سعيد بوخليط
تظلُّ إشكالية الانتحار، من السلوكيات الإنسانية المنطوية جوهريا غاية أبعد مدى على تأويلات عدَّة، يصعب جدا اختزالها إلى منظور بعينه أو حكم جاهز؛ دون غيره، بل هي إشكالية مفتوحة صوب احتمالات مركَّبَة، معقَّدة، متداخلة، تضمر الشخصي والموضوعي، النفسي والبيولوجي، إلخ.لذلك، يستحيل حصرها ضمن خانة جواب ثنائي على شاكلة إقرار جازم ب ”نعم” أو ”لا”.
هذه الرؤية الثنائية المجحفة حقيقة، بخصوص واقعة وجودية دقيقة للغاية، ربما ارتقت كي تغدو الحقيقة الجوهرية التي يختبرها المصير الإنساني منذ الولادة غاية الموت، بغض النظر عن مختلف الزلازل الوجودية الأخرى التي يصادفها في طريقه.أقول، بأنها ثنائية تنازعها بالمطلق، تصوران جازمان لامجال معهما لتأويل ثالث :الانتحار شجاعة نوعية، لاتتأتَّى سوى لعتاة حراس الوجود، أو الانتحار موقف في غاية الجبن والانهزام والارتداد، ثم وصمة عار في جبين الإنسانية.
هكذا، تطورت مشارب الفلسفة الوجودية، بخصوص ربط الانتحار بكل مظاهر الانتصار ومختلف تجلِّيات الحرية الإنسانية، وفق أسمى معانيها الوجودية بحيث يتخلَّص الفرد بمحض إرادته من حياة ثقيلة لايرغب فيها، صادفها مضجِرة للغاية أو عبثية بما يكفي، لذلك قرَّر إنهاءها إراديا بكل ما أوتي من قدرة على أن تكون حرّا.
عكس ذلك، يفتقد هذا الفرد لأبسط أسلحة المقاومة نحو الحياة التي تحتاج لعبتها إلى الأقوياء والقادرين على التحدِّي الأسطوري لصخرة سيزيف، من ثمَّة سيظل الانتحار وصمة عار في جبين الإنسانية برمتها.
تواترت باستفاضة، هذه النقاشات الراسخة بخصوص الانتحار، وأنا أتابع الاعتداء الإسرائيلي الحالي على لبنان ضمن حلقات حرب الإبادة في غزة، مستعيدا واقعة إقدام الشاعر اللبناني خليل حاوي إبَّان إحدى أماسي بيروت يوم 5 يونيو 1982، على وضع حدٍّ لحياته، رافضا اعتداءات نفس العدو الهمجيِّ الإسرائيلي دائما على بلده.
صوَّب فوهة بندقية صيد، نحو جمجمته وأطلق رصاصة رحمة أنهت مروره في هذا العالم الظالم على جميع المستويات.حقيقة، اختبرها خليل حاوي شخصيا، عبر مكابدته لأطوار حياة عسيرة منذ سنوات طفولته غاية أن أصبح شاعرا عربيا كبيرا، وأستاذا جامعيا مرموقا، واسما مرسَّخا، فقد استمرت المعاناة النفسية لأسباب عدَّة، حتى صادفت منفذا موضوعيا رحبا، وشرارة أضرمت النار في كل كيانه، حينما عاين من شرفة منزله التي تطلُّ على شارع الحمراء وسط العاصمة اللبنانية، زحف الإسرائيليين واكتساحهم لأول مرة عاصمة عربية.
لقد أحسَّ خليل حاوي باكتمال مشاهد الخسارات، والتئام جليٍّ لأشواطها بنيويا وبكيفية راسخة لارجعة معها، عندئد قرَّر إنهاء حياته والانزواء مطلقا وأبدا إلى صمت القبور، مادامت اللغة، سلاح المبدع الوحيد والأوحد، لم تعد تجدي أو تشفي الغليل قط حيال منظومات العجز والتعفُّن والخذلان واللاجدوى والانحطاط والجنون التي تحياها البشرية على جميع المستويات.
