خصائص السرد النسوي في الرواية  النسوية السعودية (بين التمرد والتملك )

عمر محفوظ
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أ . د / عمر محفوظ

1- الهـدم والبنـاء:

اتسمت الرواية السعودية النسوية بالجرأة في ملامسة المسكوت عنه واعتمدت على تقنيات السرود العالمية مثل تيار الوعي والارتداد والاستباق وكسر خط الزمن. بالإضافة إلى تحطيم واجهة اللغة المعجمية الإنشائية باللجوء إلى ما يمكن أن نطلق عليه (هجنة لغوية) تمتزج فيها الفصحى بالعامية والإنجليزية. فالسرد النسوي السعودي يتحرك في بناء نصوصه على تقنيتين رئيسيتين تتحكمان في مسار الأحداث. ورصد الوقائع وبناء الشخوص هما: الهدم والبناء. هدم الواقع الثقافي القائم بكل أنساقه الظالمة للأنثى وإنشاء واقع جديد يلغي علاقة المفاضلة التي سيطرت على ثنائية الذكر والأنثى وأعلت الطرف الأول على الثاني إعلاءً مطلقًا. وقد لاحظت في رواية “عندما ينطق الصمت” لـ حنان مصطفى كتوعة فهي تعيش من أول العنوان حالة من الصمت بالرغم من عدم الإحساس بها فيما حولها فبطلة الرواية (سمراء) تحدثنا عن حياتها الراغدة بين أب وأم طيبين تعيش وحيدة معهما في قرية ساحلية وادعة بعد أن تزوج أخوتها الستة هي تثق في نفسها “فأنا محاميةً بسبب رغبة والدي الشديدة لأصبح شيئًا كان هو يتمناه، وحالت الظروف دون أن يحققه منذ صغري كنت أتمنى دائمًا أن أكون مضيفة طيران حتى أطوف العالم وأرى عجائبه”([1]).

فالروائية تقوم بعملية هدم تام لرغباتها بسبب سلطة الأب الذكورية التي تقف حائلاً أمام رغبات البطلة سمراء. الأب يريدها محامية ß هي تريد مضيفة طيران. وسرعان ما تقوم بعملية بناء ذاتي قائم على الأنا الأنثوية، حين تقول “هذه أنا سمراء طويلة يصفونني بالحسن عمري 22 عامًا تخرجت من الجامعة وأحمل ليسانس حقوق وأتدرب في مكتب محاماة”([2]). فإثبات الأنا والبناء القائم على لغة السرد لسمراء فهي خريجة كلية الحقوق.

في ملاحظة مني أن كلية الحقوق لا توجد في المملكة ربما أن الروائية قامت بإسقاط المكان التي تقوم عليه الأحداث. فسمراء في حالة من الضيف بسبب أنها درست المحاماة إطاعة لرغبة الوالد وهي متذمرة من سلطة الأب التي فرضت علها أمرًا لا ترغبه في مصير حياتها ففوجئت بقولها “فوضعت رغبة والدي فوق رأسي وعكفت على العلم حتى حققت كل ما تمنى.. وليتني أرد بهذا قطرة من بحر جوده وعطائه في سنوات عمري.. فمازال يقدم لي العون في كل أيامي”([3]).

