خمسة أفلام سياسية ماكرة!

خمسة أفلام سياسية ماكرة!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
لا يوجد أكثر مكرا من رجال السياسة إلا الفنان الذى يمتلك أدواته، ويعرف ماذا يقول وكيف يقول، من الناحية النظرية فإن كل فيلم مهما كان موضوعه أو طريقة تناوله له دلالة سياسية واجتماعية، أفلام ما بعد الحرب العالمية الثانية فى مصر، أو أفلام المقاولات فى الثمانينات مثلا تكشفان بوضوح عن ظهور طبقات ثرية جديدة نتيجة تغيرات سياسية عاصفة، لكن تحديدا أدق للفيلم السياسى يحصره فى تلك الأفلام التى تتناول بشكل مباشر سلطات الدولة: التنفيذية و التشريعية و القضائية، أو الصحافة كسلطة رابعة افتراضية. التناول يجب أن يكون جريئا وانتقاديا بالضرورة، ولكنى أميل الى توسيع مفهوم الفيلم السياسى كثيرا، وخصوصا مع تلك النماذج الماكرة والذكية، بعض هذه الأفلام لايخطر على أحد أنها سياسية، وبامتياز.

(1)

لا أتعب من الكتابة عن هذا الفيلم الظريف الشهيرالذى اخترته فى قائمة أفضل الأفلام الكوميدية فى تاريخ السينما المصرية، بل هو فى رأيى من أذكاها وأكثرها إمتاعا، ومن أقربها الى روح فنون الفرجة الشعبية، وبالتحديد فن الأراجوز، وعروض فرق الشارع والمرتجلين.

“عنتر ولبلب”، أو كما عرض لأول مرة تحت اسم “شمشون ولبلب”، ليس مجرد حكاية سبع صفعات يضربها الفقير الضعيف للغنى القوى، ولكنه استعارة ذكية لمقاومة المصريين وعملياتهم ضد معسكرات الإنجليز فى القناة، أنتج الفيلم بعد إلغاء النحاس باشا لمعاهدة 1936، سراج منير هو المحتل الذى جاء الى الحارة لخطف الجميلة حورية حسن، ولكن ابن البلد “شكوكو” يتصدى له، وينجح فى طرده بعد إهانتة بعمليات نوعية/ صفعات، تحط من هيبته وكرامته، مما يؤدى فى النهاية الى انسحابه/ جلائه عن الحارة، كان هذا أيضاً هو رهان العمليات الفدائية بعد إلغاء المعاهدة. استخدم الفيلم كل مفردات الفرجة الشعبية، مقالب شكوكو تشبه بالضبط مقالب الأراجوز، هناك ما يقترب من طقس التجريس الشعبى بعد كل صفعة، لدينا سبع قصص قصيرة منفصلة متصلة ومتقنة وظريفة ورائعة الخيال، هناك إشارات قليلة  مباشرة لمغزى الفيلم السياسى فى عناوين المحلات فى الخلفية (تحمل أسماء مثل الجلاء والقنال .. إلخ)، ثم يقولها شكوكو بصراحة فى أحد مشاهد الفيلم الأخيرة : “الجلاء التام .. أو القلم السبعاء”.

من غرائب الفيلم أنه عرض لأول مرة قبل حركة الجيش وتحديدا فى مارس 1952 تحت اسم “شمشون ولبلب”، وبعد عدة أيام، رُفع الفيلم من دور العرض لسبب غير معروف، فلما أعيد إليها بعد نجاح حركة الجيش ظهر باسمه الجديد “عنتر ولبلب”، بل أجريت للنسخة عملية دوبلاج واضحة جدا لتحويل اسم شمشون الى اسم عنتر على شريط الصوت، وهو أمر ملحوظ وواضح فى النسخة التلفزيونية. هناك تخمينات متعددة لهذه المتاعب التى واجهها الفيلم الى درجة تغيير اسمه، أكثرها رواجا أن شخصية شمشون التوراتية قدمت هنا على هيئة إنسان شرير مما أغضب الطائفة اليهودية، لا أصدق هذه الرواية، لكنى أذكر لكم فقط ما قرأته، أما الملابسات فما زالت مجهولة، المهم أن الفيلم ممتع جدا، وهام فنيا وسياسيا، وأخطر بكثير من مجرد سبعة مقالب متتالية، والأعجب أن الرقابة فهمته ! بالمناسبة لا أتصور ممثلا يمكن أن يقوم بدور لبلب إلا شكوكو، الفنان الشعبى الوحيد الذى صنع له المصريون تماثيل صغيرة ، الفيلم أخذ حقه جماهيرا، وخصوصا بعد أن عرض فى التليفزيون، ولكنه لم يأخذ حقه نقديا، ما زال ينظر إليه على أنه مجرد فيلم مقالب لطيفة رغم مغزاه السياسى والوطنى الخطير، ورغم أنه الدليل الحى على أن الكوميديا تستطيع تمرير أخطر الأفكار والقضايا.   