هكذا صار خليل حاوي عنوانا للانتحار والرفض، حارب أسطوريا من أجل حياته وموته، فحضرت مسألة الفداء بنيويا بين قصيدته من خلال بعده المسيحي، مؤكِّدا بطريقته الخاصة قوله النهائي نحو قسوة هذا العالم، وبأنَّ تحديه بالموت الإرادي نتيجة قرار حاسم، اتخذه الشاعر جراء خلاصة حوار مع نفسه، يشكِّل نزوعا نحو اللانهائي من خلال لانهائية الحرية.
نتيجة هذا الفعل الوجودي الاستثنائي، انتمى صاحب المجموعات الشعرية :نهر الرماد(1957)، الناي والريح (1961)، بيادر الجوع(1965)، ديوان خليل حاوي(1972) ، الرعد الجريح(1979)، من جحيم الكوميديا(1979)… ، إلى لائحة شعراء العالم المنتحرين، حصرت الباحثة اللبنانية جمانة حداد(1)عددهم في مئة وخمس وعشرين شاعرا، ضمنهم خمسة عشر عربيا، يعتبر خليل حاوي أبرزهم وأشهرهم :
منير رمزي(مصر)، عبد الباسط الصوفي(سورية)، أنطون مشحور(لبنان)، تيسير سبول(الأردن)، عبد الرحيم أبو ذكري (السودان)، إبراهيم زاير(العراق)، قاسم جبارة (العراق) ، عبد الله بوخالفة (الجزائر)، كريم جوماري(المغرب)، صفية كتُّو(الجزائر)، أحمد العاصي (مصر)، فخري أبو السعود (مصر) ، فاروق سميرة (الجزائر)، مصطفى محمد (سوريا)، أمل جنبلاط (لبنان)، راشد حسين(فلسطين) ، رياض الصالح الحسين (سوريا).
هؤلاء، وإن اختلفت حيثيات انتحارهم وطرق إعدامهم لذواتهم بإطلاق النار، الغرق، الحبوب المنوِّمة، الشنق، الارتماء تحت عجلات القطار، فقد جسَّدوا أولا وأخيرا بذات الكيفية، مقولة ألبير كامو الشهيرة :”الانتحار هو السؤال الفلسفي الجدي الوحيد”.
ليس خليل حاوي، مجرَّد شاعر للغة و احتماء باللغة، بل حالة شعرية استثنائية، تعمَّد طيلة حياته البقاء وفيّا لقناعاته، باعتباره إنسانا وبعدها شاعرا :”غايتي أن أتجدَّد دائما، والمعجزة التي ألتفت إليها هي أن أعيش وأموت ولاأعتق، بالطبع لاأعني بذلك التصابي فأنا أعترف أني ودعت الصبى، أو بالأحرى هو الذي ودعني، وإنما تلك البراءة الحلوة التي يمكن أن يحتفظ بها الإنسان جنة صغيرة في داخله، رغم التهدم والهرم في الخارج”(2).كي يستطيع أن يكون حقا شاعرا، وفق المعنى الروحي للتعريف :”مخلصا لشعره أكثر من نفسه، وأن يترفع عن كل غايات خارج الشعر، فيمتلك تجربة متكاملة ويعبر عنها بصدق ويسر”.
تطلَّع صوب الارتقاء بالشاعر، قصد بلوغ مرتبة أن يصبح فاديا للأمة وأبناء جيله، بتجسيده العيني لفكرة البطل الفادي رمز”تموز”، ”بعل”، ”ملقارت”، والانتقال بضمير الأمة نحو إعادة ترتيب العلاقة بين الحياة والموت، فأتته حقا هذه الشجاعة التي لاتتأتَّى بيسر للجميع وبوصفة متاحة، بل تمثل حالة نادرة لبشر استثنائيين كابدوا منذ طفولتهم بغية الانعراج بمجرى وجودهم نحو جهة أخرى، مغايرة كليا للمقرَّر سلفا بحكم إقرارات الزمان والمكان، ويختارون أيضا لموتهم التوقيت والأسلوب.
