ظل متجمدا كحمم فائضة على فوهة بركان خامد، متربصا، جاهلا بما سيأتى، غافلا عما مضى.
صاحبه الذى هو عنه غريب، بدأ يستفيق، أسند ظهره، ومن ثم تمطع ووسع حدقة عينيه، تأمل المكان، وسرعان ما لمح شريكه المقابل، فحدقه طويلا وهو يقول فى بلاهة، بنبرة متمهلة:
_ من أنت، وأين نحن؟
فلم يجبه الآخر المقصود بالسؤال، بينما بقى السائل على حيرته، متقلبا على نار من فضول، يحرك تروس عينيه صوب الأربعة جدران التى تخنق عليهما بسرعة، ويمسح بنظره الأركان المعتمة، وفى كل مرة يستوقفه خيط الضوء القادم من النافذة الوحيدة الموجودة بالغرفة. وحينما انتهى، عاد يسأل وهو يرمق شريكه فى جزع:
_من أنت، ولماذا أتيت بى إلى هنا؟
فأجابه الشريك، فى هدوء مشوب ببعض اليأس:
_ لو كنت استيقظت قبلك، لكنت بادرتك بذات السؤال؟
فلحقه الآخر، بنبرة عصبية:
_ ماذا تعنى؟
فتفوه الشريك بكلمات حملت فيما بين حروفها ضحكة هزلية:
_ أعنى أنه لا أنا من أتيت بك إلى هنا، ولا أنت من أتيت بى إلى هنا.
فعاود الآخر السؤال، وقد شفت دماغه عن عقل هائج:
_ ماذا تقصد؟ .. من أتى بنا إلى هنا إذن؟ … هل تعرفه؟
تأنى الشريك وهو يجيب:
_ لا أعرفه بالطبع، ولكن السؤال الأجدى الآن، هل تعرف أنت من أنت؟
أطرق الآخر، وتهادت أنفاسه وكأنها تحضر نفسها لنوبة فزع مقبلة، ومن ثم قال:
_ من أنا؟ .. من أنا؟.. هل أأ.. هل أأنت تعرف من أنا؟
فعادت كلمات الشريك تبتسم فى يأس، وهو يقول:
_ لو كنت أعرف من أنا، لكنت عرفت من أنت؟
فمسك الآخر رأسه مذعورا، وهو يتناوب فى القول:
_ ماذا نكون، ولماذا نحن هنا، وكيف سنظل هنا، ولماذا سنظل هنا؟
تفتحت أشعة الشمس، فانبثق الضوء معريا الغرفة بأكملها، فتوضحت الأركان المعتمة، وتأكد الصاحبان من أن ليس ثمة باب هنا أو هنا، كما تيقنا تماما من أنهما ليسا وحدهما، وأن ثالثا ما يضطجع فى سكون على بعد منهما.
وفجأة تحركت نومة هذا الثالث، وتحولت إلى جلسة كاملة دون أية تمهيد، ومن ثم صدر عنه صوت حاد رفيع:
_ بما أن الضوء كشف سرى، فالأولى أن أكف عن تمثيل كونى مش موجودة.
نظر الشريكان كل منهما للآخر، وكادا أن يتحدثا، فأطبقت هى بفمها على كلماتهما، بينما تلوح بذراعيها:
_ لا داعٍ، لا داعٍ لمزيد من الأسئلة المستهلكة، لقد استمعت إلى حديثكما كاملا، وأنا الأخرى لا أعرف من أتى بنا إلى هنا (ثم نظرت للشريك الهادىء الساخر) ولا أعرف أيضا من أنا.
فصرخ المنزعج دوما قائلا:
_ ماذا يعنى هذا؟ كيف أتينا جميعا إلى هنا، وأين باب هذا الشىء الذى انحبسنا فيه؟
فقال الشريك الهادئ، بنبرة وعظ وحنق:
_ لقد سبق وقالت لنا السيدة، ألا نستطرد فى أسئلة باهتة ومعادة.
قامت المرأة عن قعدتها، واتجهت صوب النافذة، ورمت رأسها خارجها، ومن ثم ألقت بها إلى الأسفل قليلا، وبعد ثوان قالت:
_ عظيم، هذه النافذة لا قاع لها ولا سطح، تحتها مثل فوقها، والمنظر أعلاها يشابه أسفلها.