تضع الساردة رغبتها مقابل رغبة الوالدة فتقدم رغبة الوالد على رغبتها تتمرد الأنثى وتهدم نسق الذكورة ثم تعاود الاحتماء به فهي تضع رغبته فوق رأسها في محافظة منها على النسق الديني فالوالد له مكانة كبيرة عندها فهي لا تستطيع رد الجميل لوالدها. ثم تستطرد سمراء “أنا وحيدة ولي نفس شفافة ومشاعر فياضة وحنان بلا مدى، وقلق أرق من قطرات الندى على أسيل الورد”([4]). تؤكد الساردة على إثبات الذات أمام المجتمع، إنها الفتاة التي تحظى بتعليم عالٍ لا ترغب في الزواج بنفس الطريقة التقليدية التي مر بها أخوتها والتي غالبًا لا يكون لفكرة المرأة وقلبها اعتبارًا فيها في حوار بين سمراء وأمها “هناك رجل طيب وهو صديق لأخيك ياسر يبحث عن زوجة صالحة”([5]). وتتابع الأم حين تسمع رفض ابنتها سماع هذا الموضوع “حاسبي نفسك كم رفضت من خطاب صالحين”([6]). تجعلنا الساردة أمام هدم للقيم والأعراف في طريقة الزواج من عرض وطلب بين قبول أو رفض. فالمرأة بعد أن تعلمت وخرجت للحياة العامة لابد أن تقرر حياتها فهي الوصي والمسئولة عن نفسها. بل أن رغبتها هذه كانت قطرة من فيض أحاسيس هيمنت على روايتها بدءًا من مناجاتها لموج البحر “أيها الموج.. بدأت العاصفة تثور وتهب على أغصان قلبي.. من هو يا ترى ذلك الطائر الجميل الذي سيغرد على تلك الأغصان فيكسها جمالاً من أنت يا حبيبي”([7]). هنا يأتي البناء بعد الهدم فاختيار الحبيب وفارس الأحلام لابد أن يكون اختيارًا حرًا عن حب لا تفرضه التقاليد والعادة بل تفرضه الفتاة حرة طليقة باختيارها الحر. فيكون الرفض والهدم لفارس الأحلام إذا كان مفروضًا عليها من الخارج حينها ينطق الصمت بالرفض إنه محور الحقيقة التي تدور حوله الرواية التي بدأ بإعصار يداهم قريتها – قرية المرجان وتهطل الأمطار الغزيرة فتغمر بيوت القرية بما فيها منزل سمراء ويأتي رجال الإنقاذ لينقلوها مع والدها وسكان القرية إلى قصر مرتفع فوق جبل يملكه المليونير السيد غريب وهنا تجد ضالتها المنشودة تتجسد أمامها فجأة في صورة ابن صاحب القصر الذي ترى فيه صورة فارسها المنتظر فتضرب حين تراه وتفر هاربة منه وبعد انحسار العاصفة وعودة الأسر إلى منازلهم وكعادتها في الجلوس وحيدة ليلاً على شاطئ البحر تسمع ذات ليلة نباح كلب معن ثم تجد فارسها أمامها وتعلم منه أنه درس الطب في أمريكا حيث يقضي حياته مع والديه وأخته متنقلاً بينها وبين القرية ويتبادلا المشاعر الصادقة التي كان يمكن أن تتكلل بالزواج لولا تعنت والدة (معن) وتمسكها بوعد قديم بين الأهل بتزويغ ابنها لابنة أخيها ويصر كل من (معن) ووالدته على موقفيهما فيمرض ويصاحب بالحمى حزنًا وغمًا فتزيد حالته سوءًا وينقل إلى مستشفى المدينة وهناك يعلم والده وخاله سبب مرضه فيحله الخال من الوعد وتتحقق أمنية الحبيبين وتنتهي القصة فينطق “صمت سمراء زغاريد الفرح ابتهاجًا بالزواج المنتظر”([8]). أما ما يمكن أن يؤخذ على هذه الرواية هو تشظي المكان بالنسبة للشخصية وغياب البيئة السعودية في ص18-19 في لقاء الخاطبين مباشرة مع سمراء في ص29 قصر السيد غريب المليونير (إنه سيد القصر وهو زعيم القرية ومن كبار أعيان المدينة)، وكذلك صفحة 62، 63 عندما ذهبت سمراء مع نسرين للنوم في قصر السيد غريب ووالدتها لم تمانع ذلك وليس هناك قرابة أو صداقة بينهما. وفي ص97 عنوان سمراء حي المنتزره شارع الزهور عمارة 323 شقة 3 فالعنوان خارج المملكة.

فهل تأثرت الكاتبة كما ظهر من العبارات الإنشائية المحتشدة والكثيقة بقصة لطفي المنفلوطي [الفضيلة] سواء في الحوار بين سمراء ومعن أو بعض الصور الفنية عن البحر ولقاء الأحبة. وهكذا اعتمد السرد في نص [عندما ينطق الصمت] لـ حنان كتوعة آلية تدمير المكان إذ تتابع ظاهرة التدمير مكانيًا وانعكاس ذلك على الشخصيات وخاصة سمراء (البطلة) وكأن عناية النصية يرصد الظواهر التدميرية تكشف عن رغبة خفية في الخلاص من هذا الواقع والوصول به إلى أن يتمكن من إنشاء واقع جديد وعلاقات تعتمد على التوازن والاعتدال لاسيما العلاقة بين الذكر والأنثى بوصفها ركيزة المجتمع الجديد.

2- الصدام الثقافي:

في بداية التمهيد للهدم غالبًا ما يعتمد السرد الروائي على عقد مقارنة بين السلطة الذكورية السائدة في المجتمع العربي والسلطة الذكورية الواعية في المجتمع الغربي “وهو ما استدعى حضور بعض الشخصيات من جنسيات أخرى وزرعها في النص بحيث تكون محملة بتقاليدها الثقافية والاجتماعية التي لا تفرق بين الجنسين في الحقوق والواجبات حتى تستفيد الثقافة المتخلفة الظالمة من تلك المتقدمة الواعية بقيمة الإنسان دون تفريق بين الذكورة والأنوثة”([9]).

ومع استدعاء السرد النسوي للثقافة الغربية، تظهر المفارقة تلقائيًا بين الثقافتين، فالثقافة العربية تعتمد على المفاضلة، وتحتفظ للذكر بالمتن وتدفع الأنثى إلى الهامش بينما تلغي الثقافة الغربية المتن والهامش معًا وتجمع بينهما على صعيد الندية والتكامل فلكل منهما الحق في احترام جسده ورغباته وإشباعها بالطريقة التي تريحه وغالبًا ما يكون الصدام بين الثقافتين أداة لنقد تصرفات الرجل الشرقي المتناقض. مثل شخصية (فيصل) في عيون قذرة، لقماش العليان. “مضت معي كاتيا إلى حيث الطاولة المعدة بعناية ترددت في الجلوس، لكنني خشيت إحراج فيصل، فجلست لتنهال على الإطراءات عن جودة الطبخ والطعم الرائع مما أغرقني في الخجل.