             (2)

أى قارئ للتاريخ الحقيقى لصلاح الدين الأيوبى يعرف أن الفيلم الشهير الذى أخرجه يوسف شاهين من المستحيل أن يصنف كعمل تاريخى إلا من حيث الشكل فقط، ولكنه فيلم سياسى تماما من حيث المضمون، يساند بقوة فكرة القومية العربية التى تبناها عبد الناصر، يمتد خيط الوحدة “العربية” من “الناصر” الى “ناصر”، ويصبح الصليبيون نموذجا لاستغلال المسيحية لأهداف سياسية، مثلما أصبحت الصهيونية وإسرائيل معادلا معاصرا لاستغلال اليهودية لأهداف سياسية. حتى عبارات مثل “الأرض تتسع للجميع”، ليست فى حقيقتها سوى ترجمة لمعنى التعايش رغم سطوة الحرب الباردة، كل تفصيلة تم تطويعها لهدف معركة القومية العربية رغم أن صلاح الدين كان كرديا، ستجد أيضا الطابور الخامس العربى الذى لعبه توفيق الدقن، والذى يمثل إسقاطا على الأنظمة العربية المضادة لعبد الناصر، يصل الوضوح الى ذروته فى خطبة صلاح الدين (أحمد مظهر) أمام جيشه، والتى تقمص فيها عن عمد طريقة أداء عبد الناصر ( أيها العرب ، فلتعلن دقات الطبول نهاية الخيانة .. إلخ ) . المشروع أصلا كان لعز الدين ذو الفقار، وهو الذى رشح يوسف شاهين لإخراجه، بسبب مرض عز، نسخة عز الدين ذو الفقار كان محورها قصة الحب بين عيسى ولويزا، وظل هذا الخط موجودا ولكن مع دفع الخط القومى الى المقدمة ( أرجح أن ذلك من لمسات عبد الرحمن الشرقاوى)، انطلق شاهين بعدها ليستعرض كل قدراته الحرفية، بل إنه قدم مشاهد مذهلة كاستخدام التجريد فى مشهد قتل الحجاج، وكالمشهد التجريبى لمحاكمة لويزا بالتوازى مع محاكمة صلاح الدين لأحد الخونة العرب، مع الإستخدام الفذ لإمكانيات الشاشة العريضة خاصة فى مشاهد المجاميع، حضرت ندوة لشاهين قال فيها إنه استخدم كاميرا متواضعة فى تصوير الفيلم، وعانى وديد سرى (مدير التصوير الكبير) بشدة فى الحصول على أفضل النتائج، وعلى حد قول شاهين: “كل ما كان تتوفر شوية فلوس نطلع نصوّر شوية”. 

                                     (3)

هذا الفيلم خطير بكل ما تحمله الكلمة من معنى . “إمبراطورية ميم” عن قصة لإحسان عبد القدوس أعدها للسينما نجيب محفوظ، ولذلك فقد توافرت للفيلم مستويات معقدة إجتماعية وسياسية رغم بساطته المدهشة. محيط الحكاية لا يتجاوز أسرة صغيرة هى خلية المجتمع الأولى، أم وأولادها، ومع ذلك فالمسافة هائلة بين الطرفين، الأم / تنويعة على السلطة الأبوية، وهى التى يعطيها القانون والمجتمع حق إدارة هذه الإمبراطورية، ولكن الجيل الجديد المتمرد يعيد مناقشة كل شئ بما فى ذلك المسلّمات، بل إنه يقرر أن يجعل سلطة الإدارة فى الأسرة بالإنتخاب، يقول الفيلم بلا مواربة، وفيما يقارب الثورة الإجتماعية والسياسية، إنه حتى علاقة الدم لاتبرر أن تدير الآخرين على هواك ووفقا لمزاجك، فما بالك بعلاقة الحاكم والمحكوم التعاقدية على مستوى الوطن؟ هنا معنى الفيلم الخطير الذى عرض عام 1972، وقبل حرب أكتوبر، وكانت قد سبقتها حركة تمرد شاملة من جيل الشباب، مما ألهم أمل دنقل قصيدته العظيمة “الكعكة الحجرية”.