فأتى إليها الشريك الهادئ، وأخرج نصفه الأعلى من النافذة هو الآخر، بينما أتاهما نبرة المنزعج من بعيد:
_ كيف ذاك؟ ماذا تريا؟
فرد عليه الهادئ سؤاله، بإجابة واضحة:
_ السماء تملأ كل مساحة الرؤية، لا توجد أرض يا صديقى الجديد.
فهرع المنزعج وبات عند النافذة، وشهد بنفسه على ما زعمه الآخران، ثم أدار ظهره، وقال وهو يعود إلى الداخل مروعا:
_ إنه كابوس.
فبادرته السيدة، وقد رجعت وعقدت رجليها متربعة:
_ إن كان كابوسا بحق، فهو واقعنا الآن.
تعالى صوت الشريك الهادئ، وهو ينادى على عيون الباقيين:
_ انظرا..
التفتا إليه، فوجداه إلى جانب صنبورين، وقد فتح كل منهما، الأول كان يقطر ماء، والثانى يقطر سائلا آخر.
فقال الهزلى بصوت تشريحى:
_ الأول ماء
ثم وضع إصبعه تحت الصنبور الثانى، وتفوه وسخريته تتقافز من بين الكلمات:
_ والثانى حساء عدس.
جرت المرأة ناحية الصنبور الثانى، وارتشفت منه مقدمة عدم التصديق، وأغفلت للحظات ثم رنت ضحكتها، وهى تقول:
_ يا لها من مزحة.
تحدث الهادئ فى نبرته المتباطئة:
_ من أتى بنا إلى هنا، ينتوى احتجازنا لفترة طويلة، ولهذا فهو يوفر لنا مؤونتنا، ولا يرغب فى موتنا على الأقل سريعا.
فصرخ المزعج بتساؤل:
_ فترة طويلة كعدة شهور مثلا؟
فنفى الهادئ تخمينه، بنبرته المثقلة فى وقار:
_ للأسف لا أعتقد ذلك، إن أرادنا فقط للمدة التى ذكرتها، لكان وضعنا مع أشولة معلبات وزجاجات مياه معدنية، ولكنه أنشأ لنا صرفا يطعمنا، لا يفنى إلا إذا قطعه هو عنا.
أجفل المذعور. وتهربت المرأة من جحيم الموقف، وهى تقول فى مرح قاصدة الشريك الهادئ:
_ بما أننا سنمكث هنا، إذن لا بد وأن نطلق الأسماء على بعضنا البعض، لذا فأنا سأتطوع وأسميك “مطمئن“.
ابتسم المطمئن، وأجاب عليها تطوعها بطلب:
_ واسمحى لى أن اختار لك اسم “سر“.
فبادرته فى بساطة:
_ لا أمانع فهو لطيف.
فعوى صوت المذعور:
_ أنتما مجنونان، تماما مثل من وضعنا هنا.
فلحقه صوت “سر” متندرا، بينما كانت تحك ذقنها:
_ لا تقلق سنفكر لك فى اسم ملائم.
فتوجه المذعور ناحية النافذة، وفوق عينيه تستقر نظرة غيبوبية، راكزة بعض الشىء عن سابقتها، ومن ثم قال:
_ لن ألبث ساعة واحدة فى مثل هذا الجحيم، هنيئًا لكما.
وهم بإلقاء نفسه فى فم الضباب الأبيض من النافذة.
(2)
امتثل كل من “مطمئن” و”سر” لأمرهما الواقع. وتبادلا الرضا حتى وإن نقما فى دخيلتهما على وضعهما معا من حين لآخر. اكتشفا مصرفا خفيا فى ركن من الأركان، فتحة بدائية، بالكاد تكفى للتخلص من مخلفات عيشهما وجسديهما. صنعا من رقائق ألمونيوم كانت منحاه فى أحد زوايا الغرفة صحنين للحساء، وكوبين للماء و”كوز” للاغتسال. بطريقة ما تزاوجا، قادتهما وحدتهما إلى بعضهما البعض، وعلى الرغم من أن ثمة طريقا واصلا بين روحيهما منذ البداية
إلا أنهما مازالا إلى الآن يشعران بأنهما أجبرا على هذا التلاقى الجنسى.
حينما تلاحما فى المرة الأولى، شعرا وكأنهما على علم مسبق بلغة الأجساد، وفى الوقت ذاته بدا كل منهما كمن لم يفعلها من قبل.