قال فيصل: ما أريك (روبير) ترافق سارة غدًا إلى متجرها رودز؟ أحسست بأنني أموت ببطء فلم أرفع عيني عن طبقي وكأن (كاتيا) قد شعرت بما تعمل به نفسي الهائجة المائجة”([10]). فقد تمثل صدام الثقافة في المقطع السابق بين عادة (سارة) وعادة (كاتبا) عادة (فيصل) في السعودية وعادة (روبير) في لندن فقد رسمت الرواية صورة الألم والحرمان الذي يمر به البطل من الناحية الاجتماعية والنفسية فقد قررت سارة الذهاب إلى (فيصل) في لندن فوجدت فيصلاً بين حياتين حياة السهر والمجون وحياة الجد والعمل فلم تعهد (فيصل) العربي الشهم الغيور بعد أن سلمها لـ(روبير) في الخروج والتنزه ولا يرى حرجًا في ذلك بحجة أنه مشغول بالدراسة وأن (روبير) يعرف لندن أكثر منه ويعرف أماكن التسلية والترفيه على حد قوله.. ثم تذهب إلى أحد السهرات الليلة مع (روبير) والذي أقنعها بتناول عصير التفاح على حد قوله “إنه عصير تفاح”.. لماذا أنت خائفة؟ سترين بعده عوالم رائعة لم تريها من قبل… نفيت خوفي وأنا أهز رأسي مرَّ شريط حياتي سريعًا أمام عيني رأيت إهمال أمي وقسوة عمتي وجبرت زوجة أبي تغلبت على ترددي فتناولت منه المشروب ورشفت منه بضع رشفات شرب هو كأسًا كاملاً دفعة واحدة.

همس بصوت رقيق يذيب الحديد: أتدري ما هو الحل لمشكلة حجابك؟ ([11]).

فقد بدأ صدام الثقافة من الخروج مع (روبير) ثم تناول الشراب ثم قلع الحجاج ثم السهر في الأماكن العامة والاختلاء بها فافتقاد وعيها بالشراب والجماع لها والحمل، في أحشائها من روبير والعودة إلى المملكة العربية السعودية حاملة في أحشائها طفلاً غريبًا أصلاً وجنسًا. ترفضه البطن والأرض وتقرر سارة الخلاص منه بعد ستة أشهر تذهب في عيادة خاصة وتسقط طفلها في محاولة من الساردة مرة أخرى يعيش الطفل وتأتي المفارقة. الطفل غريب ابن روبير في لندن كان اللقاء. الآن في الرياض في أحشاء سارة ثم تضعه سارة على أرض الرياض ترفضه سارة لكن المكان يكتب له الحياة فيه “قررت في لحظة جنون أن تقتحم عيادة أي طبيب وتسأله أن يخلصها من هذا الحمل غير المرغوب فيه، جازفت – دخلت إحدى العيادات في شارع الخزان تحمل خوفها وألمها وبشاعة المصير الذي ينتظرها”([12]).

تحاول سارة إخفاء بطنها الذي ينتفع كل ما تقدم الوقت، واستطاعت أن تخفي بطنها، عن أقاربها وتعلل انتفاخها، بأنها صارت سمينة بعض الشيء، حتى يصل بها الأمر إلى إسقاط الجنين ولكنه يعيش في الرياض.

فالرواية دارت على أربعة محاور أساسية هي طفولة سارة وفي هذا الجانب تتطرق الكاتبة إلى طفولة سارة ووضعها العائلي وما عانته في هذه المرحلة من مآسٍ بسبب أم لاهية وأب ضعيف والشخصيات الرئيسية هي الأم. والعمة وزوجة الأب إلى جانب الأخ فيصل. وابنة العمة (ليلى) في هذا المحور صورة المرأة قوية وقاسية تصل إلى حد الظلم، صورة الرجل فيه.. ضعيف ومغلوب على أمره. صورة والد سارة.

المحور الثاني: السفر إلى لندن: أو مرحلة الحلم والخلاص التي انتهت بلا شيء فكلاهما (سارة وفيصل) ذاقا مرارة الغربة والشقاء. فقد فقدت سارة أغلى ما تملك وعانت من تبعات ما فقدته الكثير كما استيقظ فيصل من حلمه بعد أن تجرع الكثير ثم عادا ليجدا الحل في التعامل مع الواقع والمواجهة وليس الهروب منه.

المحور الثالث: العودة إلى الوطن فقد أثقلت الكاتبة عاتق (سارة) بالهم والمعاناة لتتخلص من هَمَّين الأول نتائج خطيئتها والثاني التخلص من حالة مرضها التي كانت تسم حياتها بالضيق والسوداوية كما أن فيصلاً وجد الاستقرار الروحي والعاطفي في الوطن.

