أحمد بلبولة
بديوان رفعت سلام “أرعى الشياه على المياه” الصادر عن دار مومنت 2018 يكون قد اكتمل مشروع شعري فريد في تاريخ الشعرية العربية، أثار – ولا يزال- جدلًا كبيرًا في الساحتين: الثقافية والأكاديمية منذ صدور الديوان الأول منه: “وردة الفوضى الجميلة” 1987، وأكثر ما فيه من إثارة يدور حول ما إذا كان هذا المشروع يقدم موضوعًا أو يسقطه، وقد مال قطاع كبير من قرائه إلى أنه يسقط الموضوع؛ تارة لاستعصاء تأويله، وتارة أخرى تُرَدُّ إلى قصدية – بداية- تربك التلقي التقليدي للشعر؛ من حيث كونه نوعًا أدبيًّا مستقرًا يتكئ على تراث ألف وستمائة عام أو يزيد، ولهؤلاء عذرهم فيما ذهبوا إليه، ولرفعت سلام ما نوى، غير أن الشعر أكبر من أن يؤخذ بالنيات وحدها أو أن تقف حائلًا دونه المعاذير، طالما صار أثرًا مكتوبًا في متناول الأيدي تقلبه على وجوهه كيف تشاء.
ومن ثم فلا حرج على الإطلاق في أن يجازف قارئه كأنما حل اللغز! فيقول: إن موضوع ديوان “أرعى الشياه على المياه” هو ثورة الخامس والعشرين من يناير:
كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة،
وروح الله يرف على وجه المياه.
وقال الله: “ليكن نور” فكان نور.
ورأى الله أن النور حسن.
وفصل الله بين النور والظلمة.
ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلا.
وكان مساء وكان صباح يومًا واحدا.
ودعا الله هذا اليوم 25 يناير 2011 . (الديوان: 51)
لكن الأهم هنا: كيف عالج رفعت سلام هذا الموضوع؟ أو بصيغة أكثر تحديدًا: ما هو درس رفعت سلام الكبير في كتابة المناسبة؟
على مستوى التخطيط العام للكتابة يؤسس رفعت سلام الديوان على ثلاثة أسفار من الكتاب المقدس هي خلاصة التجربة السليمانية: الجامعة، ونشيد الإنشاد، والأمثال، وهي أسفار تعكس تطور شخصية سليمان (عليه السلام) من الخطأ إلى الحكمة إلى العشق الإلهي، ينضم إلى هذه الأسفار الثلاثة: التاسوع المقدس، وكتاب الموتى، وشكوى الفلاح الفصيح، من التراث الفرعوني القديم. وقد استحوذ سفر الجامعة على الصدارة من بين هذه الإشارات جميعًا؛ فالعنوان: “أرعى الشياه على المياه” مقتبس منه، وهو ما يشي به المتن الشعري حين يكرر هذا العنوان: “أرعى الشياه على المياه، تقضم الرذاذ والزبد الطافي، وتؤاخي الأسماك والصيادين؛ تقول لي: اتئد؛ لا وقت للولادة ولا للموت، لا وقت للغرس ولا للحصاد، لا وقت للهدم ولا للبناء، لا وقت للضحك ولا للبكاء، لا وقت للكسب ولا للخسارة، لا وقت للكلام ولا للسكوت، لا وقت للحب ولا للحرب”، وما يذكره الهامش التفسيري لهذا المتن صراحة: “ذلك ما قالته شياهي لي، قبل أن يناقضه الجامعة في سفره الشهير. لكني أميل إلى شياهي – وهي ترعى على المياه الرذاذ المتناثر- كانت أكثر حكمة من الجامعة” (الديوان:59)، يؤكد هذا ويعاضده التناص العكسي الناشب بين ما ورد في الإصحاح الحادي عشر من سفر الجامعة: “ارم خبزك على وجه المياه فإنك تجده بعد أيام كثيرة” وما يقوله رفعت سلام: “فرميت نايي القصب على سطح المياه؛ فاستحال ثعبانًا هائلًا، التهم الشياه، شاة شاة، ثم التفت إليَّ:
ـ فماذا سترعى الآن، أيها اللئيم؟
ـ سأرعى الملل العظيم. (الديوان: 60)