بعد عدة شهور، أنجبا، بالطبع بغير إرادة منهما أيضا، وحينما احتضنا رضيعهما الصغير، ارتعبا، ثم أحباه وتلهيا به بعض الشىء.
فكرا كثيرا فى مصير ثالثهما الذى كان، تسائلا مرارًا جهرا وسرا “ترى إلى أين ذهب؟” هذا الرفيق الذى ظننا فيه الجبن، واتضح أنه من أطبق على عنق قراره، ولواه رغما عن استقامته التى بدت أبدية، فسواء كان منتهاه خيرا أم شرا، فهو الوحيد فيهم الذى اختار أن يختار، ورفض أن يمط قدرته على القناعة لتسع وجوده فى هذا السجن الضيق.
أما هما، فأحيانا يثلجان صدرهما بفكرة أنهما اختارا أيضا، ولكن سرعان ما تراودهما الشكوك، هل رضاهما يعد اختيارًا، وإن كان الجواب لا، إذن فإن الاختيار ينافى معنى الرضا، هل من ارتضى مجبور طيع، وهل من اختار حر عاصٍ، هل التطلع خطيئة تقابل حسنة القناعة وتقف على الضفة المعاكسة لها. متى يكون الرضا، رضا، ومتى يكون مرادفا هينا لكلمة قهر.
عاشا والأسئلة تلف أعصاب أدمغتهما، يتصرفانها أكثر من أن يبوحا بها، تحاوطهما، وتنخط حتى على المساحة البيضاء التى يطلان عليها من النافذة، ولكنهما يتعاميان، ويبلعان وعيهما وألسنتهما.
وكلما وقعت عين كل منهما على الآخر، يبتسمان، وما إن يبتسما، يتواقعا، فحديث جسدهما هو النشوة الوحيدة التى يبلغاها، ومن بعد ضحكة رضيعهما باتت الثانية.
(3)
بعد الطفل الخامس، أدركا حجم المأساة التى وقعا فى حجرها، إنهما سيتوالدان باحتمالية عشوائية كلما تلاقيا، وإلا فلينقطعا عن بعضهما البعض، وقد حاولا الشروع وبإصرار على تجربة الحل الأخير، لكن الفشل كان حليفهما.
فاختارا، أقصد، استسلما لمقاليد أمورهما، وأعدا نفسيهما لحساب المواليد، الخامس، السادس، السابع وهكذا..
فى البداية، كانا يخبئان يقظة جسديهما عن أعين الأطفال، ينتظران الليل، ويخفضان من صوت جوعهما وهما معا، ولكن شيئا فشيئا باتا يتواعدان فى وضح النهار، وحينما يتساءل أحد الصغار، يجيبانه باختصار “نتحاب“.
ومن بعدهما، كان أولادهما وبناتهما يتحابون أيضا، كل زوج مختلف الجنس بعينه، أو كل ولد مع أية بنت، أو كل بنت مع أية بنت، أو كل ولد مع أي من الأولاد، أو عدة أولاد مع عدة بنات.
والمواليد تزداد، والكل يجهل نسب الجدد، أو لا يكلف نفسه السؤال.
بين كل وقت وآخر، لا يعلمان أمده، يأتى ولد أو بنت، ويرفضان انتهاج طريقة التزاوج العشوائية هذه، ينفرد كل منهم بنفسه ويعيش وحيدا، أو يمتنع عن الطعام فيموت بعد فترة، ومن ثم يضطرون للإلقاء به من النافذة، ويشاهدون جثته وهى تنطبع على اللون الأبيض، وكأنها منه وهو منها، فتنتهى، أو تبدأ، فالجميع على غير يقين مما سيحدث لها.
(4)
ومضت دهور..
مات فيهم الأصل، وتنامت الفروع، ومن ثم فروع الفروع، ومن بعدها تفرعات فروع الفروع. لوحت الأبدية بذيل كنهها، وألصقته على وجوه ومؤخرات هذا الحشد الحي، والذى يموت أيضا فى نفس الحيز الضيق من المكان المجهول، والمأهول جبرا.