المحور الرابع: فيصل الصغير أرادت الكاتبة في الرواية أن تشرك المتلقي في النهاية وفتح باب الخيال له ليضع كافة الاحتمالات فالعولمة تجعل الشرق يخسر كثيرًا من العادات والتقاليد فهي بالنسبة للشرق طفلاً هجينًا وابنًا لقيطًا أشعر بعيون عسلية قذرة في عيون الشرق أهل الشمس والسمرة “همست له.. فيصل.. فيصل.. حبيبي فيصل.. أجابني بمناغاة طويلة أثارت لواعجي وأسبغت على روحي حزنًا شفيفًا ماذا سيكون مصير هذا الطفل بعد أعوام؟ هل سيبقى في المكان نفسه دون أن يعرف له أمًا رؤومًا ولا أبًا شفوقًا ولا أسرة ولا قبيلة في مجتمع يعيش بأمر القبيلة وينام بأمر القبيلة ويتزوج ويتناسل بأمر القبيلة. فأول سؤال يوجه للخاطب حينما يتقدم لخطبة أية فتاة من أي قبيلة أنت؟ من هو أبوك وأجدادك؟ من هم أخوالك وأعمامك؟ ([13]).

فمن خلال رصد السرد، لهذه العلاقة التصادمية بين ثقافتين الشرقية، والغربية وتوابعها الثقافية ينتقد طبيعة المجتمع العربي، أو الشرق عمومًا الذي يحتكم للعرف والتقاليد التي تتحول إلى قوانين يحملها الأفراد حتى الممات، ولا يستطيعون الخروج عليها أي أن الشرق يحتكم لإرادة الجماعة، ويجهض رغبة الفرد، بعكس المجتمع الغربي الذي يقدس الرغبة الفردية ما دام أنها لا تجلب ضررًا لإرادة إنسان بعينه دون تدخل العرف والتقاليد، في هذه الرغبة وهذا يعني أن صدام الثقافة (أعني الشرقية والغربية) كان مستهدفًا في رواية (عيون قذرة) لقماشة العليان للكشف عن مفارقات التقاليد الثقافية بينهما فثقافة الشرق تقوم على المحرمات والأخرى على المباحثات فتبدأ الحرية فيها للجسد وتنتهي بحرية العقل والفكر وقد كان ذلك مطروحًا في علاقة (كاتيا) مع (فيصل) و(روبير) مع (سارة) في هذه الرواية.

3- التمرد الفردي للأنثى يَعْبُر للجماعيِّة:

إن تقنية الهدم ثم البناء تبعه نقل الأنثى النصية من طبيعتها الفردية إلى أفق الجماعية (على معنى أن تكون الشخصية في النص تلخيصًا للأنثى في المجتمع الشرقي بكل ما يحيط بها من أعراف وتقاليد حاصرتها وحاصرت وظيفتها الحياتية في جانب ضيق محدود) ([14]).

لذلك كان تمرد الأنثى في رواية “قطرات من الدموع” لـ سميرة خاشقجي (سميرة بنت الجزيرة العربية) الصادرة عن منشورات المكتب التجاري، جـ2، 1973، بيروت.

“قطرات من الدموع” تحمل أكثر من عتبة للنص تتمثل إحداها في العنوان مما يدفع بالقارئ لأن يتساءل لماذا هي قطرات وليست ذرفًا للدموع، أهي قطرات توحي بالحنين لماضي اندثر؟ أم هي قطرات دموع لوجع يتجدد؟ أم هي تعبير عن حسرة لعجز عن بلوغ المنى؟ أيًا كان تفسير هذا الدفق المستمر والمتقطع للدموع فهو يعني أن حالة الشجن والانكسار تغدو مصاحبة لأنثى تقف عاجزة عن مغالبة الدموع.

ويأتي الإهداء كنص مواز ليشكل على المتلقي حالة جريان الدموع هذه عندما يتقدم السرد نوعان من الإهداء أحدهما إلى الأب، المثل الأعلى، الطبيب العصامي “الذي بتر بمبضعه آلام المرضى وسقاهم كؤوس الشفاء” والذي مهد لابنته “ريق المعرفة… حتى وصلت إلى شاطئ الأمان” بعد أن رافقها في “دروب الحياة ومتاهاتها” لتكشف الكاتبة في إهدائها الثاني عن تلك “الروح القلقة”.. المعذبة التي تبحث عن “الحنان… عن الحب… عن الدفء…” ويستمر هذا البحث بغية أن تضيء الحياة على “شاطئ الذكريات الحبيبة” هربًا من جحيم الحرمان ويكون خير رفيق لها قطرات الدموع. فكان بالخطاب الأنثوي يتصدر منذ البداية ليعترف بالامتنان والتقدير لسلطة الأب المتعلم الذي يقتلع الألم والجهل من مكامنه ويأخذ بيد ابنته في رحلتها الحياتية نحو النضج المعرفي والاستقلال الذاتي ليؤمن أسباب العلاج والدواء لجروح مجتمع هي نصفه، ويقابل هذا العطاء الذكوري الواثق روحًا أنثوية قلقة تواقة للحنان والهدوء النفسي والتعبير عن ذاتها حتى تقف في صفوف شقائق الرجال.

