د. جمال فودة
حزيناً كان يمشي في طريقه الجديد، بلا قيد بلا قافية، تنساب من عينيه مواجع بلا ضفاف، تتلمس في تجاعيد الوجوه منقذا من شبح الموت ومخاض القصيد، شاعر الحزن والألم، الباحث عن الحقيقة في شوارع المدينة البائسة” موعدنا اليوم لنبحر في الذاكرة مع (أحلام الفارس القديم) نرصد (تأملات في زمن جريح)، مع رائد الشعر الحديث (صلاح عبد الصبور)
تبدو ملامح الحزن على وجهه، فتنعكس على كتاباته، وتشكل عالمه، تتناثر الآهات بين مفرداته، وجمله، وصوره، وموسيقاه، فترى قصائده وكأنها زفرات أسى، يتجاوز فيها المرء مكنون ذاته؛ ليهرب من عالمه إلى عالم موازٍ يستشرف في آفاقه سحائب الأمل المفقود، وأنى للكلمات محدودة العدد ضيقة المسافات أن تبحر في المدى الواسع، وتعانق آفاقاً بلا حدود لتسكب المشاعر في قالب يمنحها النبض الحقيقي ؟!
ومعنا يطرح شاعرنا السؤال على لسان حبيبته:
تَسْأَلُنِى رَفِيْقَتِى: مَا آخِرِ الطَّرِيْقْ
وَهَلْ عَرَفْتُ أَوَّلَهْ
نَحْنُ دُمًى شَاخصَهْ
فَوْقَ سِتَارٍ مُسْدَلَهْ
خُطًى تَشَابَكَتْ بِلاَ ..
قَصْدٍ عَلِى دَرْبٍ قَصِيْرٍ ضَيَقِ
اللهُ وَحْدَهُ الذِى يَعْلَمُ مَا غَايَةُ هَذَا الْوَلَهِ المُؤرِّقِ
يَعْلَمُ هَلْ تُدْرِكُنَا السَّعَادَهْ
أَمْ الشَّقَاءُ وَالنَّدَمْ ؟
وَكَيْفَ تُوضَعُ النَّهَايَةُ المُعَادَهْ
المَوْتُ … أَوْ نَوَازِعُ السَّأَمْ ؟
تبدأ القصيدة بحوار بين عاشقين يرسم صورة متشابكة الخطوط باهتة الملامح مجهولة المصير، صورة اعتمدت على الحوار الداخلي واللحظات الإشرافية التـي تفترش الوجدان، هذه اللحظات الوشائجية تعبر عن حالة من التيه والضياع، تنطلق من الحاضر إلى الماضي وهذا يفيده تكرار الاستفهام: مَا آخِرِ الطَّرِيْقْ ؟، هَلْ تُدْرِكُنَا السَّعَادَهْ؟ وَكَيْفَ تُوضَعُ النَّهَايَةُ المُعَادَهْ؟، وفي هذا تعبير عن محاصـرة الحاضر والتشبث بالماضي الذي يقع في إطار التحصن بالرابطـة النفسيـة للعلاقة الضاربة بجذورها في الماضي، لتلقي بظلالها على الحاضر القاتم والمستقبل المجهول.
وفي هذا الزمان أصبح الحب لحظة شبق، تنتهي لذتها قبل أن تتحدد أبعادها، أو يعرف الممارسان لها أحدهما الآخر، يقول:
الحُبْ يَا رَفِيْقَتِى، قَدْ كَانْ
في أَوَّلِ الزَّمَانْ
يَخْضَعُ للتَرْتِيْبِ وَالحُسْبَانْ
” نَظْرَةٌ، فَابْتِسَامَةٌ، فَسَلاَمٌ
فَكَلاَمٌ، فَمَوْعِدٌ، فَلِقَاءُ “
اليَوْمَ .. يَا عَجَائبَ الزَّمَانْ !
قَدْ يَلْتَقِى في الحُبِّ عَاشِقَانْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْتَسِمَا
ذَكَرْتِ أَنَّنَا كَعَاشِقَيْنْ عَصْرِيَّيْنِ، يَارَفِيْقَتِى
ذُقْنَا الذِى ذُقْنَاهْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَشْتَهِيْهْ
الحُبُ في هَذَا الزَّمَانِ يَا رَفِيْقَتِى …
كَالحُزْنِ، لاَ يَعِيْشُ إِلاَّ لَحْظَةَ البُكَاءْ
أَوْ لَحْظَةَ الشَّبَقْ
وبالنسبة لطقوس الحب فقد أصبحت أثراً بعد عين؛ إذ صار هذا الحب العصري حوار أجساد بدلاً من حوار الأرواح، وبذلك اختفت نكهة الإيماء، وانقرضت لغة العيون، وسادت الرتابة والإسفاف، كيف لا والحب الآن ينمو في ظروف غير طبيعية، فافتقد الغموض الذي كان يلهب عاطفة وخيال الشاعر الرومانسي، ومن ثم لا تجد فيه غير الأسى والسأم، فتحول إلـى مخاطبـة الخـارج المتجسد بالماضي المنصرم، حيث نلتقي بصورة الحب في أبسط صوره؛ هذه الصورة التي تشكل عزاء للروح المعذبة، وهي تعيش محنتها القاسية في واقعها الحاضر.
