فاتنة الغرة
رسائل إلى لمار من مستشفى القدس
تل الهوا-غزة
الرسالة 13: فتة عدس بالدقة والطحينة
حبيبتي لمار: اليوم هو يوم آخر من الحرب، لا حديث للناس هنا غير عن النزوح من المستشفى، إلى أين؟ لا أحد يمتلك الإجابة. أذكر أن حيرانًا لنا نزحوا إلى المستشفى في الطابق الأسفل، لم يحتمل رب العائلة فكرة انكشاف حياته كلها أمام الأغراب بهذا الشكل، هو يرى ابنته تضجع على الأرض بجسدها الذي يتمدد ويتقلب أمام أنظار الشباب في الطابق، لم يحتمل ذلك الجار أن يصرخ في زوجته أو أبنائهم ويجد أغرابًا يتدخلون بينهم، لذلك أصدر ذات يوم فرمانًا عائليًا بعد مشاجرة حادة أعقبها بتهديد بالطلاق بأنهم عائدون إلى منزلهم في محيط المجمع الإسلامي، يذكر كل المقيمين في الطابق صراخ زوجته وهم يتجادلون، هو مصرّ على العودة وهي مصرة على البقاء في المستشفى حيث من المرجح أن البقاء مع كل هذا العدد من البشر هو أكثر أمانًا من العودة إلى منزلهم، كانت تصرخ باتجاهه محذرة من مصير قد يشبه مصير الكثير ن الأسر التي عادت إلى منزلها وبعد عودتها تم قصف المنزل على من فيه، لكنها عندما يئست من إقناعه ولا سبيل لها لمخالفة رأيه انصاعت له محذرة إياه بأنه لو حدث لهم شيء فإن ذنبهم سيبقى معلقًا برقبته، عادت العائلة إلى المنزل ولم نعرف عنهم شيئًا حتى تردد فجأة صدى صوت الزوجة في طرقات المستشفى وهي تقول لزوجها: خطيتنا معلقة برقبتك يا أبو محمد حينها هبط صمت مفاجئ سامحًا لصدى صوت الزوجة بالتطواف في طرقات المستشفى محذرة النازحين بصوت أشبه بالفحيح: البيوت قنابل فلا تقربوها.
وصلتني دعوة عبر ابنة أخي لتناول طعام العشاء مع عائلة أخرى من الجيران في الطابق، رب العائلة أحمد وهو شاب في أوائل الثلاثينيات بشخصية فيها مزيح ما بين الفجور والتقوى وما بين الالتزام والانفلات، لديه شهية لكل شيء للأكل والنساء تحديدًا، تزوج “منى” وهي الزيجة الثانية بعد زواج أول لم يستمر طويلاً، فتزوج منى التي تكبره ببضعة أعوام، كنت أرى “منى” وهي امرأة منقبة تروح وتجيء في طرقات المستشفى كأنها البرق حتى أطلقت عليها تغريد ابنة اخي لقب “النينجا” والاسم الذي بدأ بنكتة أصبح لقبًا لها تناديه به نساء أخريات في الطابق.
أصر على دعوتي لديهم، أحمد الذي هو جارنا في تل الهوا، لم نكن نعرفه قبل الحرب ولو صدف أن التقينا في الشارع أو في أي مكان سابقا لما سمح لنا بتبادل التحايا أصلا لكن العلاقات في الحرب أخذت منحى أكثر اتساعًا وتحررًا حيث كل البيوت مفتوحة على بعضها، تبدو كلمة البيوت ساذجة هنا حينما يكون المعني بالوصف زاوية في ممر أو مصطبة درج، أو مطبخ قسم أو غرف مرضى والبيت كان في أحيان كثيرة مساحة بين سيارتين من السيارات التي تصطف أمام مدخل المستشفى حيث لم يترك النازحون رقعة لم يفترشون بها بيوتهم المتنقلة على أكتافهم، كان أحمد ومنى زوجته يحضرون فتة عدس غزاوية لا أظن أنني أكلت ألذ منها يومًا ما، نزح أحمد وزوجته وأطفالهما الأربعة إلى المستشفى قبلنا بأيام وبالتالي استطاع الحصول على غرفة تشاركها مع أخيه وعائلته، كنت أرى تغريد عادة ما تذهب إليهم تسلي وقتها هناك.
