خُلوَةُ التَّجرُبَة

موقع الكتابة الثقافي art 66
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناصر الحلواني

يتضوع في فَلَكِ المدائن طِيبُ رَند

يقبسُ نون من روحه نفحةٌ

يصوغ من أسبابه سراجا

يعلِّقُه مثل ثمرة في حِنيَة مشكاة تنبت في مكانه، فيُشرق محرابُها بنفحات نور، تُحيي رميمَ قصيدة غابت في جدار الجير، وترفع رماد الصدأ عن طُغراء سيف تغمَّد دروعا وصُلبانا فأضناها، وتدفع بالغبار عن صدفات عاج، وتواريق نُحاس، ورصائعٍ من بهاء النجم، تحلَّى بها صندوقٌ مصفَّحُ الجنَبَات برموز ورسوم، مُترفُ الظاهر، زاهدُ القلب إلا عن حروف الحبيبة.

يحمله نُون، يمرُّ ببنانِه المتيَّم على رموز الجوانب، ويترنمُ بأسماء الرسوم، ينفتح له الصندوق، يحطُّ بكفه على لفائفٍ مصنوعة من ورق شَاطِبَة، محكومة الخصرِ بشرائطٍ من حرير المريَّة، ذاخرة المتن بآيات هُيام رَند، تصطلي حواشيها بتواريخ من أحوال متاهتها، ويروجُ في أنحائها بَخور عطر ينفردُ مثل زغب نور رهيف، يخفق خفقان التائه بين مراتب العشق، ويتسعُ وئيدا في لوعة، حتى يحوي أرواح الأشياء المنثورة، وأبدان الحمام الآيب من حُلمه، وشوقَ العاشق للسالكة إلى عِرفانِها، تطلب المعشوقَ معرفةً، وتستضئ بسراجه، وترتلُ:

أي زمن ألج الآن

الأزل والأبد آن

والآن حضرة الديمومة

وسفرٌ آبد

أي ترنيمة تصلح

أن أستهل بها سفري

أي سبيل يفي

بالخروج من مقام التيه واللوعة

ويالها من لوعة

الأخيلةَ أم الخيولَ أمتطي

عبر متاهتي المنصوبة أمامي

كتجليات المرايا في المرايا

بالمعرفة أم بالفراسة أستضيء

في سبيلي المشكول من طَفلَةِ أرواح

مسفوكة بالعروش والنزال

فترمَّلَت عهودها

المرصَّعة بنفائس جوهرٍ غَنمَته

فغَدَرَها

بلوامعِ السماء أستدلُ

أم بالحروفِ الآبدة

في طوايا الرملِ

ليس من شيء سافرٍ

ولا يقين سوى المتاهة

دوام لا يكلُّ

زمن لا يدلُّ

وأماكن لا تهدي

السيف أجدى من كتاب

كتابٌ أجدى من رِفقة طائر

أم الوحي أجدى

أم لمحة

من شغاف الهادي المنتَّظِر

يصنع لي سراجا

من معدن روحه

ليضيء لي بنور لا يغيم

فأفوت به

عبر ساحات الوغى والوحشة

من غير أن أفنى

وآن تنتهي من وِردِها تكون إلى بستان التجربة، تمضي مثل ألفٍ مضيئة تنشدُ تعيُّنها وكمالها، تسير إلى بستان الأسرار، يغمرُ بصرَها بحرٌ من حليب الضوء، في قلبه لا ترى سوى قبةً، تصعد مثل موجة، لها لون الحجر، وملمس نهار، ومن تحتها بناءٌ صغير، وجدران أربعة، تواجه جهات الأرض.

في الجدار الجنوبي، تلمح قوس باب، تدفعه وتدخل، تعاينُ بهاء السكون، وجلالَ نفس تمارسُ وحدتَها، وشيخا على بِساطِه يصلي، وفوقه، في سُرَّة القبَّة، طاقة مفتوحة على السماء.