تمرَّد خليل حاوي، على مصيره المهيَّأ له حتميا بحكم طفولته الصعبة، فالطفل الذي ولد سنة 1919، درس في المدرسة غاية سنِّ الثانية عشر، فاضطر لترك فصول الدراسة بسبب مرض أبيه، والانتقال إلى يوميات احتراف مهن شاقة كالبناء ورصف الطرق، لكنه لم ينجرف بطموحه خلف دواعي الحاجيات المباشرة، بل أصغى لجوهر صوته الداخلي إصغاء، فانكبَّ بشغف لايضاهى على مراكمة القراءة، تعلُّمه أبجديات الكتابة، التمرُّس على أولى قواعد نظم الشعر، التمكُّن من اللغات الفرنسية والانجليزية، فهم الفيزياء والرياضيات، ممَّا أّهَّله كي يعود ثانية إلى المدرسة وإتمام أطوار التعليم الثانوي، ثم الالتحاق بالجامعة الأمريكية في بيروت والتخرُّج منها بتفوق، فحصل على منحة الالتحاق بجامعة كامبردج وتتويج مساره العلمي سنة 1956 بدكتوراه من المؤسَّسة البريطانية العريقة تناول موضوعها جبران خليل جبران، ثم العودة ثانية إلى لبنان والتدريس في نفس الجامعة.
خليل حاوي، مثلما تكشف عنه جوانب من سيرته، شخص عنيد، صلب، صاحب شخصية لاتلين بسهولة أمام الأهداف المتوخاة، لذلك انطلق من الدرجة الصفر، كي يبلغ بعصامية مبهرة، مبلغا ملهِما، جعلته أحد الأسماء الشعرية الرائدة ضمن لبنات المشهد العربي الحديث، بل إنَّ موته الإغريقي، سيضفي على شعريته تراجيدية خاصة أعادت للشعر والشاعر، مرتبتهما الكونية المفرطة في الشفافية والنبل والإخلاص والصدق والهوية الإنسانية غير المتآكلة أو المزيفة أو المشروخة، مادام الشاعر حالة تزخر حياة، تصبح معه القصيدة جسدا بالمعنى الحسي والمادي للكلمة، فالشعر صديق يومي يرعى صاحبه رعاية كي لاتضيع إنسانيته حينما يتوقف عن الإصغاء المرهف لذاته.يقول وجيه فانوس :”وحده خليل حاوي، بين الشعراء العرب المعاصرين جميعا، استطاع أن يصل إلى رحاب توحِّد الذاتي بالجمعي، ولذلك فإنه كان الشاعر الوحيد الذي لم يجد بدّا من الموت، في لحظة كانت أمته فيها تشرف على الموت.نعم كانت قصيدته الأخيرة، تلك التي كتبها ببارود بندقيته، على جبهته وفي محجر عينه اليمنى، هي أعظم دليل على توحد الذات بالأمة، لكنها في الوقت عينه، أكثر الأدلة إيلاما وفجيعة، إذ وجع الأمة وسوادها حجبا، في ذلك الحين، كل إمكانية لرؤية الراحة و إشراقة الفجر خارج فعل الموت”.
إذن ليلة 5حزيران 1982، على الساعة العاشرة ونصف ليلا، وضع خليل حاوي خاتمة لحياته، وقد تراكمت المآسي، وتداخلت أسئلة الشخصي والقومي والشعري والسياسي، واستفحل ثقلها على أنفاسه، فكان الملاذ بندقية الصيد التي رافقته عقودا من الزمن :
*خلال طفولته الصعبة، تعرَّض خليل حاوي لصدمة سكنت مجمل كيانه طيلة حياته. يتعلق الأمر تحديدا، بوفاة شقيقته الصغيرة أوليفيا في سنِّ الخامسة، نتيجة حمى مميتة، وقد أحبَّها كثيرا وارتبطت مشاعره بوجودها اليومي بجانبه.مايؤكد فداحة تلك الخسارة بالنسبة إليه، ترديده باستمرار غاية وفاته العبارة التالية :”قضيت العمر كله أترقب عودة أوليفيا.غريب أمر هذه الطفلة، مازلت لليوم أترقب عودتها وهي لاتأتي.أين أنت ياأوليفيا؟”.لقد شكَّل رحيل أخته الصغيرة، جرحا غائرا في نفسيته.
*غرامياته الفاشلة، بحيث أخفق خليل حاوي في الارتباط بامرأة ارتباطا دائما والزواج.يتراجع في نهاية المطاف، أو يجابه بالرفض مثلما حكايته الشهيرة مع القاصّة العراقية ديزي الأمير، التي أقامت عنده خلال سنواته في كامبردج، أثناء تحضيره للدكتوراه.جمعت بينهما علاقة عاطفية، تبادلا رسائل طويلة، خطبها فعلا على أمل الزواج، لكن مختلف ذلك انتهى إلى الفشل.تراجعت الكاتبة العراقية عن وعدها، بناء على مبرِّر أنَّ شخصية خليل حاوي المتقلِّبة والمزاجية والبوهيمية، تجعله غير قادر على تحمُّل أعباء العيش المشترك.بهذا الخصوص، تخبرنا الروايات بأنَّه قبل انتحاره بفترة قليلة، التقى ديزي الأمير صدفة في شوارع بيروت، وتوسَّل منها العودة إليه والزواج به، لكنها تمسَّكت برفضها.
*يقال بأنَّ خليل حاوي، اختبر قبل تلك الليلة الشهيرة، تجربة الانتحار بالسعي إلى الموت الإرادي ستّ مرات، لكن جميعها باء بالفشل، فأسرع به أهله صوب مستشفى الجامعة الأمريكية قصد علاجه من نوبات الاضطرابات النفسية، أرغمته على تناول أدوية مهدِّئة.أيضا، تحدث البعض عن معاناته مع مرض الصرع أو وَرَمٍ في الرأس.
*الانكسارات العربية المتواصلة، بعد المقدمة الكبرى لهزيمة الناصرية سنة 1967، ثم تداعيات الإحباط واليأس الذي اكتسح الشعوب والأنتلجنسيا، بحيث تهاوت دفعة واحدة مختلف الأحلام الموصولة بالشعارات القومية التي أثارت جدا هِمَمَ الجميع قبل أيام النكسة.عاش خليل حاوي بحواسه مختلف ذلك، كي يراكمه بجانب ذكرى سوداء أخرى عالقة دائما بين ثنايا ذاكرته التي تعود إلى سنة 1934، حينما أُعْدِم رفيقه وابن بلدته الشوير، المناضل أنطون سعادة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تطلَّع نحو سوريا الكبرى:”لقد استلهم خليل حاوي من مؤسس الحزب أنطون سعادة صورة الفداء في البطل، تماما كما تأثر بالفداء المسيحي، بل أكثر.وفي الواقع، فإن تجربة خليل حاوي في الحزب، كما يقول نعيم جرداق صديق الشاعر، هي أهم حدث في حياته لجهة تكوينه الروحي والنفسي والمعنوي والشعري. وحاوي لم يستطع أن يسحب نفسه من سعادة كمفكر وقدوة ونهضة روحية ورسالة”(3).يستعيد خليل حاوي ذكرياته صحبة أنطون سعادة :”لم يخرجني من عالمي هذا سوى جارنا أنطون، ابن الطبيب خليل سعادة.التقيته عندما جاء من البرازيل.تكرَّرت جلساتنا.تجمعنا اهتمامات مشتركة، أدبية ولغوية خصوصا.أنا في الثالثة عشرة وهو في الثامنة والعشرين.والفارق بيني وبينه، وبينه وبين الآخرين في البلدة، ليس عمريا فحسب.اطلاعه واسع وشخصيته مجرِّبة وقد رسم لحياته طريقا.يدعو إلى نهضة قومية سورية.يسعى لتأسيس حركة نظامية تواجه تقسيم الهلال الخصيب وبناء دولة لليهود في فلسطين وقضم تركيا الاسكندرون.يتحدَّث عن ذلك بحماسة ونبرة خطابية وفصاحة.شدَّني ذلك، وجذبني أكثر ذاك التمرد الدافع إلى المواجهة والممزوج بالفكر.كرَّر عبارة”نظرة فلسفية جديدة إلى الحياة والكون والفن”.كان الإنصات له والحوار معه، ونحن نمشي بين أشجار الصنوبر، متعة وتحريضا على المعرفة.وحين كنا نزوره في العرزال، تطرَّقنا للأدب السوري.لمعت عيوني وانشدهت له وهو يبحبش في القصائد والقصص والروايات ويحلِّلها ربطا بالأمة والنهضة والفلسفة والحياة.كان يقول كلمات وأفكارا تحوم حولي منذ زمن، أبحث عنها، أنتظرها”…
*سيزيفية الحرب الأهلية بين سنوات(1975-1990) : تلك الحرب العبثية بين أبناء الوطن الواحد لأسباب محض طائفية، ذات مصالح عشائرية ضيقة، قوَّضت جذريا إمكانية قيام دولة مدنية مؤسَّساتية، حقيقية تخلق للمبدع فضاء جديرا بالحياة.لذلك، تراجعت أسباب الأمل والرجاء لدى الشاعر خليل حاوي مع ترسخ فظاعة العنف لما يقارب خمسة عشر سنة.
*العزلة وانطفاء شعلة وجدوى الإبداع :أخذت عزلة خليل حاوي منحنى متطوِّرا، غاية أن بلغت أوج وَجَعِها، بحيث توطَّد عنده شعور الاغتراب، والأفظع لم يعد يسعفه الشعر مثلما كان الأمر سابقا :”أدَّت الوحدة في المرحلة الأخيرة من حياته إلى الأخذ بحال لاواعية قادت، على تعبير كولريدج، إلى انطلاق تأملات لاضابط لها، قد تخلى عنها الوعي الصريح كله، لأنها قد أصبحت شيئا مجرَّدا شفافا، حين اجتازت حدود العقل وأهدافه.وكان لابد من أن يغدو حاوي نفسه هو الفينيق الأسطورة، تحضيرا لولادة جديدة ”للملاَّح القديم”و”للعازر”معا…للحركة بعد السكون، لانتعاش الروح بعد هبوب الريح”(4).
جملة روافد ومشارب في شكل خيبات عميقة، صبَّت جميعها عند بوتقة ماحدث تلك الليلة، والقوات الإسرائيلية تطوي همجية وظلما شوارع بيروت، فكانت زند بندقية الصيد التي حولته إلى جثة هامدة، قصيدته الأخيرة احتجاجا بكل موت الأحياء، وحياة بلا حياة، وموت بلا كبرياء.جاء تأبين محمود درويش، كما يلي :”كيف أتتك كل هذه الشجاعة ياخليل بطلقة واحدة قضت على كل تلك الأسئلة المربكة ولغز اختلاط الأزمنة في ذاكرتك؟زمن مضى لكنه لاينتهي وإن هذا الزمن دفع بحاوي إلى الانتحار”.
أما، الكاتب وجيه فانوس، فقد اختزل كل هذا المسار التراجيدي بقوله :”لطالما هربتُ، في كتاباتي وأحاديثي السابقة عن خليل، من هذا التعبير :”الموت انتحارا”؛ولطالما حوَّرتُهُ إلى أنَّ خليلا قرَّر كتابة قصيدته الأخيرة، أو مجرَّد أنَّه قرَّر الرحيل.لكن، وبعد كلّ ماحصل ويحصل منذ تسع وعشرين موسم فجائع بعد موت خليل، فإنِّي لن أقدر إلاَّ أن أقول إنَّ خليل حاوي أراد بوعي فذٍّ، وإصرار مرعب، وتصميم هادف، وتضحية فجائعية، أن ينتحر.وها أنَّ رؤياه الشعرية الحضارية والتزامه القوميّ وحلمه بنهضة قوميّة عربية ما انفكَّت تسألني، مرّة بوقاحة، وأخرى بحزن، وثالثة بخجل ورابعة بجنون وخامسة بلهفة وسادسة من غير أيِّ تأثر أو انفعال، بل بيأس بارد متخشِّبٍ :هل موت خليل حاوي انتحارا هو البداية للإعلان عن موتنا؟كان خليل حاوي رؤيويا حضاريا ملتزما العروبة؛ فهل مازال رؤياه صادقة حتى اليوم”(5).
هوامش :
(1)جمانة حداد :سيجيء الموت وستكون له عيناك.الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى2007 .
(2)نازلي حماده : رسائل خليل حاوي إلى نازلي حماده، دار نلسن للنشر، الطبعة الأولى2013، ص 49 .
(3) خليل حاوي دراسات وشهادات :دار نلسن، الطبعة الأولى، 2012 . ص 24 -25
(4)نفسه ص 67- 68
(5)نفسه ص 80