البهاء حسين
الأقدامُ ذاكرة
أمّ قريبة
تُولدُ الخطوةُ من قدميك
تُولدُ أنت
ما دمتَ تمشى
يولدُ من قدميك الطريق
،،
أمشى، فى القاهرة، كمن يمشى بداخله
لا أريدُ للطريق أن ينتهى، رغم التعب
فى كل خطوةٍ أعرف نفسى، حتى فى هذه السّن
أعرفُ ماذا أريد
ماذا تقولُ لى القاهرة
بداخلى زحمة أكبرُ من زحمتها
أدخنتى أكثر
لكننى أمشى، أحياناً، أربع ساعات متواصلة
كى أتخفّف من عوادمى
أمشى من أجل أمى
كى أجترّ مشاويرى معها، فى البيع والشراء
كى أجترّ أمى نفسَها
مدينتى البعيدة
،،
خطُ السير قدَر
قد تنتظر الأتوبيس، لكنه حين يأتى يغيّر اتجاهه
القدر نفسُه خط سير
لا يغيّره إلا دعاء أمك
:
كل ما فى القاهرة يا أمى، كما فى قدرى
لاهثٌ وحزين
،،
اشتبكتُ، مؤخراً، مع الكمسارى .. ضربنى وضربتُه
كان يمكن لذلك ألا يحدث
لكن المشاكل، كالعادة، تُمسك فى تلابيبى
كأنها عجلات تحتى
كأننى خط سير
،،
كل شىء يعطيك إشارة، قبل وقوعه
تحدّسه، لكنك لا تتجنبه، رغم ذلك
نعيش الأذى هنا يا أمى بطرق مختلفة
مثلما تعيشين أنت شيخوختك بأكثرَ من طريقة
مثلما تعيش المدن القديمة
الحضارات
أمشى هنا لا شىء حولى سوى التراب
غير أن التراب بداخلى يشغلنى أكثر
ولهذا أحب المشى
حبى لجلسة على البحر، فى “مطروح ” فوق صخرة
حيث يسحبُ الموج التراب من أقدامى
حبى لفيلم أجنبىّ جيدٍ تنزل معه دموعُ العين
لأصابعى حين تدلك جسمك المتعب، كلما سافرتُ إليك يا أمى
كما كنتُ أفعل وأنا دون العاشرة من العمر
كنت أدلك ساقيك أولاً
وكلما استحسنتِ هذه الحركة أو تلك
كلما زُمتِ، ومططتِ الصوت
أعرف أنك تريدين أن أتمادى فى تمريسك يا لئيمة
،،
لا أحد يستحق أن تسامحه على الأذى
حتى قلبك
،،
القاهرة يا أمى أصبحتْ مثلك أرملة
طاعنةً فى السن
ذاكرتى أصبحتْ مثلك
خطوتى
سحنتى
أنا كلى أصبحتُ مثلك فى شيخوختى
ولهذا أريد أن أمشى أطولَ وقتٍ ممكن
كأنك لن تموتى إن مشيْت
،،
فى طفولتى، بإيعازٍ من أمى التى تحتال على العيش
كنت أزوّغ من الكمسارى
فى القطار
أنكمش، أُدسّ رأسى وأطرافى داخل جلابيتى
فأبدو مثل جوالٍ صغيرٍ فوق
الرفّ الخشبى الطويل
لا حسٌ ولا حركة
كأننى ميتٌ
كى لا تقطعَ أمى نصفَ تذكرة لطفولتى
كنت أختبئ أحياناً تحت الكنبة، والأقدام كفيلة بأن تدارينى
إلى اليوم
ما زلتُ أتهربُ من الكمسارى، وأجدُ لذة فى ذلك
كأننى أُعفى أمى، بأثرٍ رجعىٍ، من تكاليفى
كأننى أجترّ طفولتى
كأننى ما زلتُ فى تلك المحطة
هناك فى “سوهاج “
قاعداً فى انتظار القطار
على الرصيفِ، بجوار أمى
،،
تسللتْ أصابعى مرةً، فى القطار، إلى ساقين عاريتين لفتاةٍ نائمة
تكبرنى قليلاً، كما يبدو من ساقيها
من الزغب الخفيف
مثلتُ أننى نائم امتدتْ يده، بالرغم منه، إلى الكنبة المقابلة
أتقن هذه الأدوار، منذ الطفولة
لكننى، فى شيخوختى، لا أعرف، للأسف
كيف أخمّن الخطوة التالية
منذ الطفولة وأنا أحاول أن أرى آخر الطريق،
قبل أن يبدأ
أن أعرف مسبقاً، ما سيحدث فى حياتى
ما سيحدث فى الأتوبيس، اليوم
قبل أن أركب
ربع قرن، وأنا أحاول أن أعود إلى بيتى
بأقلّ قدرٍ من العاهات التى تعلق بعينى
كل شىء يعلق بى حين أراه يا أمى
الخلقة المشوهة، نداءات الباعة الجائلين
عاهات الشحاذين الحقيقية أو المصطنعة
وساخة المقاعد، شجارُ الناس، بصقاتهم من الشباك
يعلق بى غبارُ الطريق، الصهدُ
غير أن القاهرة فى الشتاء
تُدفئها قبلةٌ واحدة
:
أمسِ فوجئتُ بامرأةٍ أمامى
تبصقُ على رجلٍ كبيرٍ يقعد خلفى
تعقيباً على انتقاده للجيش
لوّحت حتى بالشبشب، وكادت أن تضربه به
قلتُ: ربما فقدتْ قريباً، أو حبيباً
أخاً أو ولداً
ربما كانت حزينة، ولا يكفى لون جلبابها الأسود لخروج الحزن من القلب
كنتُ أتفرّج ومن حسن الحظ أننى تفاديتُ بصقتها
قبل أن تحطّ على فم الرجل
دون ترددٍ أو مواربة
،،
يأتى الأتوبيس متأخراً كل يوم
لكن القاهرة لا تُخلف مواعيدها
أمك هى التى تمشى بداخلك
تقعد معك، دون أن يراها الناس، على الكنبة
دون أن تقطع لها تذكرة
،،
يأتى الحظ متأخراً هنا
وقد لا يأتى على الإطلاق يا أمى
غير أننى لم أقصّر
حاولتُ أن أبنى بيتاً هنا
ربع قرن وأنا أتلكك، كى أمشى
أكلم أصدقائى دائماً عن أهمية المشى
كتدريبٍ على تصريف الأحلام التى ماتت بداخلنا
الجثث الطافية
ربع قرن وأنا أعتمد على لسانك يا أمى، كأنه طريقى
لكنّ بال القاهرة طويل
وجوفها زحمة
أصوات الباعة هنا تملأ الميادين، تسد علىّ الطريق
كل شىء هنا مسدود
ادعى لى يا أمى
أنا بالكاد أتنفس
اقعدى جنبى دائماً يا حبيبتى
على الكنبة
سأقطع تذكرتين، لى ولك، كى نمشى بداخلنا
سنزوّغ من الموت يا أمى
فقط ادعى أنك نائمة .