وسفر الجامعة كما يصفه الأنبا تكلا هيمانوت: “سفر إنسان فيلسوف، حكيم يجول باحثًا عن السعادة، أو كيف يحيا الإنسان سعيدًا في هذا العالم، .. هو سفر اختبارات يعكس فيه سليمان اختباراته العملية في سني حياته المختلفة، … فسليمان يحكي خبراته التي سبق وجربها، ثم يقول إنه وجد أنها باطل أي لم تعطه السعادة التي كان يتصورها” وهذا ما يتسق وتساوي الأضداد: (الولادة/ الموت، الغرس/ الحصاد، الهدم/ البناء، الضحك/ البكاء، الكسب/ الخسارة، الكلام/ السكوت، الحب/ الحرب)، والمؤاخاة بين السمك والصياد، أية شياه هذه سوى شياه اليأس؟ وأي وقت هذا سوى الموت؟ ويقول بعض الشراح أيضًا عن سفر الجامعة: “إنه سفر يدعو إلى اليأس، كتبه سليمان وهو في حالة شك في غفران الله، وكان لم يكتشف بعد محبة الله الغامرة”، ويقول آخرون: إنه سفر الكاروبيم لا السيرافيم؛ لأن سليمان قد سقط رغم امتلاكه الحكمة، والحكمة وحدها لا تكفي بعكس السيرافيم الممتلئ بالحب الذي لا يسقط أبدًا، وفي سفر التكوين: “العلم ينفخ لكن المحبة لا تسقط أبدًا”، ورفعت سلام في انحيازه الكلي يبدو أقرب إلى الكاروبيم؛ لأنه يفضل أن يكتب الهجائية التي تعكس وجهة النظر فيما حدث ويحدث: “فلتعبرني الأقنعة المارة بسلام، بلا رذاذ. فأنا أفضل كتابة الهجائية للزمان، والمكان، والأحوال، والأشخاص، والأحلام، والأوهام، إلخ”. (الديوان: 126)
وعلى حين ظفر سفر الجامعة (سفر الكاروبيم) بأن يكون المنطلق في حكاية يناير يهيمن نشيد الإنشاد (سفر الساروفيم) على المتن الشعري في الديوان بصوتيه الذكري والأنثوي (سليمان وشالوميت) اللذين يمثلان الحياة النابضة المشعة تحت ركام اليأس الجامعي الخالد: ذكر وأنثى بطريقة رفعت سلام في ديوانه السابق:(هكذا تكلم الكركدن) يناديان بعضهما البعض نداء إيروتيكيًّا متعاقبًا كتعاقب الليل والنهار، نداء لا يتوقف إلى أن يحدث اللقاء ويتم الوصل في ساحة حرب جنسية على حد تعبيره، فالأنثى التي تنادي ذكرها تقدم في صورة شهوانية مفتوحة على الجهات، وتتجدد أبدًا فلا يبتر لها عضو إلا ويقوم آخر مكانه، هذا التنادي أحيانًا يأخذ شكلًا سجاليًّا ترشح منه الخبرة بأن الحياة لا تسقط أبدًا وإن سقط أبناؤها في طور من أطوارها، إنه السيرافيم المقاوم إذن الذي يرشح كالهذيان والجنون والمرض رشحان السيرورة والضرورة والدوام. وإذ يأخذ الصوت الذكري الخشونة والعنف في لغة أقرب إلى البيان الحربي يأخذ الصوت الأنثوي الرهافة واللطف، الأول يقول: “أنا الغراب الناعق”، والثاني: “أنا امرأة بألف وجه”، ويتدرج الصوتان في حدتهما حتى يصلا في مجموعهما إلى حالة من حالات الصياح المستمر المشحون بالرموز في برية لغوية مفتوحة زمانًا ومكانًا:
“زرقة أرجوانية، وخضرة برتقالية، وحمرة نارية، توابل وبهارات هندية مغربية تفوح، غار وزنجبيل ونارنج وريحان وشمر ومردقوش وفوقس ومر وزعرور ونبق وجلنار وآس؛ ما الوقت؟ ما المكان؟ “ (الديوان: 37)
إلى أن يحدث التزاوج والوصل:
“أرعى جثة باهرة تنام في سريري، تنز ألمًا وصديدًا، وملذات غابرة، أنثر عليها ماء الكولونيا والزهور الفواحة؛.. فتمنحني ثديها العامر باللبن الخاثر، .. اهش عنها الكوابيس الشرهة.. فتنتلق التأوهات العاوية، وصرخات الأورجازم المتقطعة، فمتى ينام الشرهون عنها؟ ساحة حرب جنسية غابرة”
وأخيرًا يحضر سفر الأمثال على هيئة اقتباسات تطريزية يتعانق فيه الحاضر بالماضي شعرًا ومأثورات شعبية وخلاصة فلسفات، وهو ما سيتضح أكثر في الحديث عن تعدد الفواتح والخواتيم أثناء تحليل إجراءات البنية الإنجازية للديوان التي ستأتي تفصيلًا فيما بعد.
