خيانات ذهنية

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 29
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مي التلمساني

أعتقد أني سأتوقف لحظة عن التنفس.

      سأقف أمام المرآة نصف ساعة كاملة لا لشيء إلا لاستدعاء الجنون. سأبلل شفتي بطرف لساني كعادتي حين أرتبك وأقضم بأسناني جوانب فمي من الداخل. أعتقد أيضاً أني سأكف عن اللهاث كلما شاهدت فيلم رعب أمريكياً وسأجثو على ركبتّي خمس مرات يومياً لأدفع عن نفسي تهمة التحدي، ربما لا يُلقَى بي في الجحيم ( متى كففت تماماً عن الصلاة ؟ ).  أعتقد أن غصة في الحلق وألماً ضاغطاً في الصدر وبطناً تكور للداخل ورغبة متكررة في التقيؤ هي أعراض لمرض حقيقي ( خذي قرص أسبيرين. خذي شراب القرفة الساخن مع قليل من اللبن. خذي حمام المساء قبل النوم بخمس دقائق) وأنني أعرف أسبابه – هذا المرض – مثل اكتشاف نافذة مفتوحة عقب مساء شتوي بارد، أو تناول أطعمة سريعة مزينة بالخس والكاتشاب.

      هي خفة الكائن التي لا تحتمل. اكتشفتها في رتا  الاستيقاظ والنوم على المشهد اليوم، وفي نسي التفاصيل بسرعة تعادل سرعة مرور الأشجار أمام نافذة قطار حديث ينهب الأرض نهبا ( هل يقولون ذلك والزمن والقضبان المتوازية. الأشجار خارج المسار تماماً والقطار لا يحيد.

      سيقولون إن الصيرورة هي قانون الطبيعة الأبدي وإنها هي نفسها القانون الذي يحكم سلوك الإنسان عبر تطوره الأخلاقي واكتشافه أفكاراً كالحق والخير والجمال والضمير والله والوعي والقدر. هؤلاء الفلاسفة.

      المشكلة ليست فيما يعتقده المرء حقاً، بل فيه يتصوره شكلاً ثابتاً لتطور مستقبله، دون أن يضع في الحسبان قانون التغيير والإحلال الذي يسيطر على مصير الكائنات الخفيفة والثقيلة، الحية والجامدة. ليست مفاجأة إذن أن يكون هذا الرجل الذي تعدى الخمسين والذي التقت عيناه بعينّي ذلك المساء هو الرجل نفسه الراقد إلى جواري عارياً يسألني بصوت هامس :” هل أحببتني ؟” سألتفت حالاً بحركة مسرحية. وفي التو أقول : ” كف عن هذا ألحكي “. ثم أردف : ” ولماذا أنا الآن جالسة على طرف الفراش مديرة لك ظهري ؟ : سيقول : ” لماذا ؟” وسأجيب : ” لأني لو بكيت أمامك أخاف أن تكرهني “.

      هو لن يكرهني وأنا لن ألتفت إليه بحركة مسرحية لأني أبكي الآن بالفعل.

***

      على موائد الطعام المستطيلة في مطعم أنيق على الطراز السويسري كانوا يجلسون، – ربما- جمعهم تصورهم العام عن ضرورة تناول الطعام ( من وقت لآخر ) وفقاً لطقوس أبناء الطبقات الثرية: السكين والشوكة المفلطحان للسمك، الأخريان للحم، الملعقة الكبيرة للحساء والصغيرة للحلوى، الكأس الكبيرة للماء والصغيرة للخمر، والطبق المستدير ستوضع عليه أطباق أخرى بالتناوب. يجب أن يظل نظيفاً. وربما أيضاً يلوثه فتات الخبز.

      يأتي النادل ويروح.

      حين يأتي ينحني في تواضع وهو يسأل :” هل كانت سلاطة السومون طيبة ؟ ” وحين يروح، تصحبه الابتسامة، يهز رأسه سعيداً برقته ورقة الزبائن الذين يجيبون : ” يا له من سومون شهي !” قد تنحني السيدة المهذبة على جارها لتهمس في أذنه : ” أنت لطيف حقاً يا عزيزي “. وقد يبتسم لها شاكراً : ” بل فاق لطفك أنت كل تصور “. ليس من المعتاد أثناء تناول سلاطة السومون أن ينظر إليها الرجل في صمت فيكتشف أن لها عينين واسعتين. ولا أن ترفع إليه عينيها في اللحظة نفسها فتلمح بريقاً يضيء وجهه. إذا حدث هذا لابد أن يكفا عن تناول أي طعام وأن يؤمنا على الفور بقانون الصيرورة.