يُرجف قلبَها الصَّمتُ، وصوتُ الباب المسكوك، يخدش رمل أرض لا تراها، وملاء من وجد المتهجد، يوحي إليها أن قَرِّي، تقعد على طرف البساط، خلفه، يفرغ من صلاته، ويتجه نحوها، تبادره بلهف الضَّال:

ـ “أين في بستان أسري يكون هذا المكان؟”

يقف أمامها، تحت الطاقة المفتوحة على السماء، يومئ بعينيه للنجم الساري عبرها.

ـ “ما بين قلبك وعقلك تكون خُلوة التجربة، بَساطةُ الوجودِ وعناؤه، بين جدران تذهب إلى أقطاب الكون الأربعة، وتحت قبة تحمل سماء، تحتها نكونُ، وبراح لنفسٍ تسعى في مداركها، وطاقة تمنُّ على سرِّ خُلوتكِ بنور وظلمة، وأرض تحملُكِ، جسدا يحوي عقلا وقلبا، يحملان عمودَ الروحِ النافذِ عبر الطاقة، يصلُ بين نقطة وجود تتعلق في فضاء نون، وبين ألفِ الكلِّ في العُلى، يحملُنا بساطٌ، يأتيه الزمن من كل صوب، ويمضي في خيوط نسيجه حتى يبلىه، فلا يعود له وجود، ولا لنا حياة، لينكشفَ مرقدنا الأخير، فراغ من حُلكة، يحيل البساط بيننا وبينه”.

ينفذ ضوءُ نَجمٍ بعيد عبر الطاقة المفتوحة للسماء، ينفردُ مثل شاشة ضوء، تنشر في المكان ألقَ فضة، فيتراءيان، تتجه إليه رَندُ:

ـ “أي متاهة تجتاز، وبأي تجربة تمرُّ؟”

ـ “إن كمال جمالكِ لي، في هذا الكون، تجربة” يجيبها.

تجفلُ، وترجعُ بظهرها خطوة عنه، ينمُّ ثغرُه عن ابتسامة هادئة، تعكس ثناياه نسمة من فضة النور إلى عينيها، تطمئنُ إلى بساطه، وتقعدُ، ويقعد إلى جوارها، ويشير إلى أعلى الحائط الغربي.

ـ  “سيبزغ بعد قليل نور نهار جديد، يوم تجربتكِ، فإلى حيث أشرتُ انظري، وستبدأ رحلتكِ، سفركِ المقدَّر عليكِ، لا تأبهي للدم بل بالحكمة، حتى تجتازي متاهتكِ”.

وكانت فضة النور تستحيل إلى رمادية، فيغشى المكان ضبابُ صُبحٍ ونورٌ لمَّا يخلَصٌ من ليله بعد، يمر عبر سرة القبَّة، من جهة المشرق، إلى حيث أشار لها، ترنو إلى شاشة الضوء الخفيفة على الجدار الغربي.

تناغش سمعَها ريحٌ، وتأوه رمح أصَم ينغرز في الرمال ويأسى، تتبع صوت أساه حتى تجيئه، ترى قناته مائلة جهة الغروب من أثر هوانه، وإلى جواره خوذة موسومة الأنحاء بخرائط دم، شُجَّ مَعدنُها، فانفصل عن قبتها هلال، تضمه في كفِّها، وتتبع وجعا يقبضُها، تلمحُ في غضون التلِّ جسدا مطروحا، مطعون الأنحاء بالنصال، تميل عليه بطرفها، فلا تجود نفسُه بأكثر من موتٍ حال.

تُريقُ على جسده بعضا من رمل تحنَّى بدمهِ، وتقرأ آية من كتاب شهادته، فيعبق تيهُها بصوت أذان له سحر نبوءة ترتاد تخيالها، ويتردد في أسماع العابرين، يرتدُّ صداهُ إلى جبل كعَرشِ ملكٍ غافقي، حاشيةُ بلاطِه الشهداء.

ملكٌ رأته يتفقدُّ مواقعه، يطوفُ بين جنده، يُصلي بفرسانه، ويسعى بفتوحاته عبر أندلسه، إلى مملكة الغالْ، فتلحقُ بركبِهِ، وتذهبُ والذاهبين إلى غزوهم، يفتحون المدائن العامرة، يغنمون نفائس أيقون وجوهرٍ، يراكمُونَها في خيمة غنائمهم، ويحملون على الإفرنج، يأخذونهم أخذ المتاهة للضَّالِين، بتدبيرِ قائدٍ، دنياه سوى سيف سهل السجايا موسوم بطُغرائه، وروحه سوى حرف يحرث أزمانا بائرة، ليغرسه في معارفها، يتقدم مثل راية، ومثل ريح يتبعه مجاهدوه، ينفذون في الهول المحيط، فتغشى الساحات صلصلةٌ ولغةُ موت، وأنَّاتُ دروع هلعت صُلبانها، تُخادع بفرارها، لتنسلَّ من فلولها المهزومةِ سريةٌ تسلبُ خيمة النفائس المغنومة، فتتبدل سَكرة أعراب وبربر يرتدون عن نصرة ملكِهم ليدفعوا السالبين عن مادة كنوزِهم، تاركين أميرَهُم لسيفه، واختلال يسود صفوف مجاهديه.

يحوِّمُ وبضعُ زاهدين، يلمُّ شتات جند لا يأبه بغير غنائمه، ويواجه نصالا آيبة من موتها، وقوسا تراه رَندُ يزفر من وتره سهما يقرُّ في حتف ملكها، يرمي به عن فرسه، إلى بلاطِ شهادته، وفي جنبه غمدٌ، ترنوه خاليا، تبتحث سيفَهُ، فلا أثر.

وفي سمائه، كانت غيمة من طيور، تطوف فوقه، تهشُّ شهوة عقبان تتربص بالمطروحِ في دمه مجردا.

وفي براح الخُلوة تتحول رمادية الضوء إلى لون صُبحٍ يشرع في بسط نوره خالصا، فتغيب ملامحُ الجسد المغدور تحت نهار شمس تصعد وئيدة.

تهبط شاشة الضوء على الجدار، وتميل رَندُ إلى شيخها بشجنها، وألم يتخلَّقُ في منطقِها سؤالا:

ـ “أيشترون مقدار خيمة من معادن أرضية بنفائس أزمان ونفوس؟!”

فيُجيبها: “وقعوا في فخِّ حِسِّهم، آثروا متعةً على تاريخ وجود”. وفي ذاكرتها ترتسم ملامحُ سيفٍ مفقود.

فتردف: “وغُدِرَ أميرٌ، نَاصَرَهُم برحمتِه وعدلِه، مسفوكٌ سيفه، وهَلَكَ شيوخُ معرفةٍ، وقادةُ نزال!”

فيذكِّرُها “بالحكمة لا للدم نأبَهُ”.

وينحو بطرفه إلى شاشة النور على الجدار، يرسمها الصبح الطالع، تكون بعينيها إليها، تنظر إلى رجل يرفرف بشمع جناحيه، يهلُّ من جهةِ الشَّمس، ينفذ مثل خيال، وينزلق في خفة على خيوط النور الكثيفة إلى فضاء الخُلوة، تفيض عليهما ريح حدائقه، وتلاحينُ وجع شفيف، ويذهبُ إلى بئرِ الضوء المرتكز في القبة، فترى لظلِّه سمت الزجاج، ولرَفيفه إيقاع شعر قرطبي يأخذه إلى منفاه، ومثل طائر مملوء بالسماء، ينغمر في السماء.

ـ “أي رجل كان، من له هذا البهاء؟” تسأله.

ـ “ابن فرناس، ملاكُ رَندَة، حارس طِيبِ الأندلس، صانع الميقاتة، وساحر الزجاج”.

ـ “لم أر لطائر مثل رفيف أجنحته وحُزنه”

ـ “رموه بحجارة من جهلهم، فصاغَ من رملها قواريرَ عطرهم”.

وعلى الجدار كانت قطرات شمع تسيل من جناحي العابر إلى الظلِّ البعيد، يجتازُ شاشة الضوء، ومعه تصعدُ شمس اليوم إلى منزل الإشراق.