هذا عن التراث المسيحي الذي يتبنى قضية الألم بوضوح، فماذا عن الألم أيضًا في التراث الفرعوني القديم، ومن ثم كان البحث الأبعد في تاريخ الشخصية المصرية عن العثرة والعودة إلى البدايات، عاد رفعت سلام إلى الوراء قبل المسيحية كي يحضر التاريخ كله مجنزرًا ليمثل أمام محاكمة شعرية طليعة أسئلتها: خطأ ما حدث أم مصير؟ إخفاق أم قدر؟ عاد ليحضر أدلة الثبوت والنفي، وقد تجلى هذا في استثماره للمكتوب عن التاسوع المقدس، وشكوى الفلاح الفصيح، وكتاب الموتى، ليضع المكتوب كله على الجدارية المستعادة، حتى تخرج عن المناسبة إلى الناموس: “أنا ناموس نفسي، لا ينقصني شيء أو أحد، والعالم المناسبة الواهية” (الديوان: 54). وإشارة “التاسوع المقدس” – بخاصة- تواجه الأزمة بشكل مباشر، إذ تستحضر آلهة مصر القديمة الموكولة بتسيير الأمور:
- آتوم رع إله الشمس وخالق العالم
- جب إله الأرض
- نوت ربة السماء
- شو إله الهواء
- تفنوت ربة الشمس والقمر
- ست إله الشر والعنف
- إيزيس ربة السحر
- أوزوريس حاكم مملكة الموتى
- نفتيس ربة المنزل
لأنها تضع المصري أمام تاريخه، وتفتح باب “لماذا”، لماذا تتكرر النكبة في عصور هذا الإنسان المختلفة؟ ولا شك أن هذا السؤال يعكس أعلى درجات الألم؛ لأنه لا يسأل عن واقعة وإنما يسأل عن حال متجددة تراكم وجعها عبر آلاف السنين:
أيها التاسوع المقدس
نحن رهائن الكون، يتامى الأرض، لا آباء
ولا آلهة. لا رجاء ولا عزاء
شربنا ماء المستنقعات حتى نفد، أكلنا
الفضلات المرمية للكلاب والقطط الشاردة
حتى نفدت. نفد الفرح، ولم يبق إلا النواح
نفدت الطمأنينة، ولم يبق إلا العذاب. لا
رقص ولا غناء، في غيبة الأبناء في
السراديب المجهولة. والزفاف مرجأ إلى
الأبد.