وتسعى الكاتبة لاستجلاء ذلك الدور المهم الذي يلعب الأب حيال ابنته عندما تعرض سلطة الأب الذكورية من خلال الشيخ محجوب الذي نسمعه من الصفحات الأولى للرواية ينادي ابنته بالشقية ويشير إليها بذات الكنية لا لسبب إلا لأنه لا يدرك أن ما يعطي الأنثى كيانها وهويتها إنما هو اسمه رغم أنه كان يدللها ويمتدح جمالها. وذكرى مع أبيها تسلم بذلك ومع أمها نسمعها “تكلم نفسها بصوت مسموع: حتى الكلام ممنوع.. إنك يا أماه لا تحبين الإصغاء لحديثي”([15]) ذلك أنه عندما تتلبس ذكرى شهوة الكي في إخبار أمها بما تسمعه من أحاديث أبيها وأصدقائه نجدها تصغي في شغف، ولكنها تمنعها من البوح بمكنونات نفسها، والتعبير عن خوفها من الزواج بابن عمها الذي يكبرها بسنوات. ولعل أمها نفسها لا تعي كيف يكون بوح المرأة بخلجات نفسها فهي ذاتها تلجأ إلى البكاء كلما تغمرها سحابة حزن أو يسيطر عليها يأس فيما تحسه من عاطفة تجاه عامر الذي وجد سلوته في نظم أبيات الشعر وقصص المحبين ومناجاة أنجم الليالي. وحتى في وداعه الأخير برقية “لم يترك لها فرصة الكلام”([16])، وهو “أقوى أسلحة المرأة في الجاذبية” كما تقول فاطمة المرنيسي في “العابرة المكسورة الجناح”([17]).

ويبلغ القمع أشده عندما يصر الشيخ العجوز على حرمان ابنته الوحيدة من فرصة التعليم التي كان سيعطيها للابن الذكر تبعًا لعادات وتقاليد وأعراف المجتمع الذي ينتمي إليه مغفلاً احتياجات الابنة والورثة والوحيدة.

ولكن عندما يعود الشيخ محجوب من الخارج ويجد ابن أخيه يحادث زوجته ينقض عليه ليرديه صريعًا ويرتضي لابنته أن تنظر و”ترتجف خوفًا ورعبًا”([18])، ليسحبها أحد الرجال ويقيدها بالحبال ويبقيها في خيمته حتى يصحبها الأب إلى ساحة الرجم لتشهد إقامة الحد على أمها البريئة متجاهلاً كل محاولاتها بتوضيح الأمر مبالغًا في إسكاتها بأقذع السباب والتهم. فتلجأ الشاهدة الوحيدة التي ألجمها الموقف إلى البكاء والنحيب كأهون أساليب الرفض.

والمؤلفة هنا توظف هذه الواقعة لتدفع إلى السرد بشحنات من النقد الاجتماعي تبدأ معالمه في إشهار صوت المنطق الذكوري عندما يشجب في مرارة وثورة([19]) شابين واقفين في ساحة الرجم ما فعله الزوج وشيخ القبيلة من تغييب لرأي الشريعة في استيفاء شرط الشهود ورأي الحاكم أو القاضي. فاختارت المؤلفة الشخصية الذكورية الشابة لتظهر أخطاء مجتمع غلب الموروث الاجتماعي القبلي على الدين. بينما يقابل ذلك الاستنكار أنين خافت في محاولات الأنثى للانزواء والعزلة. ولما أدركت ذكرى حالة اليتم التي آلت إليها ضعفت عن مواجهة حياة ملؤها الظلم والاستبداد الذكوري وسلمت بعجزها.

فبنت الجزيرة بهذا تحيل القارئ إلى ذلك الوقت حين كانت فيه الأنثى هي “البكماء السليبة ثقافيًا وماديًا”([20]) ولا تتركها  لحيرتها بل ترسم لها دربًا نحو العلم تجد فيه المرأة شموعًا تضيء لها الطريق. ففي معهد الصم والبكم “تشرق شمس جديدة في حياة ذكرى.. في المعهد.. مشمولة برعاية المدير، وعناية المدرسات.. وحب الزميلات..” ([21]). وتكسبها السنين في المعهد شغفًا بالقراءة وولعًا بالكتابة تبدأ معه كتابة مذكرات تختزل فيها ماض تؤنسها فيه “قطرات الدموع”([22]). فعندما تجرد المرأة من أقوى أسلحتها لابد لها أن تبحث عن صور أخرى لمقاومة الاستلاب. فذكرى الفتاة العزلاء في جدار من الصمت لم تردها الكاتبة أبدًا أن تكون مسلوبة الإرادة بل جعلتها ثرية المشاعر قادرة على البذل والعطاء وكسب حب الجميع.

ويصبح عجز الفتاة وعزلتها سببًا في انتقال بطلة الرواية إلى العاصمة للدراسة في معهد الأمل ليفتح لها العلم آفاقًا إلى العالم الخارجي ويؤهلها للعمل كمشرفة بالمعهد لتحقق استقلالاً يمكنها من تخطي المعوقات الذاتية وتلمس بواطن الضعف فيما حولها لتكتشف “وجوب التغيير الشامل بالمنطق العلمي السليم لهذا المجتمع الكبير”.