وفي الخُلوة يسري عطر جاريةٍ تنجلي لخلافتها، تتأرجح صورتها على مويجات نهر قرطبي، يهدأ الماء، فيتجلى وجهها، مثل صُبحٍ لا ريب فيه، تسبح في طراوة النهر، ليس عليها غير خاتمٍ، في حُمرةِ عَقيقهِ نُقش وجهُ صبي، يلهو في عُزلة صِباه بحكايات ولاة وأمراء، ينظر من نافذته إلى الوصية على خلافته، تخرج من نهرها، تتحمم بالشمس وشهوةِ الحاجبِ المنتصبِ على ضِفَّةِ صُعودِها، يفردُ على عُريها ظلُّه، ويسفِكُ الأرواحَ الحائلة بينهما، ويقرِّبُ لصمت الناظرين ذبائحَ من منطقٍ وعِلمٍ، واجتهاد فلاسفة سوَّدوا بأعمارهم سلالات ورقٍ، أودعها نهرَ جُلوتِها ونارَ سَرِيرَتِه.

تدمع عينا رَند من قسوة ريح الحَرقِ السارية في فضاء الخُلوة.

ـ “أي عِلَّة تُحيل طِيبَ العطر إلى ريح احتراق؟” تعجَبُ.

يمد لها الشيخ يده بزجاجة ماء، ترشف رشفة صغيرة، تشعر لروحها بهجة، وفي جسدها تحسُّ نورَ اليقين يسري، فيخبرها:

ـ “هو بعضٌ من ماء نهرٍ عَمَرَ بأجساد كتب، ورمادِ معارفِ”.

وكان ماء النهر يصعد بخارا من حروف، يُهرعُ إليه الشيخ يلمُّها في عباءته، وتتبعه رَند، تنسمُ بفمها في فضاء النهر فيصير البخارُ سحابا، تلمُّهُ في وشاحها، وتؤوب إلى الخُلوة، ويؤوبُ، يراكمان ما جمعا في بَردِ رُكنٍ ظليل.

وكانت الشمس تصعد بأوارها إلى كبد السماء، تسكب قيظها على القبة، فيهبط النورُ بثقل صهد الهاجِرَة، يبتعدان عن شاشة النار الجاثمة على بساطهما، تُمزِّعُ نسائلَه المتراكِبَة، وتفرقُها في الأنحاء ألوانا مُفرَدة، تتشكَّلُ رايات، تهدرُ تحتها طبولُ عَنَتٍ، وفي نسيجها رموز أميَّة، وبربر، وعرب، وصقالبة، وعامريين.

طوائفٌ شتى، تتشاكسُ على متونِ نساءٍ وغلمان، وعلى خلافة تتشظى إلى ممالك مسفوكة الحدود، ورايات صُلبة، شرائح من طين محروق، يتخفى أصحابها في ظلها، بعباءات تُخفي صُرَرَ جِزيَتِهم.

تراهم رَندُ، يصطفُّون أمام المدخل الخلفي لخيمة القشتالي، يُكلِّلُ سوادَهم ضوءُ نارٍ تَتبعُهم، يقدِّمُون طُليطِلَة قربانا، ويمضون إلى ممالكهم، يصعدون بأرواحهم عبر حالات خمرٍ، يتربصون خلفَ أعمدةِ الرخام في أروقةِ نشوتِهم، يتطاعنون، يسيلُ الدمُ على الدمِ، يبتردُ بريح شمال تهبُّ على شراذمهم، تنحت طين الرايات، وتذروها ترابا لا يبين.

تسدل رَندُ على عينيها طرفَ وشاحها، وبطرفِ عينها ترى ظلَّ طائرٍ يأتي من جهة السماء، وشمسا تزول بقيظها عن طاقة الخُلوة، لتهيئ له مسارَه، يفوتُ، تبصرهُ من خلف حجابها؛ شهقة أخيرة طيَّرَهَا أسير،  لتحطَّ في مَسمَعٍ يفتَديه، يحلِّق فوق رأسيهما كالألم الضال، يرومُ فديتَهُ وسُكناهُ.

عبر الطاقة تنظر رَندُ إلى ساحةٍ شاسعةِ الريح، هواؤها رمال، أفُقُها من غُبار السَّمومِ، يسحقُ مادةَ الأبدان، ويَنذُرُ الحروفَ للسفر، فتستحيلُ خيولا، تعدو في مسالكها برجال يَتمنطَقُون بالزُّهدِ، وسيوفِ البداوةِ، يفوتون في عَصفِ الضباب كأطياف تلثَّمَت بالتوحيد، فما زِيغَت بالنفائس أبصارُها، تتقوَّتُ بخبز الشعير، تريدُ البحر تعبرهُ، ترومُ الأرضَ تملكُها، وتنفي من ممالكها ملوكا أترفوا فيها.

وفي سَمعِ المستورة بوشاحها، تهمي شذراتُ استنجاد، وهديرُ عجلات فرنجة، تحمل أبراجها، وتتكئ على أسوار سرقسطة، فتُهرع من خُلوتها، تدور حول المدينة، تبتحث ثُغرة تخلخل بها الحصار، فلا.

فتعود كالطيف إلى الأبراج، تربط أجرامَه بنطاقِها وتشدُّها، فلا.

تزفرُ بعضا من روحها برسالة تُطيِّرُها لأميرٍ يقبع في لثامه، ويحجمُ عن نجدة أنفُسٍ ترتجيه، ولمَّا، فيجيب بسهمٍ يَخزُّ به زفرَتَها، فتسَّاقط هشيما صامتا، ينغرز في أرض مدينة تذوب بقايا العزم في طرقاتها، وتُزيح عن أبوابها المغاليق، وتتجرد للداخلين.

 وعند الباب تقعدُ، تنزعُ من جنبها سهما، وتنشجُ، فيكون إلى موضعها الشيخُ، ينفضُ عن وشاحها الغبارَ وهشيمَ الدَّمِ، تراهُ كالحلم الساري في صفرة شمس تأنس لأصيل كامد.

تفيضُ على الخُلوة نسائمٌ لها برودة رخام رواق، ورائحة شمع يذوي في فضاء وهمٍ من تراتيل أرِسطِيَّة، تتغنى بالأرض مركزا للكونِ، وصلاة دمٍ، لجيوش تترى على شاشة الضوء المنزاحة جهة الشرق، يتشح جنودُها بمسوحٍ بِيضٍ مذهَّبة الأطراف، محلاة بنقوش لها لون الدم في كفِّ المصلوب فوق مذبحٍ يداري محرابا، ويخفي آيات تتلوها.

تنظر إليهم رَندُ من خلف حبَّات دمع تسكن مآقيها، وترتقبُ الموحدين الجائين من بداوتهم، يَرفُون مِزَق أندلس تشظَّت، ينسمون الموت في مسالك تجربتهم، ويتهيأون، وفي أعقابهم جُندٌ حازوا صكوك غفران لما أثموه، وخطايا دم سيسفكون، يحفرون في دروعهم صُلبانَهم، ويحوزون مجد الرَّبِّ، وأساقفةٌ تتقدم كالهَامَّة، تتبعُ جماعاتِهم شهوةُ ملوك، وأرواحُ فقراء قشتالة، ونافار، وسرية، وآبلة، وشقوبية، وجليقية، وأراجون، وفرسانُ معبدِ الربِّ الساكن قلب الأرض، الساكنة مركز الكون، الساري في مدار الروح القُدُس، الساهر في سماء الموقعة، يمنحُ الُمعدَمِين الممنوحين للموت بركاته والغفران، ويدفئ خيمةَ مطارنة وملوك ينعمون بلذائذ دنياهم، ويتدرعون بالتروس، ويدَعونَ لمِلحِ الأرضِ أسمالَ الخلاصِ، وصكوكَ سُكنى الروح في مدن السماء.

تنفرد مائدة النِّزال، وتنهمرُ طلائعُ الرَّبِّ، تنوش أجنحة الجيش البدوي، المرتدِّ إلى فراره، ويجثم جيش الفرنجة على أرجوان الخلافة، المشكولُ خيمةً تتدرع بالسلاسل ورماح حرس أسود، تنزل على دائرتهم سرايا قشتالة، ونافار، وأراجون، فتُدرك مصارعَهم، وتدعَهُم أشلاء، تتناثر شراذمها.