ولا يكتفي رفعت سلام بطرح السؤال الذي يفتح باب “لماذا” الضارعة، وإنما ينتقل إلى استعداء الآلهة بعضها على بعض، كما لو كان قد تراءى له أن الصراع ليس بين بشر وبشر، وإنما صراع بين الآلهة بعضها البعض، يستعدي الإلهة “ماعت” بريشة النعام فوق رأسها التي ترمز للعدل، وبمفتاح الحياة في يدها اليسرى، وبصولجان الملك في اليمنى؛ حتى ترد الأمور إلى نصابها، فلماذا سميت مصر بأرض النيل والماعت إن لم يكن هذا في مقدورها؟ أليست هي المتحكمة في حركة الفصول والنجوم؟ يستعديها أملًا في رفع اللعنة وإقالة العثرة؛ لأن ما حدث بدا غير مفهوم إلا في نطاق صراع فوق طاقة البشر، لماذا لا تحلها الآلهة إذن فيما بينها وبين بعضها البعض: ماعت في مقابل التاسوع المقدس:
لا، يا ماعت، آن لصمتك أن يدوي بالعدل والحقيقة إلى التاسوع المقدس،
هل مدى مفتوح على اللازورد، أم خسارة قادمة؟ (الديوان: 127)
وفي هذا السؤال رفع للحرج عن المصريين الذين تورطوا في الثورة وإيعاز في الوقت نفسه بضرورة مواصلة الرحلة، فعلى الإنسان أن يكمل، والحياة لابد أن تعاش، ولذلك يستمر المتن الشعري – في الديوان- بصوتيه: الذكري والأنثوي اللذين يمثلان الحياة حتى الصفحة (133) بينما تتوقف الحاشية التي تهيمن عليها شكوى الفلاح الفصيح قبل ذلك، وبالمقارنة بين النهايتين فإن الإغراء بالرضا الذي يمنح القدرة على التكيف يستمر خمس عشرة صفحة بعد صمت الشكوى في الصفحة (118)، التي تلتبس في أدائها بكتاب الموتى عبر الديوان كله:
تنظر إلينا الأرباب
بلا اكتراث
تشيح بوجوهها عنا
إلى الجهة الأخرى
فإلى متى نشكو ونصرخ؟
وفي الضفة الأخرى من النيل
يعلو صوت الغناء والقياثر
بقصور السادة
مخفورين بالكهنة والعازفين،
ورائحة الأطعمة الشهية
تهب على الجائعين
ودفعًا في اتجاه خطوة أكثر تعمقًا وفحصًا للطبيعة الإنجازية في ديوان: “أرعى الشياه على المياه” لرفعت سلام، فإنه يمكن رصد مجموعة من الوسائل التي توجه أداءاته في كتابة المناسبة، وتعمل على ربط المؤسسات الكلية السابقة بالتركيب وتعشيق فسيفساءاتها في الجدارية الشعرية الهائلة، هذه الوسائل هي:
- طريقة تقديم المحتوى presentation.
- والاستعانة بالرموز غير الكتابية.
- تعدد الفواتح والخواتيم للكتل الشعرية التي يتألف منها الديوان.
- الإحالة إلى الذات.
- الميتا- نصية.
- إعادة التسييق.
وشرحًا لكيفية عمل هذه الوسائل فإن رفعت سلام – بداية- يتخذ في طريقة تقديم المحتوى الشعري في هذا الديوان تقنية الموالفة (الكولاج والبري كولاج)، وهي تقنية تشكيلية مميزة لأداءاته السابقة في: “هكذا تكلم الكركدن”، و”حجر يطفو على الماء” و”إشراقات رفعت سلام”، من حيث تقسيم الصفحة؛ فالديوان بقصائده في شكله القديم يختفي هنا لتحل محل القصائد أجزاءٌ متتابعة لا تحمل عناوين داخلية، يقرأ كلُّ جزء منفصلًا ومتصلًا في الآن ذاته، إذ تطالع العين على بياض الصفحة متنًا شعريًّا رئيسًا يحتل مركز الصفحة، وحاشية على اليمين، وهوامش في الأسفل، مع تنويع في البنط الكتابي، بينما تتناثر رسومات ورموز لكائنات وشخوص وأشياء من عمل الشاعر نفسه لتحتل الفراغات البيضاء المتبقية في الصفحة، إضافة إلى بعض الأشكال الهندسية التي تؤطر اقتباسات ومقولات أخرى تلوح من وقت لآخر على نحو غير منتظم، وقد تتوقف العين لتُحَيِّز جزءًا غير أنها لن تسلم من تشويش الأجزاء الأخرى التي تلتقطها بشكل لا إرادي، وبذلك تمارس الأجزاء جميعًا تشتيتًا على بعضها البعض أثناء القراءة مما يمثل عقبة في تدفقها، وحجة من حجج إبطال التأويل، ولا يمكن فض هذا الاشتباك بالتعامي مما يمثل ضغطًا كبيرًا على القارئ أشبه بما يمارسه الضوء على عين إنسان واقف في مسرح للمرايا.