الغرفة التي نزح إليها أحمد هو وأخيه مع عائلتهما تقع في أقصى طرف الطابق المطل على مدخل المستشفى، وبمجرد دخولي باب الغرفة متجاوزة جيرانه الذي يجلسون أمام باب الغرفة على فراشهم هبت على وجهي حرارة لافحة، لم أعرف ان كانت من الجو اللاهب ام من طنجرة الخبز الكهربائية التي تعددت مجالات استخدامها في المستشفى، أم من عدد المتواجدين داخل الغرفة وجلهم أطفال لم يتعدى عمر أكبرهم السنوات العشرة، حضانة من الأطفال في غرفة واحدة وقصف يشتد عنف صوته بطريقة فاجأتني حيث أن الأصوات كانت تصلنا في داخل الممر أقل عنفًا من هنا لكنني وانا أجلس معهم كان القصف يخلخل الجدران حتى تظن أنها جدران من الكرتون المقوى يمكن أن تطوى علينا في أي لحظة.
الغرفة فيها سرير كبير يقول أحمد أن جاهد كي يحضره هنا حيث نزح قبنا بأيام مما أعطاه أفضلية اختيار غرفة لعائلته، تحت السرير صندوق فيه معلبات من كل نوع ورد إلى المستشفى، ويقطع الغرفة حبل ربطوه كي يكون حبل غسيل ينشرون عليه ملابسهم و”منى” زوجته على ذات الحركة كأنها نحلة طنانة، أظن أن لقب النينجا لم ينصف منى كما يليق، اللقب الأدق هو النحلة، تتحرك خلال الغرفة، عبر طرقات المستشفى، وخلالك حتى دون أن تشعر بها، كانوا يجهزون فتة عدس لا اظن أني تناولت ألذ منها سابقًا، مزيج الطحينة مع الدقة الغزاوية التي تحتوي على الكثير من الفلفل الأخضر والثوم والليمون نقلت فتة العدس البسيطة إلى مستوى آخر، كنت أقف على شباب الغرفة أثناء إعداد الطعام وأتابع بعيني الناس التي تتناثر في مداخل المستشفى وأمامه وفي ممراته وبين السيارات المتناثرة، أتامل في الصراعات الخفيفة التي دفعني صوتها للوقوف بداية على الشباك، أتأمل في وجوه الأطفال الذين يجرون بين أقدام الكبار يمارسون ألعاب الغميضة و “الصفطة” وهي لعبة تعتمد على فريقين يرصصون بضعة بلاطات صغيرة فوق بعضها ويضربونهم بالكرة ويقوم الجميع بالجري والتملص من الكرة بينما يقوم باقي أعضاء الفريق بمحاولة رص البلاطات مجددا فوق بعضها، والأسبق في تحقيق الهدف هو المنتصر في اللعبة، لم يتعب الأطفال في محاولة البحث عن البلاطات حيث هناك وفرة من البيوت المقصوفة ويمكنهم دائما العثور على شيء هناك.
قبل أن نبدأ الأكل طلبنا من أحمد الخروج من الغرفة لأننا نريد أن نمشط شعرنا وهذا أمر ليس من اللائق أن يحدث أمام رجل، خرج أحمد بعد مشاكسة لطيفة لما ودخل المشط شعري لأول مرة منذ أيام طويلة، تغريد ظلت تمشط شعري كأنها تدلكه وأنا كنت اشعر أن هناك جربًا ما قد أصاب شعري، الحكة شبه دائما حيث لا سبيل لتهوية الشعر بكشفه أمام النازحين هناك ولا رفاهية حمام محترم فبات شعري مرتعًا لكل ما هدب ودب، لكن ملعقة من فتة العدس خدرت ما تبقى من حكة كنت أحسها، الآن أنا في جنة من المذاق النادر ولذلك اختفى كل شيء آخر حتى القصف الذي كان يوقع من يد أحدنا ملعقته في لحظة مفاجئة.