من هذه الزاوية الواسعة، فإن “إمبراطورية ميم” حكاية مجازية عن معنى السلطة والعلاقة مع الآخر تطبيقا على عائلة، ورغم أن الأولاد لايمتلكون  النضج  اللازم لممارسة الحرية، ورغم أنهم سيعودون الى الأم، إلا أن عودتهم ستكون باختيارهم، أى أنه حتى علاقة الأمومة لا تعنى عدم الإختيار، كما أن دافعهم للعودة هو الحب وليس الخوف،  وسيعودون وفقا لشروط جديدة بالمشاركة، و ليس بإملاء الرأى، الفيلم عموما يقدم الأبناء بصورة أكثر حيوية من الأم ومن صديقها (أحمد مظهر)، الجيل القديم يتعثر لدرجة أنهم يترددون فى البوح بقصة حب، وينتهى الصراع بين الأجيال باتفاق على أسس جديدة، وتسليم من السلطة الأبوية/ الأموية بحقوق الآخر. فى المستوى الإجتماعى: جيل آخر متمرد ينظر الى الأمور بشكل مختلف ويريد أن يتحقق، وفى المستوى السياسى: السلطة لا تبرر القهر حتى لو كانت العلاقة أبوية، ولكنها يجب أن تقوم على المشاركة. يدعو  الفيلم فى النهاية الى تأسيس كل العلاقات على الحب والحرية، وهما  محور مشروع إحسان عبد القدوس فى كل أعماله.

رغم محدودية المكان والأحداث، إلا أنك لاتشعر بلحظة ملل واحدة، نجاح المخرج الأهم فى هذا التآلف بين فاتن وأبنائها لدرجة أنك تشعر فعلا أنهم يكونون عائلة متماسكة. “إمبراطورية ميم” هى الأسرة المصرية التى يجب أن تعاد صياغة العلاقات بداخلها من جديد، هى أيضا الدولة المصرية التى يجب أن يعاد بناؤها على الحب والحرية،  ثم ….. أليست كلمة “مصر” تبدأ أيضا بحرف الميم ؟!!

                                    (4)

أعتبرت دوما فيلم “على من نطلق الرصاص” حالة ناضجة تماما لما نطلق عليه الفيلم السياسى، إذ يطرح الفيلم الذى كتبه رأفت الميهى وأخرجه كمال الشيخ فكرتين جريئتين تماما، وفى وقت مبكر جدا (منتصف السبعينات من القرن العشرين)،الفكرة الأولى هى نهاية حلم ما يسمى بالتجربة الإشتراكية الناصرية، ما نراه من علاقات هو مجتمع آخر تماما، يقوم فيه الأقوى والأكثر سلطة (جميل راتب) بقتل الأضعف (مجدى وهبة)، وانتزاع خطيبته، والإقتران بها (سعاد حسنى)، بل إنه يقتل المئات ببناء مساكن شعبية غير مطابقة للمواصفات، حالة متكاملة للفساد (تكررت فيما بعد فى أفلام الإنفتاح) تكاد تقول إن المجتمع تحول الى غابة للأغنى والأقوى، طرح كهذا وقتها كان خطيرا وتنبؤيا إذا جاز التعبير.

أما الفكرة الثانية الأكثر خطورة، فهى أن الفساد من أعلى سيؤدى الى العنف والإرهاب من أسفل ( محمود ياسين لا يجد حلا سوى محاولة قتل جميل راتب، ويدفع محمود ياسين حياته ثمنا لذلك)، والمذهل أن هذه الفكرة تحققت فيما بعد، إذ أدى انتشار الفساد الى تغذية بؤر العنف الإرهابى الذى ارتدى قناع الدين، وقد ناقش وحيد حامد هذه المأساة، وقدم لها تحليلا بارعا وعميقا فى فيلمى “طيور الظلام” و “دم الغزال”، ولكن أصل الفكرة تجده عند الميهى فى “على من نطلق الرصاص”: الفساد هو أفضل بيئة لظهور الإرهاب.

