التفتتُ ذات لحظةٍ إلى نفسي لأجدها بعيدةً، كأنما هي جزء غريب منفصلٌ عن ذاتي. حاولتُ لملمة أجزائي المبعثرة بتقصّي أسباب هذا التشظّي؛ فتنبّهتُ إلى أنّي قد استبدلتُ شاشةً زرقاء بالشاشة الخضراء الطبيعيّة، فتهتُ في عجقة الوجوه والأرقام والأحداث، ألهث خلف الوقائع اليوميّة والأحرف الموقّعة كأنّي بي هاربة من وجهي الحقيقي. وقد استبدلتُ أسماءَ عديدة من أقصى المعمورة إلى أقصاها باسمي. واستبدلتُ السيرَ بواسطة حركة أنملتي في ضغطاتٍ متتالية تأخذني إلى عوالم لم أحلم يوماً بأني سأزورها أو أتعرّفها بالسير على قدميّ. كما أنّي اتّخذتُ واقعًا افتراضيًّا بديلاً من عالمي الخارجي.
ما هي إلاّ ومضةٌ أبحرت بي نحو زوايا نفسي القصيّة، وما هو إلاّ تكثّفٌ دفع بي في منعرجات أحلامي المنسيّة…. أطفأتُ جهازي، وصمّمتُ أن أستبدل السكينة بالضوضاء؛ فأعود إلى ساحات طفولتي ومرتع أحلامي. الآنَ وليس غدًا، ومن دون حقائبَ ومتمّمات ٍ تزيينيّة، جمعتُ نفسي ويمّمتُ وجهي صوب قريتي الجبليّة.
مررتُ بأشجارٍ تصطفّ على جانبي الطريق، كأنّي بها فرقة تشريفات. لم أدرِ مَن منا يلقي التحيّة على الآخر فيقرئه السلام؟! وصلتُ إلى ساحة بلدتي التي تتفرّع منها عدّة زواريب ضيّقة؛ زاروب يفضي إلى ساحةٍ كنا نلعب فيها أنا وأترابي، وآخر يؤدّي إلى بيت جدّي. لم أشأ أن أتابع مسيري خلف مقود سيارتي؛ فأطفأت محرّكها وركنتها في الساحة، وتابعتُ سيرًا على قدميّ. شريط ذكرياتي الطفليّة يرافقني، بل عدتُ طفلةً بالكاد تلامس أصابع قدميها الأرض المعبّدة وتعدو بشعرها الطويل ذي الخصلات اللولبيّة الشكل تتطاير فرحةً بالهواء القروي العليل. الآن، أدرك معنى أن يكون الهواء عليلاً، وكيف تكون السعادة؟ -عندما تجري كالأطفال في دروب قريتك- أملأ رئتيّ بهذا النسيم وأعبّ من ذكريات الماضي، ماضي الساحات والحارات والزواريب.
سرتُ إلى ساحة فرعية تتوسّط عدة بيوت؛ سأدعوها ساحة جدي “بو أسعد”. عرّجت إلى ما يشبه بيتًا كان يأوي جدتي “أم فندي”. أعلم أن بابه موصد منذ زمن بعد وفاتها، كانت عادتي زيارتها و”جبر خاطرها”؛ دلفتُ هابطةً درجاته المعدودة ولمستُ الباب كأنما أنفض الغبار، بذلك، عن ذاكرتي. تابعت نحو الساحة إلى بيت جدي بو أسعد، ووقفت أمام البوابة التي كانت خضراء باهتة، وطُليت اليومَ بالأسود. أغمضتُ عينيّ، وأبيتُ إلا أن أراها كما عهدتها. وللحظةٍ كرهتُ التغيير؛ لمحتُ طيف جدي بو أسعد يناديني، يلوّح بيدٍ أن اقتربي، ويده الأخرى تمسك بكيس أسود. أقترب؛ فتمتدّ اليد التي لوّحت لي إلى داخل الكيس لترفع كمشة “قضامة صفراء” وتقدّمها لي. أتردّد بدايةً، متذكّرةً وصيّة أمي بألاّ نكون متهافتين، فنوسم “بالفجع”، ومن ثم اقتربتُ لتصبح حفنة الحمّص الأصفر بين كفّي المضمومتين. يجول ناظري بالتناوب بين القضامة وعينيه الغائرتين. ألمح طيف ابتسامة حزينة، ورقّة مَن يودّع أحلامه الأخيرة أو يراها تتجسّد أمامه. تراجعتُ شاكرةً، غير أن نظراته لا تنفك تلاحقنا أنا ورفاقي، تسألنا ألّا نبرح الساحة.