*
الرسالة 16:
الحياة تطُل -عبر ضوء- من تحت الركام
لم أستطع النوم جيدًا هذه الليلة، لم تكن كسابقاتها حيث اقترب القصف منا حتى لنكاد نقع من مكاننا رغم أننا ملتصقون بالأرض، اشتد القصف واشتدت حرارة الجو رغم أننا في شهر نوفمبر الآن، لكن عدد النازحين الكبير في المستشفى بث سعرات حرارية إضافية من الأجساد المستلقية جوار بعضها والأنفاس التي تخرج وتدخل والزفرات الصاعدة طوال الوقت فبات النوم مع هذه الحرارة معجزًا مع اقترانه مع شدة القصف وتتابعه بوتيرة شبه منتظمة، أمسك بيدي كتاب يوسا “الفردوس على الناصية الأخرى” محاولة التركيز على الكلمات حيث لابد للوقت أن يمر.
للوقت هنا طبيعة لا تجدها في أي مكان آخر خارج غزة، الوقت هنا طويل ممتد أبدي تكاد تظن معه أن اليوم لن ينتهي، في اليوم الواحد يمكنك الذهاب إلى بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا، التجول في شارع النصر والذهاب منه إلى الجلاء ثم الوصول إلى الوحدة ومن هناك الانعطاف حتى شارع الثلاثيني ومنه تقرر إما أن تدخل حي الصبرة الذي كان حينا القديم -لا أظنك قد زرته يا لمار في زياراتك السابقة لغزة- أو تدخل إلى حي تل الهوا حيث نقيم من خلال شارع الصناعة، لكنك قد تختاري الذهاب مع شارع الثلاثيني إلى حي الدرج ومن ثم الصعود حتى الساحة للانطلاق من هناك إلى الشجاعية وحي الشعف هناك، في اليوم الواحد تقابلين أناس نزحوا من كل هذه المناطق إلى المستشفى، تسمعين قصصهم التي تكفي كل واحد منها لكتابة رواية أو صناعة فيلم.
مع اشتداد القصف وإصابة نوافذ غرف المرضى ببعض الشظايا أفرغت الغرف من المصابين وبعض النساء توجهن نحونا حيث خلف مكان نومنا يقع المخزن الذي أخبرتك عنه والذي جعلت منه غرفة للنوم مفصولة عن الأصوات بالخارج إلى حد كبير بعد تنظيفه من الأكياس المكتظة فيه، أتت شابتان من الشجاعية إحداهن عروس جديدة لم يمر على زفافها سوى بضعة أشهر وبدأ الدم المتجمع كنقاط في عينيها يروى حكاية إصابتها، تقول: كنت أنا وابنة عمي ننام جوار بعضها لأننا “روحنا في بعض” وهو تعبير غزّي عن قوة العلاقة بين طرفين مما ذكرني ببيت الحلاج
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
أظن أن هذا اجمل اختصار لهذا المعنى، المهم تكمل بابتسامة رائقة، كنت أنا وهي ننام على فرشتين متجاورتين حينما حدث القصف فوجدت نفسي أطير من مكان ليحط نصفي ويتدلى من حفرة فتحها الصاروخ في بيت جيراننا، ابن عمي طارت إلى بيت الجيران الآخرين وفرشتها تحتها لكن شظية غادرة دخلت قلبها فاستشهدت على الفور، تخبرني أن وجه ابن عمها كان صافيا كما البلد دون خدوش تُلحظ لكنها خرجت بكدمات وساق مكسورة، تخبرني أن الإسعاف حينما وصل إليهم مانوا يحملونها وينزلون بها إلى مستوى اقل انخفاضا ثم يلقون بها لإنقاذ من هم في حالة أكثر صعوبة، تخبرني وابتسامتها تتسع وتضحك أن هذا الأمر تكرر أكثر من مرة حيث يأتي المسعفون يحملونها وحينما يرونها واعية ولا إصابات مميتة فيها يضعونها جنبًا حيث يذهبون لإنقاذ روح أخرى من تحت الركام، تخبرني وهي تكركر أنها حينما وصلت المستشفى وتم عمل الفحوصات اللازمة لها ظهر في الفحوصات بعد أيام أنها حامل.