وتعد الاستعانة بالرموز غير الكتابية، إضافة إلى طريقة تقديم المحتوى، أداة أخرى من أدوات مضاعفة الدلالة في الديوان، فهي ليست رسومًا أو رموزًا اعتباطية، وإنما هي دوال مرتبطة بالسياق العام للديوان لا تستعصي على التأويل، مثلًا شكل الشمس المنطفئة في الصفحة الأولى للديوان لا شك أنه يمكن تأويله بالثورة المجروحة ظاهرة وغائبة في آن، كأنها تحت كشطة كما يقول دريدا: أشعة تعطي إيحاء بإضاءة العالم غير أنها أشعة سوداء، فهذا الوجود الأسود للشمس يقدمها على أنها شاهد عيان على تاريخ طويل من النكبات (فرعوني ومسيحي وإسلامي)، وتعويذة للخلاص في الوقت ذاته، الأمل الذي لم يتعب من مرافقة اليأس عبر الديوان كله.
وإلى جانب هاتين الوسيلتين يعتمد الديوان على إستراتيجية تعدد الفواتح والخواتيم، فالديوان يبدأ من الجزء ويبدأ من الكل، من المتن ومن الحاشية ومن الهامش، ولكل نهاية، وهو ككيان عضوي يشهد نهايات يسبق بعضها بعضًا، وتتخذ النهايات أشكالًا متنوعة، كأن تأتي النهاية قطعة غنائية ملتبسة بالكتاب المقدس، أو مرصعات داخل أطر هندسية موزعة على فضاء الصفحة الأخيرة تقوم بدور تلخيص الرسالة وتأكيد الرؤية، وقد تأتي مقطعًا دراميًّا مفتوحًا، أو بيانًا حاسمًا كالذي ختم الشاعر به الجزء الأول من الديوان:
دم في الشوارع؛
دم في الزنازين؛
دم في الميادين؛
دم في العراء؛
دم يغطي وجه السماء. (الديوان: 21)
أما عن المرصعات التي تأتي داخل أطر هندسية مربعة ومستطيلة فيمكن إعادة ترتيبها وتصنيفها إلى حزم تسهل القراءة واستنباط الدلالة، وللإيضاح فإنه بإعادة ترتيب نموذج من نماذجها في الديوان (ص: 68) نحصل على الحزم الأربعة الآتية:
– متى يؤون الأوان لمن لا أوان له؟
– ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا.
– ما الذي يهطل في قلبي؟
– يهطل الظلام في قلبي لا يبللني.
– وبين أصابعي سمكة حمراء، والثوب الشفاف ملتصق بجسدي.
– فنجهل فوق جهل الجاهلينا
– ولكنه ضحك كالبكا
– وحاربت بدلًا منها الأناشيد
– ما الذي قاله العصفور؟
– صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض.
الحزمة الأولى تستدعي نصًّا قرآنيًّا من سورة الكهف: “لن تستطيع معي صبرا”، يناقش قضية الغيب التي لا يفهمها الإنسان ومن ثم يتعجل الفهم، وهو نص يحتل من الحزمة مكان الإجابة عن سؤال إشكالي يسبقه: “متى يؤون الأوان لمن لا أوان له؟ ” ومن ثم فلا إجابة. والحزمة الثانية: سؤال وجوابان عن هذا السؤال، وهي تقدم في مجموعها حالة من الانتظار الذي يثقل القلب لحضور منشود ربما يبدد الوحدة ويستبدل الفرح بالحزن، وهو انتظار لا يسلم من الإيروتية في قوله في النص الأخير من هذه الحزمة: “بين أصابعي سمكة حمراء، والثوب الشفاف ملتصق بجسدي”، والحزمة الثالثة عبارة عن ثلاث إشارات شعرية مقتبسة من عصور مختلفة: جاهلي وعباسي ومعاصر، الأول: لعمرو بن كلثوم، والثاني: للمتنبي، والثالث: لأمل دنقل، الأول: عن قانون التعامل مع الاعتداء برد الصاع صاعين، والثاني: توصيف للأزمة المصرية: “ضحك كالبكا”، والثالث: يعري ولاة الأمر الذين يتخذون من الأناشيد حيلة تعويضية عن الحرب ومهربًا عن مواجهة المشاكل وتقديم الحلول (نامت نواطير مصر عن دساكرها / وحاربت بدلًا منها الأناشيد)، والإشارات الثلاث كما يتضح لا يذكر رفعت سلام أشطرها الأولى، ويكتفي بأشطرها الثانية، عملًا بمبدأ التشذير الأيقوني الذي يقوم بدورين معًا: دور تحريضي، ودور تقريعي يجمعهما سؤال افتراضي: أليس هذا تراثنا الذي نحمل؟ لم لا يكون دافعًا على الخلاص؟ أو جملة طلبية: هاكم مانشتات الثورة والغضب فبأيها شئتم فخذوا.. ، والحزمة الأخيرة يستعين فيها الشاعر بموروث شعبي تقوله الأم المصرية لطفلها حين تعلم عنه ما يريد إخفاءه: “العصفورة قالت لي”؛ ليشكل زواجًا غريبًا بين ما هو شعبي وما هو ديني: ما الذي قاله العصفور؟ قال: صوت أخيك صارخ إلي من الأرض. فكأن رفعت سلام أراد أن يقول بكل اللغات: إن ما حدث كان جريمة.