يعود بو أسعد إلى كرسيّه خلف البوابة الحديدية، يجلس ويتأمّلنا؛ يملأ صراخنا أذنيه- لا ينزعج. يراقب ولا يملّ، وتطفو ابتسامات على شفتيه المجعّدتين. تسري في جلدي قشعريرة… بوابة سوداء تلمع أراها، ولا أعثر على جدي بو أسعد ولا على الكرسي. أتركها وأنصرف نحو بيت جدتي ” أم عاطف”؛ لا أحد يقطنه سوى عمتي. أهمّ بارتقاء درجات سلّمه الإسمنتية التي صٌبّت على عجل، فأعدل عن رأيي وألتفّ حول البيت، لأصعد زاروباً ضيّقاً فأصبح إزاء درجتين حجريّتين تفضيان إلى “السطيحة” أمام البيت. الباب الخشبي الأخضر القديم ما زال على حاله، والأباجور الخشبي الذي ينغلق على الشبابيك الزجاجية الصغيرة لمّا يزل كما عهدته.
أشدّ ما أفرحني مرآيَ جزءًا من حبل أخضر لُفّ في عقدتين أو أكثر حول حديد الشبّاك. تداعت ذكرياتي دفعة واحدة. عمّتي الشابّة تنصب لنا أرجوحة، وهي عبارة عن بطّانيّة صوفيّة تُطوى من الجهتين على حبلين يُمدّان من العمود الصخري لقنطرة السطيحة نحو حديد الشباك في مسافة لا تتجاوز الأمتار الثلاثة. ونتداور أنا وإخوتي وأبناء عمومتي الكُثُر على التمدّد داخل البطّانيّة، وعمتي تؤرجحنا وتستشيط غضباً من شقاوتنا، فتهدّدنا بإخبار أهالينا حالما يعودون من واجب يؤدّونه جماعياً في الضيعة. تتراءى لي جدتي أم عاطف، تمشي الهوينا كعادتها، تشبه سنديانة الساحة في ضيعتنا بمنكبيها العريضين المرتفعين، وبقامتها المستقيمة، لم أعهدها يوماً محدودبة الظهر. نسرع إليها فارّين من عمّتنا “زازا” ومن عقاب محتمل، مستدركين بخبث، ما ستتفوّه به. وقبل أن ننطق، أرى يد جدتي تغرق في جيب كنزتها السوداء لتنتشل منها بضع حباتٍ من الملبّس الملوّن، هي صيد زياراتها، فتوزّعها علينا. نحافظ على اتّزاننا المصطَنَع، فلا نتهافت لأخذ حصتنا من الحبّات، عزّة النفس نفسها التي ورثناها تردعُنا.
عندما أُدني قطعة الحلوى من فمي، يتسارع عبق العطر إلى أنفي متداخلاً مع رائحة الحبق المخبوء في جيب كنزة جدتي. هذا عطرها المفضّل: ورقة “عطر” وقصفة “حبق”؛ في كل جيب نوع من الأعشاب العطرية. يمرّ طيفها أمامي وتفوح رائحة الصابون البلدي الممتزجة برائحة الشمس من منديلها الأبيض. رائحة متناهية البعد، قد نسيتها بفعل وجود النشّافات الكهربائية والمساحيق المعطّرة. لوح صابون زيت الزيتون والقطرون في يد جدتي يعود إلى ذاكرتي؛ تحفّه على قطعة ثياب وسط “طشت” أو “لَكَن” ماء فاتر، وتدعك الثياب بين يديها القويّتين، تعصرها، تسكب الماء فوق حوض الزرع، ومن ثم تملأ الطشت ماءً نظيفاً لتفوّح به الثياب المغسولة. تدعكها من جديد وتعصرها… وتنشرها على حبل ممدود على سطيحة جانبية أمام الدار.
أرتمي على إفريز حجري مغطّى بقماش خاطته عمتي خصّيصاً له؛ لا أريد الاستيقاظ من أحلامي الشاردة. أدع ذاكرتي تبوح لي، لن أطرق باب البيت الآن، سأسهو قليلاً على الإفريز، تماماً في المكان المفضّل لدى جدي “بو عاطف” حيث كان يستسلم للشمس تدفئه بعد شتاء بارد طويل، وبمحاذاة حبل الغسيل حيث كنا نختبىء خلف الثياب المنشورة في لعبة الغمّيضة، وتنهرنا جدّتي: “وسّختم الغسيل. عودوا إلى بيوتكم”. ولا نعود؛ نعلم أنها عاصفة وتمر، أو رعديّة كاذبة لا يخلفها مطر.
يوقظني وجه طفلة تقف قبالتي بقامتها الرشيقة الصغيرة وبشعرها الأسود المضفور- لا أتخيّل هذه المرّة- تدهشني بخفّتها، كيف لم أشعر بقدومها؟ نتبادل النظرات من غير كلام نتلفّظ به، تمتدّ يدي نحو حقيبتي السوداء، لأنتشل منها بضع حبات حلوى ملفوفة بعناية بورق مذهّب، أقدّمها للطفلة. ترمقها بنظرة، وتبعد ناظريها عنها لتصوّبها نحوي؛ تسمّرها في مقلتيّ النديّتين. تمتدّ اليد الصغيرة نحو كفّي، تأخذ صيدها وتبتعد.
………….
*كاتبة من لبنان