حامل هكذا، طارت ووقعت ثم انتُشِلت وحُطّت وانتُشِلت وحُطّت وانتُشِلت وحُطّت ثم اكتشفت بعد كل هذا أنها حامل، تذكرت وصايا للنساء للحوامل الجدد بالحذر حينما يركبون سيارة من المطبات خوف الإجهاض، بالحذر حينما يطلعون السلالم أو ينزلونها خف الإجهاض، بالحذر حينما يحملون أشياء ثقيلة خوف الإجهاض، وها هي “سين” من الناس حمل رحمها الجنين وطار فيه ثم حط كأنما يحط على حقل من القطن.
محمد ذلك الطفل ذو السنوات العشر وصاحب أجل ابتسامة رأيتها كان يتجول بيننا بكرسيه المتحرك وملف يحمل فيه رسوماته التي أمضى فترة علاجه هنا بالعمل عليها، يخبرني محمد أنه كان في البيت مع أسرته وهم من سكان جباليا حيث شعر فجأة أن البيت كله هوى فوق رأسه، يقول لي أنه كان محاطًا بسجادة كبيرة التفت عليها فقام بتخليص نفسه منها بصعوبة ونظر بعينيه من تحت الركام ليرى ضوءا يأتي من زاوية هناك، يخبرني وهو يبتسم عن محاولاته للوصول إلى النور رغم أنه كان يصرخ للأصوات في الخارج ” أنا هنا” “أنا تحت” لكن لم يسمعه أحد فظل يجر نفسه دون أن يدرك أن قدمه مصابة حتى وصل إلى الضوء الذي رآه وظل ينبش بأظافره الصغيرة والدم يشلب منها، يزيح حجرا من هناك وقطعة خشب من هناك محاذرًا ألا ينهار شيء فوق رأسه، يخبرني محمد أنه بعد جهد من المحاولات استطاع النفاد من الفتحة التي وسًع منها بأصابعه ومدّ رأسه منه ثم سحب باقي جسمه وظل يركض حتى تلقفه المسعفون، وعند سؤالهم له عمن ساعده للخروج من تحت الركام أجاب بفخر: “أنا اللي طلّعت حالي”
كان محمد يستعد للتسريح من المستشفى مع من تبقى من عائلته ولم أعرف إلى أين نزحوا وهل ظلّوا في غزة مع من ظلّ، هل نجا محمد من قصف أخر ومن ركام ثانٍ وهل استطاع المشي على أقدامه مجددًا دون الاستعانة بالكرسي المتحرك أو العكازين؟ لا رفاهية هنا للسؤال ولا إجابات يمكننا التعويل عليها، أقصى ما نستطيع قوله فيما نحن فيه: الله ينجيك يا حبيبي وينجي كل اللي زيك
اذن هي النجاة قاربنا الذي يلوح من البعيد يا لمار، وكلما أطلت النظر في وجوه من حولي هنا وملامحهم التي تبدو دون حراك لفترة من الوقت حتى تظن أن الزمن توقف، عندها أشعر أن الحياة من هنا تبدأ ومن هنا يجب ان تُكمل الطريق.