هذا، وتتفرد خاتمة الديوان التي تحتل الصفحات السبع الأخيرة منه، إذ تأتي مقطعًا دراميًّا متسارعًا يكاد يلخص الديوان كله بأصواته المتعددة، وإيقاعاته الصارخة، وشخوصه المتداخلة؛ حيث تشهد اختلاطًا في الضمائر يصعب تمييز المتحدث فيها، خاتمة ملبسة وملتبسة تقدم معادلًا فنيًّا لالتباس حضاري تعاني منه الشخصية المصرية، خاتمة تحضر فيها ماعت وإيزيس ويحضر ست آلهة ملتبسة جميعًا بالشعب والطاغية ملتبسة بالفلاح والنبيل، في حالة تقنُّع تتداخل فيها الهويات وتتبدل إلى ما لا نهاية:
قناعي وجهي
ووجهي قناعي (الديوان: 130)
خاتمة بؤرية تجمل القول وتبرر أن يظل الفعل ملتبسا على الشاعر الذي يقدم نفسه وقد بلغ به الشك غايته على أنه العراف الأعمى:
أين الموسيقات العسكرية؟ لا بأس أيها اليأس،
لا سوى الذاكرة المشروخة، أغنية بلا صوت أو صدى،
أين الطبول والأبواق تخفر الدم والحريق؟
نفد الوقت منا؛ وذوت ورود القلب، فاتئد، أيها المتشح بالغرابة،
فما الذي تنتظر؟ هل كسرة قمر؟ هل قطرة مطر؟ حلم أم وهم؟
أنا العراف الأعمى،
رأيت ما رأيت؛
فهل خانني الوقت أم البصيرة؟
تلك أغنيتي الأخيرة،
طلقتي الباقية في جعبتي النافدة؛
أيتها الأرض الكاسدة
هذه ثلاث وسائل خارجية للأداء الإنجازي في الديوان تتواشج معها ثلاث وسائل أخرى داخلية: الإحالة إلى الذات، والـميتا- نصية، وإعادة التسييق؛ إذ إن رفعت سلام يقدم نصًّا يحيل ضمن إحالاته المتعددة لا إلى معرفة خارجية فحسب وإنما إلى معلومات تخص عالمه الشعري عبر دواوينه كلها، ولا شك أن هذا يعكس وحدة العالم الشعري وارتباط المنجز في أجزائه المختلفة بعضه البعض، فيكتب في المتن الشعري عل سبيل المثال: “أنا الجنرال الأحد أقول للشيء كن فيكون”؛ ليحيل إلى هامش يحيل بدوره إلى دواوين سابقة له كـ”هكذا تكلم الكركدن”، و”حجر يطفو على الماء”:
حلمت البلاد والعباد بي دهورا،
وحلمت الأرض قرونا،
أنا الفرد الأحد،
تجهلني النسبية وعوامل التعرية:
راجع ديوان “هكذا تكلم الكركدن”،
وربما أيضًا “حجر يطفو على الماء” (الديوان: 62)
وهي النرجسية التي لا تتبدى فقط في الإحالة إلى الذات وإنما تظهر أحيانًا في إشارات مقارعات لشعراء آخرين لا يسلمون من نكزاته من حين لآخر، ولذلك يقدم أحيانًا عبر الديوان إشارات ميتا- نصية يشرح فيها سر خلطة تميُّزه عن الآخرين:
كان جسدي مليئًا بالجيوب،
لكنني اكتشفت بعد فوات الأوان أنها طوال الوقت كانت مثقوبة،
تسرسب ما أضعه فيها من ذكريات وأسماء