وفى أيام ما من هذا التأريخ الذى لا يفنى، تفكر الكثيرون فى استكشاف ما بعد الضباب، فمنهم من غاص بنفسه هناك، متسلقا بحبل من أيادى الآخرين؛ وحينما عاد سألوه “هل من شىء؟”، فرد ببساطة “ما نراه من هنا، هو ذات المرئى من أبعد نقطة وصلت لها“.
ومنهم من تطوع بالمراقبة، ليلا نهارا، لم يرفع عينه، ولا يجعل فيها جفنا يرف، لعل الأبيض فى لحظة ما يفصح عن نفسه، يشف عما فى جوفه، أو يتلون متملصا من حالة الثبات. ولكن كل الرقاب التى اشرأبت، خابت وانكمشت، وباتت تسعى إلى اللاسعى.
ومع تعاقب الزمن، وتراكمه، سهى الآتون عن السبب، عن المغزى، والمحجوب. دفنوا فى الضباب، فضلاتهم وبقاياهم، وموتهم الذى لم يعد يثير فيهم تساؤلًا أو فضولًا.
اكتفوا بالأقاصيص التى تداولت من جيل لجيل، عن الأولين، القديس الذى نجا بنفسه من المعمعة، والوالدين الأصيلين “مطمئن” و”سر”، أسبق من انتحر كمدا ومن اغتيل عمدا، كلُ ذُكر اسمه، ونحتت سيرته، وتوارثت معتقداته، وبات له مريدون، يحترمون بعضهم البعض أحيانا، وفى وقت آخر يتناحرون.
تماما كما تناقلت عدة تصورات أرساها من فاتوا، عن حقيقة وضع حياتهم، منها ما يؤمن بالزوال حتى وإن طال الأمر، ومنها ما يقر بالديمومة والخلد. منها ما يأمر بتقديس صاحب المكان الذى هم فيه مجرد ضيوف، ومنها ما ينبذه ويصب عليه لعناته، ومنها ما لم يعترف بوجوده. كل محاولة للاجتهاد، تحولت بتعاقب السنوات إلى طريقة، لها شيخها الذى كان، وتابعوها المتعصبون. وكلما توغل الإيمان بالقديم، انقطع دابر السماع لأى جديد. بات صاحب التصور المغاير كمقتحم المنازل ذائع الصيت، الذى يتهيبه الآخرون تربصا، وضربا بالشباشب والعصيان، وكلما كان مسلحا بفكرته، قابضا عليها، كلما بات أكثر عرضة للموت، وأصبح رأسه مستعدا للتهشم بأجران الهون.
(5)
فى الحقبات الماضية، زادت أعداد الموتى، حتى لاحقت نصف حصة المواليد. فبدا العيش ممكنًا، وإن كان مزمنًا. التكتل أذهب عددًا من الأرواح عدلا، لينصف العدد الباقى.
أوبئة فاغرة الفاه، بزغت لتعلن امتعاضها حول المساحة المستنهكة مقارنة بما تحمله، فمدت الأولى يد العون للثانية حتى يسعها التنفس، وبدت طبيعة الأجواء قادرة على حماية نفسها إلى حد ما.
ولكن الأمر مؤخرًا لم يعد كما كان، فالموت بدأ يتأخر، ينحاش وكأن من يجود به، قرر أن يمسك يده فجأة.
وفى المقابل بقى تعداد المواليد على حاله، بل اهتاج من فرط الخوف المتسرسب فى ذرات الهواء.
وبدأت الكارثة فى الحدوث ببطء، الرضع يعجنون فى ركب الأطفال، والأطفال ينفعصون فى ركب المراهقين، والمراهقون يطحنون فى ركب الشباب، والكبار يدهسون فى ركب الشيوخ.
المكان انحشر بالأجساد، والأجساد تكومت فوق بعضها، وشيئا فشيئا تحولت إلى عصير من العظام والعضلات والأمعاء والرؤوس والأوجاع.
وحضر الموت ثانية، ليقطف أعمار الجميع فى ملحمة هزلية مفجعة، الكل ينصهر فى بعضه، والجميع يفنى وهو يراقب تلاشى الآخر.
ومن ثم، وفى نقطة محددة انخرست كافة الأصوات، واغتيلت كل الحناجر، ولم يعد سوى الصمت، وكومة مهولة من الجثث التى أكلت فضاء الغرفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة مصرية، والقصة من مجموعتها “الفراش دومًا لثلاثة” الصادرة مؤخرًا عن دار روافد