ويأتي هذا التغيير الاجتماعي الذي تنادي به الفتاة العزلاء عن طريق الدكتور عاصم، السلطة الذكورية المتعلمة. فبحكم مهنته وتخصصه في الطب النفسي استطاع منحها فرصة المشاركة والعمل مساعدتها في تشكيل رؤيتها الخاصة للحياة بعد أن كانت “دمية تتحرك بدون هدف ولا وعي”، وأصبحت تسعى لملء فضاء المكان بحب الناس ومساعدتهم وتحرير ذاتها من تلك الصورة النمطية السلبية التي حكمت عليها بالتبعية لتقاليد موروثة بالية اتسمت بالقمع والإقصاء.

واستعادت ذكرى ثقتها بنفسها وأحبت من حولها وتمكنت من التحدث معهم “كل بطريقته”([23]). هذا التواصل مع زميلاتها شجعها على الكتابة للتعبير عما يعتلج داخلها في حواراتها مع الآخرين بعد إن كانت الكتابة عندها حكرًا على المذكرات التي كانت بالنسبة لبطلة الرواية أشبه ما تكون بحديث مع الذات تسرد فيه أحداثًا مرت بها مضمنة داخل السرد الإطار – الرواية. ويتيقن الطبيب عن طريق هذه المذكرات من أنها تبادله نفس المشاعر فيعرض الزواج عليها. وبذلك تشكل مذكرات البطلة جزءًا أساسيًا من بنية السرد خاصة وأن الذات المتكلمة هي الطاغية في بقية أجزاء الرواية عندما يستحيل الخطاب وتضطر إلى الإشارة كوسيلة للبوح لأنها ترى نفسها “أنثى مبتورة أنوثتها”([24]).

تعالج المؤلفة هذا الإحساس بالعجز عند بطلتها بنقلها إلى العمل في مكة المكرمة حتى تنعم بالأمن النفسي الذي يكتنفه المكان. وكبقية رواد السرد  المكيين تبقى مناسبة الحج لازمة روائية لدى بنت الجزيرة تضفي بها زخمًا روحيًا وتحتفي بقدسية المكان وتزدهي به عبر الأزمنة. ولعل ما يميز وصف الكاتبة هو الأسلوب الأنثوي في إعطاء التفاصيل الدقيقة ونقل القارئ بحميمية مألوفة إلى فضاء عرفات وجنبات الحرم المكي الشريف والكعبة المطهرة يستشعر معها “جلال الخالق وجمال المكان”([25]). وتشهد ذكرى في مكة انتقالاً إلى حياة أرحب تبعث في طياتها إحساسًا بالأمان يمدها بقدرة على المواجهة واتخاذ القرار حين تخط من هناك رسالة تبوح فيها بأحاسيسها بعد “طول بكاء وأنين”([26]).

تتتابع الأحداث في الرواية حتى تصل إلى ذروتها في صراع السلطة الذكورية المتعلمة الواعية مع سلطة تقاليد اجتماعية يفرضها الأب في رفضه لزواج ابنه من “صماء لا أصل لها ولا فصل”([27]). ويتبلور هذا الصراع ليصبح إحدى دعامات النقد الاجتماعي الذي أرادته المؤلفة في شكل تمرد أعلنه عاصم في الجزء الثالث عشر من الرواية على السلطة الأبوية. وتستشرف بنت الجزيرة مرامات التغيير الاجتماعي عندما يعلن الطبيب عاصم عن رغبته في الاقتران بفتاة بكماء معارضًا رغبة والديه وزملائه متجاوزًا التقاليد الاجتماعية والطبقية التي لا تتردد في تسديد الضربة تلو الأخرى لأنثى لا تزال تعتبر عزلاء رغم ما حققته من تعليم ومشاركة في المجتمع.

فهذا الرفض للتقليد والموروث بدأ في الصحراء في حياة المجتمع البدوي المعزول من أنثى خاضعة ومستسلمة واشتد بتمرد وإصرار دعمته المدنية والسلطة الذكورية المستنيرة ولكن سرعان ما انهزم أمام قيم ومعايير اجتماعية هشة تتبدل عندما يتغير حال ذكرى وتتدفق عليها الأموال من وراء بوح إبداعي روائي عنونته “مذكرات خرساء” سطرت فيه الأم فقدها لحبيب غيبه الموت وتهدمت بغيابه جسور الوصل ليس فقط مع الآخر، بل مع مجتمع كانت هي إحدى ضحاياه. وبذلك يتطور السرد المضمن – المذكرات – في حنايا السرد الإطار ليخرج وليدًا مستقلاً في شكل عمل روائي يولد عند ذكرى رؤية واعية ومكتملة لمجتمع عاشت في كنفه وصدقت أباطيله لتجرب مختلف أشكال البوح في تصالحها مع ذاتها ومع مجتمع يكون فيه المال وحده قادرًا على إلغاء الإعاقات البشرية ومنح التقدير الاجتماعي. إن وعي ذكرى بحال مجتمعها أكسبها قناعة وتسليمًا بعدم جدوى التغيير الذي ارتجته في البداية، وعلمها كذلك أن تكشف وبشكل ساخر عن ألوان من التملق والنفاق الاجتماعي ذلك الزيف الاجتماعي لم يتوان عن التخلي عن السلطة الذكورية، بل وإلغائها بعد أن اتخذها ستارًا له. فما كان من ذكرى إلا أن تركن إلى مناجاتها لعاصم كأفضل أشكال البوح في عالم يلفه الصمت والوحدة والمال والشهرة، وإن افتقرت ذكرى إلى أقوى أسلحة النساء وهو الكلام فهي تمتلك حسًا وأدبًا خلقته المعاناة وغذته الثقافة ورعته الإرادة لتتعايش مع الزيف والألم.

بالنظر إلى إصدار هذه الرواية وربط ذلك بالعنوان الذي اختارته المؤلفة، نلاحظ اختيار النبرة الرومانسية، ليس في هذه الرواية فحسب، بل أيضًا في أعمالها الأخرى، وذلك من خلال عناوينها التي هي في صلب مخرجات المعجم الرومانسي مثل “ودعت آمالي، ذكريات دامعة، بريق عينيك، وادي الدموع، ومجموعتها القصصية وتمضي الأيام، وكذلك من خلال التقديم والنصوص المصاحبة له، وما يسمى النصوص الموازية.. كل ذلك عكس الاتجاه الذي كان يسود الأدب السعودي عامة في ذلك الوقت.

وقد تمثلت وظيفة العنوان في تكثيف فكرة العمل من خلال الدلالة المجازية.. يعكس اسم المؤلفة بما تحمله من تعميم، إحساسًا حقيقيًا بالمشكلة على مستوى الممارسة الشخصية لها، وما نستشفه من إهداء في قولها: “إليك أبي.. أهدي قصتي”([28]).. ولفظ “قصتي” هنا احتمل معنيين.. وكذلك في اختيار الوصف “بنت الجزيرة العربية” لتأكيد الاندماج لهذا المجتمع (الوطن). وهو ما تشير إليه في الإهداء حيث تقول: “إلى الذي غرس في نفسي حب الوطن”([29]).

لقد سعت الكاتبة إلى التأكيد على أن الإبداع والنجاح هو الوسيلة الوحيدة لمقاومة المجتمع التقليدي المتسلط، وهو ما جعلته المؤلفة من واقعها، ولعل احتراف مهنة الكتابة ونجاحها ما يؤكد الفرضية الرمزية المقنعة لذكرى المؤلفة والتي اختارت لعملها اسم “مذكرات خرساء”. فالمؤلفة تدرك جيدًا أن عدم مقدرتها الانتساب إلى هذا العمل الروائي بشكل واضح هو أشبه ما يكون بمال الخرساء، من خلال تتبع كثير من أحداث الرواية وأساليب التعبير والشخصيات، بل وحتى الأسماء.

ويمكن ملاحظة الأثر السينمائي على المؤلفة، ولو لم تكن هناك أسماء محددة بعينها، لصح أن تكون بيئة العمل أي مكان آخر في العالم العربي، سواء بادية الشام أو صعيد مصر أو غيرهما.. كان العمل تقليديًا في مجمله من حيث اختيار فكرته الأساس، وصياغة عنوانه، وسيطرة الحدث عليه، واتجاه السرد في خط واحد إلى الأمام، والنهاية الروائية الملخصة، وموقع السرد الخارجي، وكانت في الرواية شخصيات زائدة من خلال الشابين الذين شهدا مصرع أم ذكرى.. وما دار بينهما من حديث غاية في المباشرة والطرح.. حتى محاولة المؤلفة الانتقال بالفكرة إلى الإطار الموضوعي الأشمل، حين عبرت بقولها: “و تنحدر الشمس للمغيب فيسير الشابان تجاه حيهما وفي قلب كل منهما مرارة، وفي نفسه ثورة. فالمرارة أو الثورة تشير إلى تبرم الجيل الجديد من ذلك الواقع السيئ”. أيضًا كانت المرأة وقضاياها محور هذا العمل الروائي، ويمكن تقسيمه إلى قسمين رئيسيين مكملين لبعضهما:

– الأول: حتى موت الأم.

– الثاني: مرض ذكرى حتى نهاية العمل.

وقد جمعت المؤلفة بينهما حتى إنها جعلت المرأة ضحية خرساء لا تنطق ولا تعبر عن مكنون أفكارها إمعانًا في تأكيد المأساة الأولى.. وكانت بنية الفضاء الروائي عامة متناسبة عكسيًا مع البنية الفكرية للمرأة.. فحين كان الفضاء منفتحًا للصحراء كانت المرأة منغلقة كما هو حال “رقية”، وحين أصبح الفضاء مغلقًا – المعهد والمستشفى – أصبحت المرأة منفتحة – ذكرى المثقفة – وهو ما يعكس جدلية الإنسان الأزلية مع الوقت الذي يعيش فيه.

ويشكل موت عاصم الذي كان ضحية المجتمع انكسارًا لأفكار المؤلفة وكان يرى فيها المجتمع خروجًا عن المألوف والعادة التي حاولت مناصرتها من خلال الرواية.. كما تمثل عودة ذكرى إلى معهد الصم والبكم تأكيدًا لتسلط ذلك المجتمع باختياره الانتقال من عالم الأسوياء صحيًا عامة إلى عالم الخاصة.