وبصمات ومفازات سرية، وكلمات مهجورة أو ميتة،
مما يهواه بعض الشعراء، وطرقات مهجورة لم تطأها قدم… الخ:
فما حيلتي الآن؟ (الديوان: 40)
وتتخذ الميتا- نصية شكلًا أكثر مباشرة بالحديث عن المرأة، الصوت الأنثوي في النص الذي كثيرًا ما يلتبس بالقصيدة فيقول:
نعم ليست رمزًا ولا استعارة لغوية،
ليست كناية أو استعارة مكنية،
ليست أرضًا أشقها وأحرثها،
ولا وطنًا رومانتيكيًّا أغنيه
وأدسه في قصائدي. (الديوان: 44)
فليس شعره حين يعالج قضية المرأة رمزا أو استعارة أو كناية ولا أرضا أو وطنا، إنه شيء فريد من نوعه في تاريخ الفن، وفي تاريخ الحديث عن النساء:
هي اختصار آلاف السنين من شهوات النساء العارية،
مما لا عين من قبل رأت ولا أذن سمعت،
ولا خطر على خيال شاعر. (الديوان: 44)
ولذلك يطرح سؤالا حول ما يذكره عن كنه هذه المرأة/ القصيدة؛ ليجيب إجابة الحسم التي تصل بالنرجسية إلى ذروتها حين تبطل التشبيه بالشكل الذي يقترب من نرجسية المتنبي:
فمن تكونين يا امرأة السهو والينسون؟
كأنك لا، فكل تشبيه باطل، وعكاز مكسور
لا أنت الألف والياء،
سيدة النساء، والأبجدية المجهولة العصية. (الديوان: 47)
وفي ضوء ذلك تبدو الإحالة إلى الذات مفهومة في إطار الإحساس المفرط بالذات، وتبدو الميتا- نصية مفهومة أيضًا في سياق تقديم نص مغاير يعرف صاحبُه عنه أنه مغاير ومختلف، بعد أن أثمر التجريب معه وتمخض عن نصه الخاص الذي يميزه.
وأخيرًا تأتي وسيلة إعادة التسييق خاتمة لوسائل الأداء الإنجازي في كتابة المناسبة عند رفعت سلام في هذا الديوان؛ وفيها يعمد الشاعر إلى أعمال سابقة، أو نصوص دينية، أو شعرية، أو مقولات مأثورة… الخ، فيعيد تسكينها في نصه بشكل يخالف سياقها الأصلي، وهي وسيلة تتسق ومنحى رفعت سلام العام التدميري في التعامل مع التراث الذي يحكمه قانون الإثبات والمحو، الأمر الذي يذكره صراحة حين يقول:
أُعِدُّ أنشودتي البهيجة، وأوشيها بما تيسر
من خزعبلات باهرة، وأقوال مأثورة،
واقتباسات حداثية من فوكو
وجنيت وإيهاب حسن، وهلمجرا. (الديوان: 49)
وعلى حين تأتي إعادة التسييق مقبولة رهيفة في قوله:
جسدك بوابة للفردوس والجحيم،
ملاذ للعابرين المساكين، وأبناء السبيل، والمؤلفة قلوبهم، والعاملين عليه،
يأكلون، يشربون، يمرحون، ينكحون، يضحكون،
يتشاجرون، يعبثون، يعيثون كما يشاءون (الديوان: 73)
تأتي غير مقبولة صادمة وقاسية حين يضع الآية الكريمة مشطوبة في سياق متنه الشعري الرئيس: “يا ليتني كنت ترابًا.