أهمية هذا الفيلم لا تتوقف عند افكاره الخطيرة، ولكنها تمتد أيضا الى المعالجة الدرامية البوليسية المحكمة، التى حققت هدفين مزدوجين: التشويق، وإخفاء المضمون السياسى، كما أن تميز الفيلم يمتد الى الأدوار غير التقليدية التى لعبها محمود ياسين وسعاد حسنى، الأول مناضل يائس والثانية زوجة مخدوعة تعيد اكتشاف زوجها المجرم، وبدلا من أن تقتله فى النهاية، تتركه وتغادر المستشفى، لأن ذلك يؤرق المشاهد، ثم تظهر لمبة الإسعاف الحمراء لتغلق القوس بعد أن افتتحت الفيلم: احذروا من زمن الحيتان القادم، واحذروا من العنف المضاد، طبعا لم يحذر أحد فتحقق ما تنبأ به الفيلم، وبصورة أكثر رعبا وكابوسية.

                                            (5)

يمكن أن تفهم فيلم “المواطن مصرى”، والرواية المأخوذ عنها الفيلم وعنوانها “الحرب فى بر مصر ” ليوسف القعيد، على مستويين: المستوى الأول مباشر وهو ما يفعله الفقر الذى يسحق الروح، ويدفع الفلاح الى بيع ابنه فى مقابل أرضه، ويمنح الغنى القوة والسلطان والمجد معا، والثانى مستوى رمزى بطرح فكرة أن الذين حاربوا فى أكتوبر هم الفقراء، والذين كسبوا ثمار الحرب هم الأغنياء(مشهد النهاية الهام: العمدة على حصانه والفلاح منزويا يبكى  الأرض والابن معا)، المعنى الذى يقصده الفيلم ورواية يوسف القعيد يتجاوز حتى الإنقلاب على مكاسب الفلاحين بعد يوليو 1952، الى ذلك الإنفتاح العشوائى الذى أعطى الثروة لمن لم يدفع ضريبة الدم، ربما كانت الرواية أول عمل  يطرح القضية بهذا الوضوح، وهو ما سيتكرر بعد ذلك بتنويعات كثيرة فى أفلام متعددة مثل “زمن حاتم زهران” وأنضجها وأهمها بالطبع هو فيلم “سواق الأوتوبيس”( حسن هو الذى حارب، وأزواج أخواته هم الذين كسبوا، وباعوا الورشة نفسها).

استوعب محسن زايد المعنى تماما، واختار للسيناريو عنوانا صريحا وواضحا هو “المواطن مصرى”، أى ان الحكاية ليست قصة هذا الشاب الذى ذهب بدلا من ابن العمدة الغنى للحرب، ولكنها حكاية فقراء المصريين الذين استشهدوا ليحصد غيرهم الغنائم، ورغم الرسم البارع لكل الشخوص، وخصوصا العمدة (عمر الشريف فى أحد أفضل أدواره فى السينما المصرية)، وعزت العلايلى (فى دور صعوبته الكبرى أنه الطرف النقيض لدور الفلاح الأبىّ الأشهر فى فيلمه الأشهر الأرض، ومع ذلك فالممثل القدير يقنعك هنا بالهوان الكامل  يمشى على قدمين) ورغم أن صلاح أبو سيف فى أفضل حالاته فى السيطرة على كل عناصر العمل، وفى السهولة الممتنعة التى يدير بها شخوصه ويدمجهم فى المكان والزمان، إلا أن الفيلم فى رأيى لم يستطع أن يتفادى المشكلة الكبرى فى الرواية، وهى أن شعورنا تجاه الفلاح لن يكون الشفقة فقط، ولكنها الشفقة الممتزجة بالإزدراء، هذا رجل أرضه أهم من ولده، مع أنه لا تجوز المفاضلة بين الاثنين أبدا، هو ارتضى أن يبيع ويتنازل، فأصبح جديرا بما حدث له، كما أن استشهاد الابن الفقير، ونسبة بطولته الى ابن العمدة الذى يحارب، تبدو نتيجة طبيعية جدا لصفقة قامت على التزوير من الأساس، بل إنه حتى لو منح الوسام لابن الفلاح فلن يغير ذلك من الماساة، وهى أن الفلاح وابنه قبلا الصفقة بمنطق انتهازى أيضا، باعا أنفسهما للعمدة من أجل الأرض، وذهب الابن الى الحرب ليس من أجل البلد، ولكن تنفيذا لصفقة تفيد أسرته،  هنا خلل خطير فيما يطلق عليه نقاد الأدب المعادل الموضوعى، أى أن الأحداث والوقائع لا تعطى المعنى المراد، أو هى تحمله رمزيا فقط بينما تنوء بحمله تماما على المستوى الواقعى.

مقالات من نفس القسم