خمسُ موجاتِ انقراضٍ شامل!

ragab saad alsayed
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رجب سعد السيد

لا يكاد يخلو حديثٌ عن التنوع الأحيائي، أو عن الأحوال البيئية بعامة، إلاَّ ويَرِدُ فيه تعبير (موجة الانقراض الشامل السادسة)، باعتبارها الموجة القادمة، أو التي تمرُّ بها الحياة على سطح الأرض الآن. وحسب تقديرات علماء الأحافير والحياة في العصور القديمة، فقد تكفلت الموجات الانقراضية الخمس الماضية بالقضاء على الجانب الأعظم من أنواع الكائنات الحية، على امتداد العصور الجيولوجية.

ولعلنا في إطلالتنا السريعة التالية على موجات الانقراض الشامل الخمس الماضية، نأمل ألاَّ تأتي بعدها موجةٌ سادسة ..

يرجع تاريخ الموجة الأولى إلى 444 مليون سنة، قرب نهاية زمن جيولوجي يقال له العصر الأوردوفيكي، حيث اجتاح الانقراضُ 86% من أنواع الكائنات الحية التي كانت تعيش آنذاك، وكان معظمها يعيش في البحار.  ومن منقرضات تلك الموجة كائن بحري نباتي دقيق، يقال له “جرابتولايت”، لا يزيد طوله عن 3 سنتيمترات، إختفى من خريطة الحياة إبان عصر جليدي قصير مرَّ بمناخ الأرض في ذلك الماضي السحيق، إنخفض فيه مستوى سطح البحر، فتعرت مساحات شاسعة من صخور رملية، إمتص محتواها من السليكات غاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء الجوي، فحرم النبات منه، فانقرض.

وكانت الموجة الثانية منذ 375 مليون سنة، في أواخر العصر الديفوني، وخسرت فيها الأرض 75% من أنواع كائناتها الحية. أختار لكم من المنقرضات الديفونية كائناً اسمه “التريلوبايت”، أو ثلاثي الفصوص، وهو كائن بحري، من سكان أعماق البحار، وكان قد ساد الحياة الأرضية منذ 550 مليون سنة، وتمكن من تحمل ظروف موجة الانقراض الأولى، ونجا منها، فجاءت الثانية واكتسحته من على سكح الأرض اكتساحاً. ويرجح العلماء أن يكون سبب انقراضه ظهور أنواع نباتية جديدة على اليابس في ذلك العصر، قلَّبتْ جذورُها القوية التربة، وأتاحت لمحتواها من الأملاح المغذية أن تنتقل مع الأمطار إلى البحر، فأنعشتْ أحوال الطحالب البحرية التي استهلكت كل الأكسجين الذائب في المياه، فاختنق سكان الأعماق، وبينها التريلوبايت.

وجاءت موجة الانقراض الوسيطة قبل 251 مليون سنة، وكانت أسوأ موجات الانقراض على الإطلاق، ويسميها العلماء بالموت الأعظم، حيث كادت كل أوجه الحياة على سطح الأرض أن تندثر تماماً، إذ بلغت نسبة الانقراض 96%. ومن أشهر منقرضي هذه الموجة الثالثة مجموعة المراجين المسطحة، التي لا يزيد طول حيوان المرجان فيها عن 5 سنتيمترات، وهي تختلف تماماً عن المراجين الحالية التي تبني الشعاب المرجانية. والسبب، جائحات متتالية عصفت بالأرض، إذ وقع انفجار بركاني عظيم قرب سيبيريا نتجت عنه كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون غيرت ملامح الغلاف الجوي للأرض، وتلقفتها البكتيريا المنتجة للميثان، أطلقت سحابات هائلة من هذا الغاز المسبب لظاهرة الدفيئة، فارتفعت درجة حرارة العالم، وكان للميثان تأثير آخر، إذ عمل على زيادة درجة حموضة المحيطات، وأصبحت المناطق الضحلة والراكدة في بحار العالم منتجة لكبريتيد الهيدروجين السام، الذي أنهى وجود المراجين المسطحة.

أما الموجة الرابعة فقد شهدتها نهاية العصر الترياسي، قبل 200 مليون سنة، ووصلت الخسائر إلى 80% من عدد أنواع الكائنات الحية التي كانت تشكل خريطة الحياة على الأرض في ذلك الوقت. وتجد في الصورة شظايا أحفورية مسننة دقيقة (طول السِّنَّة الواحدة ملليمتر واحد) حيرت علماء الحياة القديمة طويلاً، إذ حسبوا أنها بقايا أصداف لرخويات بحرية أو أجزاء من أشواك الإسفنج، حتى حصلوا في ثمانينيات القرن الماضي على أحفورة إسكوتلندية للكائن الترياسي الحي المنقرض صاحب هذه الأسنان التي كانت تبطن الفم والحلق، وكان شبيهاً بثعبان البحر المعروف لنا حالياً، ومن طائفة مخروطيات الأسنان، التي تنتمي للفقاريات البدائية (الحبليات). وترجع أهمية أسنان هذا الكائن المسمى (كوندونت) إلى أنها من أول الهياكل العضوية التي تكونت من مادة أساسية لبناء الأسنان والعظام، غنية بالكالسيوم، يقال لها (هيدروكسيباتايت). ولم تعرف حتى الآن أسباب مرجحة لموجة الانقراض الترياسية التي أبادت الكوندونت وغيره.

وأخيراً، فإن موجة الانقراض الخامسة، الأقرب إلينا، والأحدث، إذ لا تبتعد عنَّا إلا بستة وستين مليون سنة، فقط، فقد وقعت في نهاية الزمن الجيولوجي المعروف بالطباشيري. ومن أهم الكائنات التي شملتها هذه الموجة الانقراضية طائفة من اللافقاريات البحرية تسمى الأمونيتات، تنتمي إلى الرأسقدميات، التي تندرج تحتها الحبارات والأخطبوطات، سادتْ في الحقبتين المبكرة والوسطى من التاريخ الطبيعي للأرض، وبادتْ في نهاية العصر الطباشيري. وقد أدت لعلماء الحياة القديمة خدمات جليلة في التعرف على صورة الحياة في العصور التي عرفتها، وتحديد جغرافية وطبيعة البحار القديمة التي عاشت بها. وإذا كانت الديناصورات هي سيدة اليابسة في العصر الطباشيري، فقد كانت السيادة البحرية للأمونيتات، التي لا يزيد طول الفرد منها عن 15 سنتيمتراً، ولقوقعته تصميم يهيئ لها تحمل الضغط عند الغوص إلى أعماق بعيدة في قاع البحر، هرباً من عدو، أو مطاردةً لفريسة.

وقد طال تعرُّضُ الأمونيتات لأنشطة بركانية عنيفة، ولتغيرات حادة في مناخ ذلك الزمن، فاهتزَّ وجودُها، ثم طالتها ضربةٌ قاضية بالشتاء النيزكي الذي شهدته الأرض في العصر الطباشيري وكان السبب المباشر في القضاء على سادة اليابس، الديناصورات، فاختفت الأمونيتات من البحار، غير أن عدداً قليلاً جداً من أنواعها، نحو ستة أنواع، تمكن من الإفلات من براثن موجة الانقراض الشامل الخامسة، نعرفه الآن باسم (النُّوتيّ)، ويسميه العلماء بالمتحجرات الحيّة!

 

 

 

مقالات من نفس القسم