ينسلُّ الخليفةُ المهدور فارا من عقابه، يمتطي ليلَه وفرسا شاهق الحُلكة، يعدو فوق دَمِ ناصِرِيه، يدوسُ بحوافره أرواحَ قرطبة، وبلنسية، ومُرسية، تجمعها كتائبُ قشتالة السارية إلى إشبيلية، تعلِّقُ أبراجها على الأسوار، وتنصب حول أزمان المدينة حصارها، وتصوغُ عهدَ تسليم أهلها، المتأهبين لهجرتهم، يضعون على العهد خاتمَهم ويرحلون.

وفي خلاء إشبيلية يمر فرناندو، تطأ حاشيته ظلال تواريخ تقوم على جانبي الدرب الآخذ بهم إلى قصر خليفة ضلَّ، يلجُ الملك القصرَ، في أصيل يفردُ صُفرتَه الكامدة على أرابيسك النوافذ الشاهقة، تسكبُ النُّورَ والمعاني المرسومة في زجاجها على رخام أبهاء يدوسها الداخلون.

تتسللُ رَندُ من بين جموع الوالجين، مثل عِطر تفوح في أرجاء القصر المأسور، تسعى إلى صحائف المعارف المجموعة، تتراص خطوطُها ومخطوطاتُها، فتجمعُ في وشاحها تصانيف ابن رشد، وأسرار ابن طفيل، وحكمة “ابن يقظان”، وبراعة ابن ميمون، وتواريقَ تنبعث في حواشي الأوراق، وما بقيَ من ريحِ الذاهبين، وصوتَ أذان أخير تعلق بمنارة تهذي بالرنين، وتمرُّ في بصرِ حرَّاسٍ كالنوَّمِ ساكنين، وتكون إلى خُلوتها.

في الركن تنظمُ ما أتت به، وتعود إلى بساطها، ترنو إلى عيني شيخها، ويرنو، يوحي إليها أن ليس سوى ميقات، تنحو ببصرها إلى السماء الوهِجَة بحمرة غروب قاتمة، وإلى فضاء الخُلوة المغبَّش بضباب الدم المسفوح عبر متاهتها، وإلى شاشة الضوء القانية، وإلى البحر يحمل سفنا تعود بفرسان رَاجِلة مجرَدة، وإلى غرناطة تكتسي طرقاتُها بمنايا الهاربين إلى نهاياتهم، وإلى الخليفة يهجر مفاتيح خلافته، وينزوي فوق تلٍ يطلُّ على قصر حسرته، ويزفر زفرته الأخيرة شجنا يكون إلى الحبيبة في خُلوتها، تتنفسه، وفي تخيالها سيفٌ مطرَّزٌّ بطُغراء فارسه، وخَاتَمٌ منقوش في عقيقه ملامح الحبيب، ورايةٌ منسوجة بالمدائن، وحرفٌ يجمع الرُّوحَ والجسدَ في آن، وفارسٌ شاكي النفس بالمعارف، وفرسٌ مطهَّمة بالتعاشيق الموهوبة للشمس الراحلة الآن عن غروبها، تاركةً عالمهَا لِلَّيلِ الصَّاعد، يحمل بضع نجوم وقمراً يجود بفضةِ نورهِ على القَاعِدة إلى بساط خُلوتها، تَنظِمُ في نفسها معارفَ تجرُبتِها، وتميلُ إلى الشيخ القائم تحت طاقة النور كجسد من وحي، ترفرف عباءته بنسيم نبوءة، وينطق:

ـ ” حان آن خروجك، وبقدر ما حازت مدارِكُكِ يكون وصولُكِ”.

تطرقُ وتقوم إلى خروجها، وتنطقُ:

ـ “أما لنا من عَودٍ أو تراءٍ؟”

فينبئ: “لقد صرتُ في ذاتِكِ، إن شئتِ ففيها تريني”.

فتسأل: “وتظلُّ؟”

فيجيبها: “هنا آني ومكاني، دليل السالكين عبر متاهتهم، أسقي العابرين إلى دنياهم أو حتفهم، والمارقين من ظمأٍ إلى ظمأ”.

فتكون إلى الباب، تفتحه، وتنفذ من خُلوتها إلى سبيلها، تغمرها سبيكة الليل، وتنحو إلى بستانها، وفي رسومِ خَطوِها ينبت الريحان.

………………..

* الفصل السادس من رواية “مطارح حط الطير”

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال