أحـمد عبد الرحـيم
يبقى فيلم (Moulin Rouge!) أو (الطاحونة الحمراء!) جذابًا. ليس فقط لجمالياته المبهرة، وإنما للرسالة التى أراد أن يبلّغها عبر هذه الجماليات.
بعد انصراف الجمهور الأمريكى عن السينما الغنائية الاستعراضية منذ بداية السبعينيات، ثم ظهور قنوات الأغانى المُصوَّرة مثل MTV وCMC فى بداية الثمانينيات، تراجعت هذه السينما لقرابة الخمسة وثلاثين عامًا (ما بين عام 1968 وعام 2002 لم يفز فيلم غنائى بجائزة أوسكار أحسن فيلم إلا Oliver أو أوليڤر– 1968، و Chicagoأو شيكاغو– 2002). لكن يجىء (الطاحونة الحمراء – 2001) مُخلِصًا إخراجيًا لمفردات الفيديو كليب ((music video المعاصر، وكأن مخرجه الأسترالى (باز ليهرمان) يعيد هذه السينما، وبالسلاح عينه الذى ضربها يومًا ما، ليجعله أداة من أدواتها.
الأهم من ذلك أن الفيلم كعمل يدور فى باريس عام 1899 يلتزم بزمنه فى كل شىء، عبر الملابس والإكسسوارات والديكورات، لكنه – على مستوى الموسيقى – يختار أغانى من أشهر الأغانى الشعبية (pop songs) فى القرن العشرين، ليعيدها بتوزيع معاصر لزمن إنتاج الفيلم، ويطوِّعها لدراما العمل بتغيير بعض أشعارها، ويستوحى منها موسيقاه التصويرية.
الفيلم الموسيقى القائم على إعادة تقديم أغانى قديمة، المعروف بـJukebox Musical، ليس بجديد. فمثلًا سنة 1952 أخرج (چين كيلى) و(ستانلى دونين) فيلمًا شهيرًا من هذه النوعية وهو (Singin’ in the Rain أو الغناء تحت المطر). وقبل (الطاحونة..) بخمسة أعوام، أخرج (وودى ألن) فيلمًا آخر (Everyone Says I Love You أو الكل يقول أنا أحبك). لكن هذه المّرة، يقدم الفيلم أيضًا قصة ميلودراما رومانسية تكاد تتطابق ورواية عام 1848 (La Dame aux camélias أو غادة الكاميليا) للأديب الفرنسى (إلكسندر دوماس الابن)، فماذا يقصد (ليهرمان) من إعادة تقديم ألحان قديمة مع قصة أقدم؟! الإجابة: إذا كان (ليهرمان) فى فيلمه السابق (Romeo + Juliet أو روميو + جولييت – 1996) قدم نصًا للمؤلف المسرحى الإنجليزى (وليم شكسبير) من القرن السادس عشر فى أجواء القرن العشرين، دليلًا على خلود دراما (شكسبير)، فإنه فى عمله اللاحق مباشرة (الطاحونة..) يقدم أغانى القرن العشرين فى أجواء رواية من القرن التاسع عشر، دليلًا على خلود تراث الغناء والدراما بأسره.
يقينًا لم يكن الهدف من إعادة تقديم هذه الأغانى هو اختصار الطريق للنجاح عبر اختيار أعمال تملك تاريخًا مع المشاهدين. ولم يكن الهدف، الأساسى على الأقل، تكريم القرن العشرين المنقضى – وقت إنتاج الفيلم – وتمجيد فنه. إنما – فى ظنى – كانت الغاية الكبرى لـ(ليهرمان)، المُشارك فى كتابة السيناريو مع (جريج بيارس)، هو تأكيد إمكانية صناعة قصة مكرّرة، وأغانى مُعادة، بفضل تقديمها عبر شكل جديد؛ مُحيِّيًا خلود التراث من جهة، ومُدافعًا عن عظمة الشكل وعبقرية تطوره من جهة أخرى. لذا راقِب ليهرمان يضع علامة تعجّب أمام عنوان الفيلم، ليس تمييزًا لشخصيته عن الأفلام المنتجة أعوام 1928 و1934 و1952 بالعنوان ذاته وحسب؛ وإنما تعجبًا من تقديم القصة والأغانى ذاتها مجددًا!
كل النقاط الرئيسية لـ(غادة الكاميليا) حاضرة بشكل أو بآخر: باريس القرن التاسع عشر، المحظيَّة الرقيقة المحاطة بأثرياء يشتهونها، الشاب الرومانسى الذى تقع فى حبه وتراه السبيل الوحيد لحياة جديدة طاهرة، تَعَرقُل هذا الحب، نُبْل البطلة فى إقصاء الشاب من حياتها بحجة ولعها بشخص ثرى، ثم موتها شابة بمرض عضال.. إلخ، وإن كان الفيلم يرويها بطريقته؛ فالبطلة هى ساتين، نجمة الغناء فى ملهى الطاحونة الحمراء، التى تقع فى هوى الكاتب الفقير كريستان الذى يريد تقديم مسرحية استعراضية مبهرة مع فرقة طموح، وكيف أن ثريًّا ما يُدعى “الدوق” ينتجها للنجمة الحسناء رغبة فيها، لكنها بهروبها الدائم من قيده إلى حبيبها الشاب تثير غضبته، فيهدِّد المسرحية والمسرح والحبيب، لينصحها زيدلر صاحب المسرح (وليس والد الشاب هذه المرّة) بالانفصال عن حبيبها، مما يقود البطلة لمشهدها الشهير عندما تؤدى دور اللعوب الشرهه للمال خداعًا لهذا الحبيب، لكن بعد ابتعاد كريستيان جريحًا، يعود ليلة العرض المسرحى، ليتحدى الحب كل المصاعب، وينتصر رغم أنف الدوق فى نهاية سعيدة لم تنلها (غادة الكاميليا) الأصلية، ولكن لمجرد لحظات، إذ إن الموت يكتب النهاية باستيلاءه على روح ساتين.
صُنعت هذه القصة فى سياق غنائى استعراضى كوميدى أحيانًا يعيد تقديم مجموعة أغانى من تراث الثقافة الشعبية الحديثة modern pop culture يعود إلى مطربى وأفلام هذه الثقافة منذ بدايتها فى خمسينيات القرن العشرين، وذلك عبر توزيع موسيقى جديد، مستثمرًا إياها لرواية الأحداث (استغرق الأمر عامين كى ينال ليهرمان حقوق استغلال هذه الأغانى). ونرى كيف أن المخرج طوّع فريق عمله لصناعة فيلم موسيقى بتقينات معاصرة يُكرِّم تراث هذه الثقافة (الغناء، السينما، الفيديو كليب..)، مُقيمًا – باختياره الحكى عن مطلع القرن عقب أفوله مباشرة – احتفالية ماكرة بعيد ميلاد القرن العشرين وعيد مئويته معًا، ومُبرهنًا – فى بُعد أعمق – على استمرارية التراث، واستمرارية التعامل المبدع معه أيضًا.
تعالوا لنرى بوضوح كيف حقّق الفيلم هذا الخليط الماهر من التوظيف والتكريم، مُحققًا غايته فى أن يكون عملًا ممتعًا، ذا رسالة، فى آن واحد.
أولًا: أغانى قديمة تم استخدامها كاملة (غير سينمائية الأصل)
1_يختار الفيلم واحدة من أروع أغانى القرن العشرين، وهى أغنية (Nature Boy أو فتى طبيعى) تأليف وألحان (إيدن أبيز)، التى اشتهرت حينما غناها المطرب الأمريكى (نات كينج كول) سنة 1948. أشعار الأغنية تعلن صراحة القانون الأعظم للحياة “أعظم شىء ستتعلمه هو أن تُحِب وتُحَب”، وقد يكون هذا هو خطاب الفيلم الذى يجسِّد المكسب الحقيقى لبطليه، اللذين يفقد كل منهما الآخر فى النهاية، وربما خطاب أى دراما رومانسية، فالعمل يُحيّى الدراما وخلودها.
تتكرّر (Nature Boy)، كأغنية أو ثيمة موسيقية أو أشعار، طوال العمل لتعزِّز معنى دراما الفيلم، فينشرها مؤلف الموسيقى التصويرية للفيلم (جريج أرمسترونج) فى خلفية البداية، بتوزيع عميق الألم يصاحبه غناء القزم تولوز (تمثيل وغناء چون لوجوزيمو)، صديق البطل كريستيان، على لقطات تستعرض باريس 1899، المصنوعة بتقنيات الكمبيوتر جرافيك لعام 2001، ثم لقطات لكريستيان كسيرًا بعد وفاة حبيبته ساتين بالسل، حين يشرع فى كتابة قصتهما / الفيلم. يتكرّر لحن الأغنية عديدًا خلال الموسيقى التصويرية، خاصة الجملة اللحنية المميزة لكلمتى (very far.. very far) كثيمة على البيانو، تعبيرًا عن مناطق الشجن، أو ترسيخًا أن العاطفة هى أعظم شىء فى دنيانا. ويصل استخدام اللحن لأوجِه فى خلفية مشهد المواجهة بين كريستيان وساتين على مسرح الطاحونة الحمراء فى نهاية المسرحية الموسيقية التى تتزامن مع نهاية الفيلم، ليستغل المُوزِّع الجمل الموسيقية للأغنية، عبر الكمان والتشيللو والبيانو الشديد الحزن، للتعبير عن أسى كريستيان المُعتقِد بهجران ساتين له، إلى جانب ألمها الدفين أمامه، ويدور المشهد فى فلك موسيقى الأغنية إنتهاءً بجملتها الرئيسية عند صراخ تولوز إنقاذًا لحب البطلين من تمثيل كاد يضيّعه.
يتكرّر المقطع الأخير من الأغنية “The greatest thing you’ll ever learn is just to love and be loved in return” لكن مُغنّى على لسان تولوز تأبينًا لموت ساتين بالختام، وهو يقف خاشعًا أمام حكم القدر فوق الملهى، بالقرب من طاحونته التى جسّد صوت دورانها المضخَّم صرامة القدر، ونهائية أحكامه. حتى بعد الختام وإسدال الستار الوهمى على الأحداث، نسمعها – فى شىء من التكرار أظنه ابتذلها – لكن بصوت كريستيان الباكى (تمثيل وغناء إيوان ماكجريجور)، خاتمًا الفيلم بمقولة السيناريو الأساسية كما كانت تفعل أقدم وأضعف الأفلام عادة، وقد يكون ذلك مقصودًا ضمن سياق سخرية الفيلم المستمرة مما يقدمه كبضاعة تم تقديمها من قبل، وقد تُقدَّم ثانية فى زمن آخر، لأن ساتين تموت لكن قصتها لا تموت. يعضد هذا نزول تترات النهاية مع الأغنية كاملة بتوزيع جديد يغنيه المطرب (ديفيد بووى).
2_تُستخدم أغنية (Your Song أو أغنيتك)، التى كتبها (بيرنى تايبن) ولحّنها (ألتون چون) ليغنيها الأخير عام 1970، مرّة كأغنية، ومرّات كموسيقى مُجرّدة. الأغنية تجىء أولًا على لسان كريستيان عند محاولته إقناع ساتين بعواطفه، مُستغلًا أشعارها المكتوبة على لسان فنان فقير باعتبارها كل ما يملك إهداءه لحبيبته، بعيدًا – وفق دراما الفيلم – عن أموال الدوق ونفوذه، لاسيما مع مقطع مثل “أنا أعلم أنها ليست بالكثير، لكنها أفضل ما أستطيعه. موهبتى هى أغنيتى، وهذه الأغنية من أجلكِ”. فى ذلك المشهد، تعلو الأغنية تصويرًا مع اللحن المُوَزّع أوركستراليًا لتعبِّر عن لحظة الحب الحقيقى التى يعيشها البطل والبطلة، ويتنامى فى الخلفية قرب النهاية كورس من أطفال يردِّدون أشعار الأغنية تعبيرًا عن طهر مشاعر الحب، ومناقضة لجو المشهد السابق الحسى اللاذع (محاولات إغراء البطل جنسيًا اعتقادًا على نحو خاطئ أنه الدوق)، فضلًا عن صوت سوبرانو فى الخلفية يختم الأغنية وكأنه القمر نفسه يشاركهما الغناء – بعدما انتقلا فى خيال سينمائى رائق لما فوق السحاب – حيث نرى بالفعل وجهًا إنسانيًا فى القمر؛ ليبدو كما ظهر فى فيلم جورچ ميليه الصامت (رحلة إلى القمر)، إنتاج 1902، فالتحية هنا ليست لأغنية الستينيات، وسينما ميليه.. بل لغناء، وسينما، القرن كله.
يتكرّر لحن (Your Song) فى تتابع لقطات قصير photomontage يستعرض تصاعد حب كريستيان لساتين فى بروفات المسرحية، لكنه ينقطع كلما تدخّل الدوق وسطهما؛ وهى إرهاصة بعدم اكتمال لحن حبهما، ربما للأبد. ثم يتكرّر فى خلفية المشهد الذى يؤكد فيه تولوز لكريستيان أن ساتين تحبه بصدق، لاسيما بعد ظن كريستيان الخاطئ أنها قد خانته مع الدوق، لنشهده معزوفًا بخفوت كروح عشق البطل تولد من جديد، ويدعمه كورس فى الباطن يَشُد من عزم إرادته، ليعود إلى المسرح ليلة الافتتاح كى يتحقّق من مشاعر البطلة تجاهه.
3_كان حلم ساتين الوحيد هو الخلاص من عالم الطاحونة الحمراء إلى عالم آخر أرحب تستقر فيه بالزواج من الدوق الذى لا تحبه، لمجرد أنه سيجعلها ثرية، وممثلة شهيرة مثل نجمة المسرح الفرنسى حينذاك (سارة برنار)، فى بيع جديد لنفسها، لكن لشخص واحد هذه المرّة، نظير “الطيران بعيدًا يومًا ما” أو (One Day I’ll Fly Away)؛ وهى الأغنية التى غناها المطرب (راندى كروفرد) سنة 1980، وتردّدها ساتين (تمثيل وغناء نيكول كيدمان) إيمانًا بحلمها، حتى بعد ظهور كريستيان، فى محاولة لترسيخ ما اهتزت الثقة به من مستقبل مضمون ماديًا مع الدوق. تتكرّر الأغنية فى توزيع حزين عند لحظات احتضارها، إيذانًا باقتراب “طيرانها” من هذه الدنيا!
4_(Like a Virgin أو مثل عذراء)، أغنية (مادونا) من عام 1983، يستخدمها الفيلم لصياغة مشهد ضاحك، حين يوهِم زيدلر (تمثيل وغناء چيم برودبينت) الدوق أن ساتين تتطهّر فى الكنيسة لتسلِّم جسدها له وقد وُلِدت من جديد، بينما هى تحتضر فى الواقع. ويبدأ البعد الكوميدى فى مفارقة نقل الخطاب الغنائى من لسان صاحبة الأغنية الشابة إلى لسان مُذكّر عجوز فى أداء مُبالِغ لإثارة الدوق، فضلًا عن انتقال الخطاب فى المقطع الأخير إلى الدوق نفسه (تمثيل وغناء ريتشارد روكسبرج) بصوته الرفيع القبيح، ودعّم جو السخرية – صوتيًا – امتلاء الأغنية بكورس أصوات ذكورية جادة تهتف الكلمات بكل فخر وكأنها نشيد وطنى!، مع مؤثرات صوتية مرحة، كهذه المُمَيِّزة لأفلام الكارتون، تهكمًا من الدوق وأحلامه الحمراء.
5_أغنية (Roxanne أو روكسان)، تأليف وألحان (ستينج) من عام 1978 خلال إنتمائه لفريق (The Police) تُظهِر تعذُّب رجل يعشق عاهرة، وتجىء هنا فى توزيع تانجو حاد وهادر يُعبِّر عن عذاب ساتين التى تُجبَر جبرًا على قضاء ليلة بالفراش مع الدوق، وعذاب حبيبها كريستيان الذى يدرى بذلك. وبدا العذاب – موسيقيًا – كالجحيم عبر استخدام آلات الكمان والنفخ والإيقاع إلى آخر درجات علوها، مع كورس فى أقصى طاقات صراخه، اندماجًا مع التهاب عواطف البطلين، وعويلهما الوجدانى. يعود توزيع لحن الأغنية مجددًا، كموسيقى فقط، فى خلفية طرد كريستيان من الملهى عقب إيهام ساتين له بأنها لا تحبه؛ كصدى لعذاب صار أكثر يأسًا من الصراخ.
6_(The Show Must Go On أو العرض لابد أن يستمر)، أغنية (فريدى ميركورى) عبر فريقه (Queen) من عام 1991، التى تختزل خطاب زيدلر حين إقناع ساتين بالموافقة على هجر كريستيان، والارتباط بالدوق؛ رحمة بحبيبها الذى سيبطش به الدوق، وسيعذِّبه موتها القريب بالسل، وضمانًا للقمة عيش عاملى المسرح. تبدو أشعار (العرض لابد أن يستمر) وكأنها صِيغت لهذا الموقف عينه؛ مرّة عندما يتم نشرها على لقطات لعاملى المسرح الأبرياء، الذين سيضيع رزقهم بمجرد لفتة من الدوق لو اختارت ساتين من تحب، لذا لابد للعرض “المسرحى” ألا يتوقف. ومرّة أخرى عندما تشير لحتمية حَبك العرض “التمثيلى” لساتين على كريستيان، كى يصدِّق أنها مجرد بائعة هوى لا تعبأ إلا بالنقود. عَكَس التوزيع الموسيقى صراخ ساتين المكتوم، خاصة عندما تتسلّم الغناء من زيدلر الذى يشاركها لاحقًا الجملة الأساسية تدعيمًا لمهمتها فى الكذب على البطل، واستعان المُوزِّع بالكورس دليلًا على أن الأمر صار مطلبًا جماعيًا، ثم صعّد الموسيقى لأقصى ذرواتها، مع عبور ساتين متجهه من الملهى إلى مسكن كرسيتيان، حيث يتأجج الكمان مستعر الألم، وصولًا للجملة الموسيقية الأخيرة التى تتعالى لثوانٍ فى دخول ساتين على كريستيان، ثم لا تلبث وتنهزم مستسلمة إيذانًا باستسلام ساتين لدورها. يعترض هذه الجملة الموسيقية الأخيرة مؤثِّر صوت دوران الطاحونة ماضيًا فى عنف، كحكم قدرى مفروض على البطلة، لا تراجع فيه، أو مساومة.
ثانيًا: أغانى قديمة تم استخدامها كاملة (سينمائية الأصل)
تَكثُر الأغانى المستمدة من أعمال سينمائية سابقة فى الفيلم تأكيدًا على المعنى المقصود من تكريم غناء وسينما القرن المنصرم. الأغنية الوحيدة التى اُستخدمت كاملة هى (Diamonds Are a Girl’s Best Friend أو الماس هو أفضل صديق للفتاة) ضمن استعراض (Sparkling Diamonds أو ماسات متألقة)، التى رغم انتمائها إلى مسرحية برودواى الغنائية Gentlemen Prefer Blondes) أو السادة يفضِّلون الشقراوات) من عام 1949، فإنها نالت الشهرة العالمية عندما غنتها النجمة (مارلين مونرو) فى الفيلم الهوليوودى المأخوذ عن المسرحية من عام 1953. تُصاحِب الأغنية دخول ساتين الأول عبر فقرتها الراقصة بالملهى، لتعلن أن “كل جمالنا سيضيع فى النهاية، ولن يبقى إلا بريق الماس..”، ثم تُنشَر على خلفية موسيقى هندية قرب النهاية، تمازجًا مع أحداث المسرحية التى تقدمها فرقة الملهى، والمقصود هو المنطق الخادع فى إيمانه العنيف بالمادة؛ سواء فى اقتناع ساتين به فى البداية، أو فى اختيارها له إجباريًا باعتباره الحل الأوحد لإنقاذ حبيبها، والمسرح، فى النهاية.
فى المرّة الأولى، كانت الأغنية معروضة بلا موسيقى مع جملتها الأولى، خلال إخفاء صورة البطلة تمهيدًا مشوِّقًا لدخولها من سقف المسرح، فى إبهار يتناسب وهالتها كنجمة الملهى، ثم نسمع سكتة يليها ترديد اللحن على أصوات رجالية تجسِّد الحضور الذكورى المتلهِّف لرؤية نجمته الحسناء، والمُحتشِد تحت أقدامها؛ كما تنطق الصورة حرفيًا. ركّز التوزيع على تضخيم الإيقاع بالآلات المميَّزة لموسيقى الچاز (الترومبيت والدرامز) التى تتألق فى الفواصل الموسيقية مع جملة ساتين غير المُغنّاة “تعالوا واحصلوا على يا فتيان ..” وكأنها ملكة تخاطب الذكور من النحل فى خليتها. ثم تتدخّل الإلكترونيات فى صياغة الموسيقى؛ ليتكامل الحس المادى للماضى (الچاز الزاعق: loud jazz) بحس مادى معاصر (موسيقى التكنو: techno music).
تتكرّر الأغنية فى النهاية عبر استعراض (Hindi Sad Diamonds أو ماسات هندية حزينة)، مُغلَّفة بالموسيقى الهندية لأغنية ((Chamma Chamma، المأخوذة من الفيلم الهندى (China Gate أو بوابة الصين) إنتاج 1998، لتغنيها ساتين فى مشاعر مُناقِضة تعكس عدم إيمانها بما تقول، ومُزِج بين الأغنيتين ليس فقط لاعتزاز ليهرمان بالسينما الهندية التى يعشق إبهارها، وإنما لتحقيق صخب صوتى يندمج والصخب البصرى لديكور وأزياء وإكسسوار الخلفية، كى يعمِى ظهور المشاعر صادقة أمام الدوق الجالس متفرجًا، لتبدو تلك البهرجة الكثيفة كالمساحيق الثقيلة على وجه الممثل المسرحى، مُعزِّزة فكرة أن ساتين تغنى الأغنية “تمثيلًا”؛ ضمن المسرحية، ودراما الفيلم. فى ختام الأغنية، تُكمِل ساتين تنكّرها لمشاعرها، مُعلِنة فى حسم أمام الدوق قناعتها بالمادة لا بالحب عبر جملة “الماسات هى أفضل صديق للفتاة”، وإن كان فى أداء هادئ متبلِّد يعكس إذعانها لما تعانيه من أقدار هى أضعف من كفاحها.
ثالثًا: أغانى قديمة تم استخدامها غير كاملة (سينمائية وغير سينمائية الأصل)
يستغل الفيلم أغانى أخرى لها بريقها المتفرّد، وينشرها ناقصة فى الخلفية صائغًا إياها ضمن نسيج العمل، أو لعله يصوغ العمل ضمن نسيجها مثل:
1_(The Sound of Music أو صوت الموسيقى)، من مسرحية برودواى الغنائية بالعنوان ذاته للثنائى (ريتشارد روچرز) و(أوسكار هامرستاين) من عام 1959، ثم الفيلم الهوليوودى الشهير من عام 1965، ويغنيها كريستيان للفريق الباريسى الراغب فى تقديم مسرحية بعنوان (مدهش، مدهش) ليقتنع الكل به وهو يشدو “التلال مليئة بصوت موسيقى تملأ قلبى..”، بعدما كانت كلماتها على لسانهم “التلال مليئة بالسيمفونيات..” كبرهان يوحى بانتصار الأغانى الشعبية، باعتبارها الشكل الأكثر جماهيرية للموسيقى فى القرن العشرين، وهو ما حوّل الموسيقى الأكثر كلاسيكية إلى رواد الأوبرات وجمهور الأقلية من المثقفين، اعترافًا بإيقاع عصر جديد فرض حالة تنأى نوعًا ما بالعمل الموسيقى أو الغنائى الطويل عن صفة الشعبيّة.
2_(Lady Marmalade أو السيدة الحلوة مثل مربى البرتقال) لفريق (Labelle) من عام 1974، التى يُعَصْرِنُ الفيلم موسيقاها من إيقاعات (disco) السبعينيات إلى (hip hop)التسعينيات، ويغيّر جزءًا من أشعارها، ويضعها على لسان 4 مطربات معاصرات، تركيزًا على مضمونها الشهوانى كدخول مثالى لعالم الطاحونة الحمراء بالبداية، وذلك على لقطات تبرزه كمسرح للشهوات الجنسية المتنوعة التى تُمارس فيه بإباحية، لنشهد – خارج الكادر – المطربات (مايا) و(كريستينا إيجولير) و(بينك) و(ليل كيم) يردّدن جملًا مثل “هل تريد ممارسة الجنس معى الليلة؟”.
3_ Smells Like Teen Spirit)أو تبدو مثل روح مراهقة) لفريق (Nirvana) من عام 1991، وهى أغنية عن ثورة المراهقين، مشهورة بكلماتها غير المترابطة، وجاء استغلالها ذكيًا باعتباره إعلاء لقيم التمرد مع حالة الترنح، خاصة عند الدخول الأول للملهى.
4_(Material Girl أو فتاة مادية) للمغنية (مادونا)، التى يُدمج مقطع منها مع أغنية (Diamonds Are a Girl’s Best Friend) فى دخول ساتين الأول كنجمة الملهى، وتميِّز المنطق المادى الذى تعتنقه وقتها، ويعتنقه القرن العشرون غالبًا: “أنا فتاة مادية فى عالم مادى بالكامل!”. الطريف أن (مادونا) فى فيديو كليب الأغنية من عام 1985 أعادت ملابس وديكورات ورقصة استعراض (Diamonds Are a Girl’s Best Friend) من فيلم (Gentlemen Prefer Blondes). أى أن Diamonds..)) قُدِمت فى فيلم عام 1953، ثم أعيد جوّها عبر Material..)) فى فيديو كليب عام 1985، ليجىء (ليهرمان) ويعيد تقديم الأغنيتين معًا فى فيلم عام 2001، فى تحية لعالم السينما والفيديو كليب والأغانى الشعبية، وفى تجسيد لفكرة استعارة الإبداع أو إعادة تقديمه.
5_(Rhythm of The Night أو إيقاع الليل) أغنية فريق (DeBarge) من عام 1985، تُوضع بغناء (ڤاليريا أندروز) فى خلفية الرقصة ما بين ساتين كريستيان فى أول لقاء بينهما حينما تظنه الدوق، ويوزّعها الفيلم بالإيقاع اللاتينى الساخن كسخونة هذا اللقاء الأول، وظن ساتين برغبة ذلك الدوق فى إطلاق العنان لشهواته معها.
6_تُلخَّص التحية المقصودة نحو أغانى القرن العشرين عبر أغنية ثنائية بعنوان (Elephant Love Medley) لم تزد على تجميع لجمل من أغانى عاطفية عديدة عند محاولة البطل إقناع البطلة بشفافية الحب، وسموه عن المادية. وضمّ تراشقهما جملًا من أغانى قادمة من الفترة بين الخمسينيات والتسعينيات مثل: (All You Need Is Love أو كل ما تحتاجه هو الحب)، (Love Is A Many Splendored Thing أو الحب شىء رائع للغاية)، (I Will Always Love You أو سأحبك دائمًا)، (Pride Is The Name of Love أو الكبرياء هو اسم الحب)، مع أغنية (Silly Love Songs أو أغانى حب سخيفة) لـ(بول ماكارثنى)، فى إشارة عامة لكون كل هذه الأغانى سخيفة، أو ساذجة كما توحى كلمة sillyفى الإنجليزية، لأنها لا تتماشى مع مادية الواقع المحيط بهما، ومع حلم ساتين وقتها بالخلاص عبر هذه المادة ذاتها / الدوق.
رابعًا: أغانى أصلية (من إبداع صنَّاع الفيلم)
بعيدًا عن هذه الإعادات الموفّقة لأغانى قديمة، يقدم الفيلم أغانى مكتوبة خصيصًا له، لتدمغ أصالته وموهبته فى التأليف الغنائى وليس التوزيع فقط، وكتب معظمها المخرج مع سيناريست الفيلم؛ مثل:
1_Zidler’s Rap) أو راب زيدلر): أغنية راب عنيفة الإيقاعات لزيدلر، مُقدِّمًا ملهاه كمرقص محموم خارق للمألوف (تتخلّلها أجزاء من أغنيتى Lady Marmalade وSmells Like Teen Spirit).
2_The Pitch “Spectacular, Spectacular”) أو عرض فكرة مسرحية “مدهش، مدهش”): أغنية جماعية يرتجل فيها كريستيان وفرقته فكرة مسرحية (مدهش، مدهش).
3 Fool to Believe)_أو أغبى من أن يصدق): أغنية ثنائية، قصيرة وآسفة، عند إقناع زيدلر لساتين بالتخلى عن حبها لكريستيان.
4_Coup d’etat) أو انقلاب): أغنية ثنائية لساتين وكريستيان عند انتصار حبهما فى النهاية، وهى انقلاب لهذا الحب على ظروفه القاهرة، وانقلاب “نسبى” لنهاية الفيلم على نهاية (غادة الكاميليا).
5_(Come What May أو مهما حدث)، تأليف (ديفيد بيروالد)، المُغنّاة بصوت البطلين على تتابع لقطات استمتاعهما بالحب، تعبيرًا عن صمود هذا الحب أمام أى ظرف. تُكرِّر ساتين مقطعها الأول وسط أغنية (Roxanne) مُلتجئة لحبها خلال محاولة الدوق اغتصابها. ثم يغنّيها البطلان مجددًا بالنهاية، ضمن (Coup d’etat)، احتفالًا بانتصار حبهما. ولا أعلم هل الأغنية تمجيد للشعور العاطفى الأنبل وقوته، أم سخرية منه إذ سيهزم القدر هذه القصة فى النهاية، أم الامران معًا؟!
*
ينتهى الفيلم كما بدأ، بستارة مسرح كارتونية تعرض مايسترو كاريكاتورى الحركات يقود أوركسترا لا نراه لكن نسمعه يردِّد فى البداية جملًا متنوعة من (Sound of Music) ، ورقصة (Can Can) الفرنسية، ولحن (Nature Boy) وهى الأغنية التى تختم العمل مع نزول الستارة ببطء يتماشى مع إيقاع حزن النهاية، وقصة الحب التى تحولت لأطلال. الستارة هنا قد تكون مقصودة لصياغة مسافة ما بين الجمهور والحدوتة، لنستغرق – بعيدا عن القصة المستهلكة فى الأصل – فى عمل يُكرِّم الفن الغنائى والسينمائى فى القرن العشرين “المدهش، المدهش”، أو هى سخرية من الميلودرامية المسرحية للقصة، أو لعلها إشارة تقوم بمهمة الفيلم ذاتها، وتجسِّد هذا العرض الذى ينتهى ليبدأ من جديد، ولابد أن يستمر ما دام الانسان مستمرًا فى فنه، حيث لا توجد أفكار جديدة وإنما أشكال جديدة؛ وهى الحقيقة التى قدمها الفيلم ببراعة، لينجح أن يكون عملًا جذابًا للعين والأذن.. والعقل أيضًا.
…………………
*نُشرت فى مجلة الثقافة الجديدة / العدد 268 / يناير 2013.