إن مأساة شاعرنا مردها إلى الزمن ؛ فهو يعاني الأمرين بسبب المقارنة بين ما كان وما هو كائن، ولا سبيل لرجوع الأول أو تغيير الثاني، (قد كان / اليوم )، فالزمن يؤطر منزعاً عاطفياً ويجسد نزعة فكرية، فإذا ذكر الماضي في مقابل الحاضر فليس لأى منهما دلالة منفصلة عن الآخر، والتضاد الذى بينهما تقل مسافته بالتطور الذى يلحق الطرفين عن طريق تنامي الأول منهما في ضوء الثاني، وتنامي الثاني في ضوء الأول من خلال التفاعل ؛ وذلك لأن كل طرف من طرفي التناقض يحمل بعداً شعورياً لدى الشاعر، أو بمعنى آخر يعبر عن حالة خاصة من حالات تجربته الشعرية .
إِذَا افْتَرَقْنَا، يَا رَفِيْقِتِى، فَلْنَلْقِ كُلَّ اللوْمْ
عَلَى زَمَانِنَا
وَلْنَنْفُض الأَيْدِى في التَّذْكَارِ وَالنَّدَمْ
وَلْنَمْسَحِ الظِّلاَلَ عَنْ عُيُونِنَا
وَلْنَبْتَسِمْ في ثِقَةٍ، بِأَنَّ مَا حَدَثْ
كَانَ إِرَادَةَ القَدَرْ
وَأَنَّ آمِرًا أَمَرْ
وَأَنَّنَا قَدْ اسْتَجَبْنَا للذِى نُحِسُّهُ
حِيْنَ قَتَلْنَا حِسَّنَا
وَأَنَّ مَا مَضَى
أَهْوَنُ مِنْ أَنْ نَحْمُلُهُ كَأَمْسِنَا
مِنْ أَنْ يَمدَّ ظِلَّهُ البَغِيْضْ
عَلَى شَبَابِنَا
وَلْنَنْطَلِقْ مُغَامِرِيْنَ ضَائِعِيْنَ في البِحَارِ العَكِرَهْ
نَمدُّ جِسْمَنَا الجَدِيْبَ، وَالضُّلُوعَ المُقْفَرَهْ
في الغُرَفِ الجَدِيْدَةِ المُؤَجَّرَهْ
بَيْنَ صُدُورٍ أُخَرٍ مُعْتَصِرَهْ
واستعمل الشاعر للتعامل مع كلا النقيضين الفعل المضارع المقترن بلام الأمر (فَلْنَلْقِ، وَلْنَنْفُض، وَلْنَمْسَحِ، وَلْنَبْتَسِمْ، وَلْنَنْطَلِقْ)؛ ليكسب الدلالة صفة الديمومة والحركية، دوام وجود المتقابلين الزمنيين من جهة واستمرار تجاذبهما المعنى الشعري من جهة أخرى، واستعمال الشاعر الزمن الماضي إعلان بمكابداته ومعاناته الممتدة، هذا الاتجاه الذي يجد في نفس الملتقى استجابة، ويحدث معه التداعي، فيجعل كل قارئ يبكي على ليلاه!
فضلاً عن رفع الحرج، والتنصل من المسئولية، وخلق الأعذار لكل الإخفاقات التي منينا بها:
فَلْنَلْقِ كُلَّ اللوْمْ
عَلَى زَمَانِنَا
وَلْنَبْتَسِمْ في ثِقَةٍ، بِأَنَّ مَا حَدَثْ
كَانَ إِرَادَةَ القَدَرْ
وَأَنَّ آمِرًا أَمَرْ
ومن ثمَّ حاول الشاعر الاندماج وسط الجموع في محاولة ناجحة لتجسيد مأساة الذات وإظهار غربتها النفسية؛ لـذا فإن الشاعر في لحظته الآنية كان لا بد أن يتعايش مع الواقع بكل ما يضج به من صور اللاشعور الجمعي.
بهـذا الأداء الشعري الذي سما إلى مستوى التعبير الفني الإيحائي الشفاف الذي لا يثيـر المخيلـة فحسب، ولكنه ينفذ إلى الذهن عن طريق الحس، فيصدمه أولاً بصوره المعطى الحسي المقصودة، ثم يفاجأ بعد ذلك بما يخفيه هذا المعطى الحسي من دلالات نفسية وفكريـة؛ وذلك بوساطة الإيماءة السريعة، التي يتلقفها العقل والشعور.