      قالت : ” عندما أبلغ الخمسين، سيكون لجلدي هذا الملمس الذي يشبه ملمس زهرة البنفسج وستكون شعيرات بيضاء كثيرة تغطي ما تبقى من شعيرات سوداء صامدة. الخطوط الغائـرة تزداد عدداً في عنقي وتحت عينيّ ويضع نقط بنية تغطي ظهر يدي. لن أنظر في وجه أحد إلا لأقيس الفرق بين عمره وعمري، ولن يبهرني أي بريق في عينيّ رجل بلغ السبعين. كل شيء سينطفئ تدريجياً وسوف تتخذ التغييرات اليومية الحادة مساراتها دون إبطاء وبقسوة أكبر “.

***

      يجب أن أكف عن هذا البكاء، لأني لست حزينة بالفعل ( علام أحزن عادة ؟) ولأنه وضع يده الباردة على ظهري، ولأنه يحاول الاعتذار عن نزق ما لابد هو مسئول عنه. ” ذلك المساء، احتفظت لك في قلبي بنظرة. لم يحدث لي هذا سوى مرة واحدة، منذ عشرين عاماً. كانت يونانية. اختفت فيما بعد. لم أعرف حتى اسمها. تدركين معنى ذلك ؟: ( جففي دموعك وارفعي جسدك المثقل بالخيانة بعيداً عن حافة الفراش ).

      يجب أن أمضي صوب النافذة وأقف هذه المرة مثل ممثلات بدايات القرن ( لماذا تفعلين ذلك؟) لأتيح له فرصة التذكر. ” معنى ذلك أنني أردتك لنفسي هذه المرة بشكل مضاعف. أنتما نظرتان وحيدتان في قلبي”. أعرف أعرف. يجب أن أرتدي ملابسي على الفور. أن استكمل باقي الحركات المطلوبة لإعادة تصفيف الشعر وتزيين الوجه ( هل أقول له الآن إنني متزوجة أم أرجئ هذا للحظة ذروة أخيره ؟ ).

      حين أجلس في مواجهته بكامل ملابسي، وزينتي، أقول لنفسي: ” عينان جميلتان”. يهز رأسه في طفولة لا تليق به ويذكرني : ” أنت التي بدأت”. أعترض بنفس الطريقة الطفولية : ” لا. متى ؟ ” ” حين قلت لي إني لطيف حقاً “. آه، نعم. ربما قلت ذلك وصدقت نفسي فيما بعد. عندما قبلني قبلة المساء، بعد مغادرتنا المطعم، تلامست أطراف شفاهنا عن غير قصد. ولم أعد أتصور الحياة بلا حب مفاجئ. هكذا. ( أين راح ثبات الأشياء وأين ذهبت أبديتها ؟ ).

***

      أنت الآن في مأزق ( تعلمين ؟) هو حقق لك فكرة التغيير وأنت تفضلين التمسك بمبدأ الثبات.

      يجب أن تنتهي هذه القصة كما بدأت. مثلاً تبكين : حل لا بأس به لكنه استنفد أغراضه. ثم تذكريه بالعقل والمنطق أن علاقتكما مستحيلة : هو يعرف ذلك مسبقاً. تقنعينه أخيراً بضرورة ألا تلتقيا ثانية : هو موافق طبعاً – احتفظ منك بنظرة وهذا يكفيه ! – المأزق هو أنك حين تعودين إلى بيتك ستعاودك الرغبة في الاتصال به وربما تحددين موعداً ثانياً وربما تلتقيان في نفس المطعم وتختلقان أعذاراً لتبرير ذهابكما المبكر إلى منزله. المأزق هو أنك حين ترغبين في التخلص منه حقاً، سيكون هو مفتونـاً بك وستكون إرادته هي الأقـوى. وسيطاردك برقته وحزنه وافتقاده العنيد لك. سيصحو ضميرك ليذكرك بثباتك وبحقيقة أن ما توهمته تغييراً لم يكن سوى إنذار جديد بالثبات.

      لعبة بسيطة لا تجعل هذا الرجل يرقد عارياً إلى جوارك الآن. مثلاً ينتقل إلى جوار زوجته التي تغط في نومها والتي لا يحتفظ لها في قلبه بأية نظرات. وفي المطعم هناك حيث اقترب موعد الرحيل تُستَبدل بصورة قبلة الوداع الحارة صورة أخرى تقليدية تجعل الشفاه تهبط مباشرة فوق الخد دون أية انحرافات وترتفع سريعاً في الاتجاه المعاكس لتقبل الخد الآخر. لعبة بسيطة نلعبها كل يوم حتى نتجنب تبادل الاتهامات وإعداد الخطط لتقصي الحقائق محاولين الإبقاء على صيغة الدوام من أجل أمور أخرى أكثر موضوعية. تلك التي تعطي للحياة مذاقا متساويا.

………

*قصة من مجموعة خيانات ذهنية، هيئة قصور الثقافة، 1999

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم