وفى نفس الوقت انفتحتُ على الوسط الأدبى خارجها. يعنى كانت محطة مهمة جداً فى حياتى”. فى فترة الجامعة كان يمانى أكثر حدّة من الآن، مايتناسب مع شخصية العاطفى، صاحب المشاعر القوية على اختلافها. فى ندوة شعرية كان يحضرها أحمد هيكل ويسرى العزب وإبراهيم أبوسنة، وربما فاروق جويدة (لا يتذكر هو الآن) صعد يمانى إلى المنصة ليلقى قصيدته، فى الوقت الذى صعد عامل الشاى والقهوة ليضع المشاريب على المنصة، وثار يمانى، وركل كرسياً بقدمه هاتفاً “ازاى بتنزل شاى وقهوة وانا بقرا شعر؟!”، ولم تفلح محاولات الناس معه لإعادته مرة أخرى،فقد هبط درجات المسرح مغادراً القاعة بأسرها، وتكهرب الجو. يضحك حينما أذكّره بالواقعة التى سردها لى زميله أيام الجامعة أيمن حامد ويقول “يهيأ لى أننى تغيرت كثيراً. الآن أصبحت أكثر هدوءاً فى تعاملاتى مع نفسى ومع الناس”.
أسامة الدناصورى هو من عرّفنى إلى يمانى. كان ذلك تقريباً فى 99 بأتيليه القاهرة. حينما بدأ يتحدث سيطرت علىّ دهشة كبيرة،فصوته وقتها كاد أن يتطابق مع صوت أسامة. تذكرت ذلك وهيثم الوردانى يخبرنى بأن كثيرين من شلة أسامة تأثروا به، وخصوصاً بسمعه “التقيل”. فى تلك الفترة لو سمعت أسامة ويمانى من وراء جدار لم تكن أبداً لتعرف أيهما يتحدث، إلا بكثير من التركيز، أو لو ضحك أحدهما. يمانى عذبنى ليتحدث عن أسامة. ربما بتأثير الفكرة السابقة، أنه ما زال موجوداً، وأنهما لم يتقابلا أو يتحدّثا منذ فترة بسبب سفر يمانى. كان يؤكد لى مراراً على صعوبة الكلام عنه الآن “ربما فى المستقبل سيصبح الأمر أكثر سهولة”. قبل وفاة الدناصورى بعشرة أيام وصلت ليمانى رسالة منه على الموبايل “فى الليلة الظلماء يُفتقدُ البدر، يا ريتك معايا يا أبو حميد أو ياريتك جنبى”. يعلّق يمانى بكثير من الأسى “وطبعاً لم أفهم الرسالة سوى بعد وفاته”. الشخص الثانى الذى أعرف تماماً عمق علاقة يمانى به كان والده، ولكن لحسن الحظ أنه استطاع أن يراه قبل رحيله، وأمضى معه شهره الأخير على العكس من أسامة. يقول “أبويا كان عسل، دمه خفيف، وكل الناس كانت بتحبه، وعمره ماضغط علىّ فى شىء، لا فى دراسة ولا فى شغل، كان عنده ثقة كبيرة فيا من وأنا طفل، مرة كنت زعلان معاه على حاجة تافهة وكنت قاعد أنا وياسر عبد اللطيف فى الشقة عندى، دخل وقال لياسر: ماتقول حاجة لصاحبك وراح ضارب بيت شعر قديم وقاللى مش انت بس اللى بتشعر،كان بيت الشعر حاجة زى كده: آباك الذى رباك فى عهد الصغر”، ويضيف “مرة كمان فى فرح أختى كنا طقم جامد فى الشقة، كل أصحابنا، ودخل لقينا بنحشش قال بتعملوا إيه؟ ياسر قال له: بنحشش(!) راح ضاحك وقال: ربنا يقويكم”.
لم تفلت والدته ولا شقيقه الكبير من مصير أسامة. توفيا أيضاً وهو بالخارج. أسأله “ألم تسيطر عليك فكرة الموت وأنت تفقد أحبتك فى غربتك؟”، ويجيب “موت أحبتى جعلنى أتقبّل موتى الشخصى، بمعنى أننى كنت مشغولاً بفكرة الموت وأنا فى مصر، والآن الموضوع بالنسبة لى أصبح عادياً.أصبحت أكثر قبولاً ورضى بالفكرة ليس فقط فيما يخص الموت، لكن تقريبا فى كل أوجه حياتى”.يعترف أحمد بأنه لا يستطيع التحدث عن جيله خصوصاً أن “كل الناس بتكتب وعايشة”،ولكن “عموماً عندى تصور أن الحاجات ماشية كويس، وفيه كتابة جميلة”.
الكتابة بالنسبة له “فعل فردى تماماً أو تجربة شخصية بامتياز، كما يقول الشاعر الإسبانى الكبير أنخل بالنتى، لا تحتاج، حتى، إلى اعتراف أو حكم عليها”. أول كاتب أثر فيه بشكل كبير بعد مرحلة قراءات الطفولة كان خيرى شلبى، فى كتابه “رحلات الطرشجى الحلوجى”، قرأه طفلاً وانبهر به، وعلى المستوى العالمى هناك كتّاب كثيرون يفضّلهم، خصوصاً بعد أن أتقن الإسبانية، لم يعد الأمر قاصراً بالنسبة له على قراءة كتّاب إسبان ولاتينيين، فقراءاته امتدت إلى كل مكان، لأن حركة الترجمة نشيطة فى إسبانيا، وهناك إمكانية لأن تجد أعمالاً لكتّاب كثيرين ينتمون إلى لغات أخرى مترجمين. يعلّق “هذا شىء عادى، ولكنه ينقصنا بصراحة”.يمكن تقسيم حياته فى إسبانيا إلى قسمين، الست السنوات الأولى فى بلنسية، والست الثانية فى مدريد. فى المدينة الأخيرة عاد إلى أجواء القاهرة الثقافية التى كان يحياها منذ زمن طويل. أصبح لديه أصدقاء شعراء وكتّاب وفنانون منهم الشاعر الإسبانى أنخل جيندا، الذى يُعتبر حالياً من أهم الشعراء الإسبان. يقول “أنخل فى منتهى التواضع، ودائماً يتحدث فى كل لقاءاته وندواته عن 3 شعراء غير إسبان بوصفهم معلّمين له، محسن عمادى الشاعر الإيرانى، وسوبرو الشاعر الهندى، وأنا، وهذا يعيدنا إلى الكلام عن فكرة تخلخل المركزية الأوروبية، يعنى الناس لا تتعامل معك بوصفك إكزوتيك (يعنى غرائبى،الناس يرونك شيئاً غريباً من مكان غريب) ولكن بوصفك كياناً، حتى على مستوى العلاقات العاطفية”. فى إحدى المرات قال له هيثم الوردانى “اوعى تكون حبيبتك شايفاك إكزوتيك”. ذهب إليها يمانى، وأخبرهابما قاله الوردانى، فضحكت وقالت له “عمرى ما فكّرت أصلا فى ده”. يقول يمانى “ومن أجل ذلك لم أشعر أبداً أننى تلميذ أو غريب فى إسبانيا، وهذه الدولة عموماً بلد بين الغرب وبين الشرق، حاجة لوحدها فعلاً، لا هى أوروبية تماماً،ولا هى شرقية تماماً، وربما لهذا أنا مفتون بها”. أسأله أخيراً “ما طموحكمن الكتابة؟”، ويجيب “ليس لدىّ طموح سوى أن أستطيع الكتابة حتى يجفّ الكلام. طموحاتى بسيطة جداً وهى أن تكون عندى قدرة على الحياة طالما أننى حىّ وأتنفس، وهذا يشمل الكتابة والقراءة والصحة الجيدة والمحبة”.