البهاء حسين
كل ما يحدثُ مؤلم
فلماذا أحدّقُ في كل شيءٍ بقلبي
،،
مع كل طفلٍ يموتُ، بالجوع أو بقنبلة
مع كل سوطٍ يتلقاه حمارٌ، لأنه يريد أن يستريح قليلاً أثناء السير
مع كل طلعة شمس
لا تعرف ما الجزء الذي يموت من العالم
،،
بقيتْ أجزاءٌ قليلة مني يا رب
لماذا خلقت الألم
أنا بحاجةٍ إلى معجزةٍ تخلصني مني
إلى واحدٍ يشفط ألمي، مثل ” جون كوفي ” *
هل تستحق الحياة أن نحبها إلى هذه الدرجة
لماذا لا نترك الآلام تستلقي بداخلنا
،،
أنا وقعتُ في حب الكلمات
لا أفهم شيئاً، لا أعرف ماذا يعني، إلا بعد أن يصبح كلمة
حتى حبيباتي
تحولن من أجلي إلى كلماتٍ حميمة
الكلمة حضن
وقعتُ في فخ الكلمات، أمشي وحبلها السُّري ملفوف حول جسدي كثعبانٍ
أنا أصبحتُ كلمة
أريد أن أصل بكم إلى أنفسكم
أن أحذف الألم
أن أكتب شيئاً أسمى من الدموع
لكني لا أجدُ مفتاح البيت
مذا تعنى الكلمة إن لم هناك بابٌ تفتحه
أو شخصٌ يتيمٌ تطبطب عليه
،،
” جون كوفي”
يا من تُخلّص الآخرين من آلامهم وتنسى نفسك
أنا مثلك
أخاف من الظلام
سحبتني القابلة من روحي
جئتُ إلى هذه الدنيا، لألعب دور الطيب
غير أنني لم أعد أحتمله، ولست مُقنعاً في أدوار الشرّ
أنا مسحوبٌ يا صديقي من قلبي
لا شيء ينقذني من نفسي
وفي أعماقي صراخٌ مكتوم لا أحد غيرى يسمعه
،،
كل يوم يبدأ وينتهى هنا بالصراخ
فى القاهرة
أو على الشاشة
أو فى الذاكرة
كل خطوط السير تنتهى إلى المحطة نفسِها
الألم
كل واحدٍ يختارُ مقعده
لطالما فضلتُ الجلوس بجوار الشبابيك فى القطارات،
لأنه لم يكن لبيتنا نافذة
لا يمكن أن ترى الطريق إن لم تكن هناك نافذة
،،
الشاشة بيت
كلنا أبطال الفيلم
الفارق بينى وبين جون
بين شخصٍ وآخر
هو الطريقة
أنا متعبٌ يا جون
” تعبتُ من تجوالى وحيداً كعصفورٍ فى المطر ” *
على حد قولك
وكلما رأيتُ ما فى القلوب غرقتُ فى عرقى أكثر
،،
بدأت الروحُ تتصدّع
أصبحت الدمعة قريبة أزيد من اللازم
أبكى أحياناً دون سبب
أهى أعراض الشيخوخة يا جون
أم أعراض المعجزة
دمعتى حارة
لم تُبق لى الآلامُ الكثير منى
كل شخصٍ عرفته.. رأيت ما فى قلبه
تحوّل إلى ندبة
والندوب لا تخرج بالعرق
عرقى كثيف
العرق معجزتى التى لا تحتاج إلى برهان
أليست معجزةً يا جون أن تُخرج الآلام من مسامك
أن يسيلَ منك الناس طوال الوقت
أن يتدحرجوا على جسدك
فى قطرات كبيرة
:
حتى لو لم تحضن حبيبك
الحب يشفى من الزنزانة
من الوحدة
،،
جون يا صديقى
أنت أديتَ الدور وأنا عشتُه نيابة عنك
غير أن الشاشة لا تتسع لآلامى
لأىّ وجعٍ أخصص فمى، لو أننى أصبحت مثلك
اليتم، أم السرطان
الأشباح، أم لإحياء فأرٍ قتل نتيجة ضغينة
أنت طهّرتَ مثانة محتقنة، وأنا تلك المثانة
من آية فتحةٍ أُخرجُ الآلام، كندف القطن المتطايرة
كأسراب الذباب
أريد أن تكون لى معجزة يا جون
المأساة ألا تجد من يصدقك
من يحضنك
الحضن معجزة
وأنت يا صديقى لم تجد من يصغى إليك
دعك من طيبة قلبك
من أنك زنجىّ
من العيون التى شمتت فيك، بغرفة الإعدام
دعك من الجحيم الذى تمناه لك أهل الضحايا
من دموعك وأنت تطلب المساعدة
لطفلتين قتيلتين على ذراعيك قاعد بلا حيلة سوى صوتك
صوتك الأجش، الذى يخرج راكضاً من الأعماق، كأنه خارجٌ من بئر
صوتك وأنت تصرخ فى الحقول كثورٍ ذبيح
دعك من الصدفة
من المشهد الذى دبّره المخرج، لتبدو كقاتل
من الدم
من كرسىّ الإعدام الذى لم يصدقك هو الآخر
من الكهرباء
من رائحة الجلد المحترق
دعك من كل شىء
هيئة المحلفين
القضاة
وتذكر أن قلوب سجانيك آمنتْ بك
معجزةٌ أنت يا جون وهم صدقوها بأكثر من طريقة
أنا صدقتك، كأنك ابنى
كأنك أبى الذى قضى تأبيدة فى السجن، لأنه لم يجد من يصدقه
لم يقتل أبى أمه، أو أخواته البنات
لم يحرق جثثهن فى الفرن، لكنهم لم يصدقوه
اشفطْ ألمى الذى وُلد قبلى يا صديقى
طفولتى
أنت كلمتى
معجزتى الشخصية
علمنى يا جون كيف أتحرّر من ألمى
وأرميه فى سلة المهملات
تستحق المعجزة يا شقيقى
السماء ” لا تمنح هذه الهبة لقاتل أطفال “
الزنزانة تعرف البريء
تروى الجدران كلماته الصامتة
،،
استرخى حين تحيط بك الظلمة من كل جانب
منذ سبع سنواتٍ وأنا صابرٌ على الوحدة يا جون
لم أعد بحاجةٍ إلى من يخرجها من جوفى
يا ما مللتُ من قدرتى على الصبر
على الأمل
يا ما قلتُ إن السماء تمنح المعجزات، لكنها لا تعطينا طريقة لاستعمالها
نحن نخترع الطريقة
وأنا اخترعتُ الصبر يا جون
تلك معجزتى الحقيقية
أن أشفط آلام الناس وأصبر عليها
أعتقها، كالأملاح، تحت جلدى
أرْشحُ الزمن
لا بد من العرق
من الكرسى الكهربائى
لا بد أن يتحول جسدك العملاقُ إلى فحمةٍ
أن يحضن ” توم هانكس “، زوجته بعد أن خلصتَه أنت من وجع المثانة
أن يبكى، أن تضيء دموعه الشاشة، لأن العمر طال به
بعد فشله فى إنقاذك
غريبٌ أمرك يا جون
لكل معجزة شهيدها يا صديقي
وأنت لوحدك صرتَ أكثر من شهيد .
……………………
*جون كوفى هو أحد أبطال فيلم The green milleهو بطله الحقيقى، لأنه جرب أن يشفط آلام الآخرين، بينما لم يكن هناك من يخلصه من ألمه .
* ما بين الأقواس مقتبس من الفيلم .