أيضًا بين الإهداء والتقديم تتضح ثنائية الذات والموضوع.. فالإهداء عُرف تقليدي غلبت عليه العقلانية وجرت به العادة، ومن ثم فإنه يعكس جانبًا اجتماعيًا خضعت المؤلفة لسلطته قسريًا.. أما التقديم فبرزت فيه الذات ومفرداتها، وعبر عن حالة الاستقلال التي تسنى لها. ولعل في اختلاف خط الكتابة ما يوحي ذلك. إذًا فإحساس المؤلفة بتقليدية الأداء، وعدم الوفاء بما في نفسها يوازي في الرواية تقليدية المجتمع مقابل ذاتية الأبطال.

وحين نقرأ العمل باعتبار أنساقه المهيمنة، نجد أن المرأة كانت ضحية لنسق ذكوري متسلط، ومن ثم كان لهذا أثره اللاشعوري على الكاتبة. فغيبت الرجل، وجعلت محاولة الاستحواذ على المرأة (رقية) أو (ذكرى) طريقًا إلى الموت، وهو ما حدث مع عاصم وعامر. وإذا تتبعنا الدلالة المعنوية لأسماء الشخصيات الرئيسية يمكن أن نلاحظ تناسبها مع أدوارها في الرواية. ولعل المؤلفة قصدت ذلك.

فالشيخ محجوب اسم من “محجوب” من حجب رجل تقليدي يحمل أفكارًا بالية كان حجابًا بينها وبين الحقيقة، وابن أخيه (عامر) اسم فاعل من (عَمَر) الذي رأت فيه رقية الشباب والحيوية والمقدرة على تغيير الحياة، والشيخ (صالح) اسم فاعل مشتق من (صلح) ذلك الرجل الصالح الوفي، والدكتور (عاصم) اسم فاعل من (عصم) والذي كانت ترى فيه (ذكرى) ملجأ وعصمة. ولعل الفرق الواضح بين دلالة الفاعلية في (عامر) (صالح) ودلالة المفعولية في (محجوب).

أما في الشخصيات الأنثوية، فنجد (رقية) تصغير (الرقيا) وهي اليتيمة الصغيرة التي زُفّت إلى رجل عجوز، في حين أن (ذكرى) المصدر هي الأصل في العمل ومحوره، وكانت الشاهد الوحيد الحاضر، بعد جميع الشخصيات السابقة.. بل كانت حياتها رهينة ذلك الماضي الذي وهبته بقية عمرها في سبيله، وبنفس منطق الفاعلية والفعلية، يمكن تعليل اختيار أسماء الجيل القديم الشيخ محمود، والشيخ محجوب.. والجيل الجديد عامر، عاصم، حامد، كاملة.

آخر ثغرة هي ظهور التمادي جليًا بين المؤلف والبطلة في نهاية الفصل الأخير، حين اختارت المؤلفة ضمير المتكلم، لتعكس رؤيتها للحياة، وكانت الخاتمة الروائية خلاصة للعمل، فجاءت غاية في الرومانسية والتضحية. وتعليلاً واضحًا لاختيار ذلك الاسم: “حبيبي.. إن ذكرى ستعيش على ذكراك”([30])، وتأكيدًا لمبدأ الفاعلية الكتابية في تصحيح الأوضاع.

4- الْنسِّبيَّة في السرد النسوي:

لكل نص خصوصيته التي يتوافق أو تختلف مع غيره من النصوص على معنى أن السرد لا يتقبل الأحكام  الكلية أو المطلقة إذ هو رهين ببيئته ورهن أنساقها الثقافية ورهن بمجموعة العادات والتقاليد والأعراف التي تسود بيئة بعينها لكنها قد تكون مغايرة مع بيئة أخرى.

“والنسبية تبيح كذلك لثقافة كل كاتبة وأفقها الثقافي وارتفاع سقف التمرد عندها أو انخفاضه مما انعكس على السرد النسوي”([31]) في طريقة طرحه لموضوعات بشكل جديد من وجهة نظر أنثى عانت وتمردت، فالكاتبة تدخل عالم الكتابة متكئة على مخزون الذاكرة التاريخي واللحظوي.

الذاكرة لا بمعنى التذكر وحفظ الوقائع واسترجاعها.. بل بما هو هي ملكة مقاومة للنفي ولسطوة الموت والفناء. هي مستوى للمتخيل.. وعالم لهذا المتخيل ينزاح في اتجاه استقلاليته، ويملك في هذه الاستقلالية، قدرة هائلة على المراكمة والتداخل.

يحاور الكاتب المتخيل من مسافة الكتابة، ينسج متخيله الخاص، ويعيد ترتيب وتقويم زمن الذاكرة.. فالمتخيل له زمنه، وللكتابة زمنها المختلف.. وبين الزمنين تستمر علاقة الفرد بالواقع أو المرجع من حيث هو، أي الفرد، حضور في هذا الواقع، في نظام العلاقات فيه، في ما يحدد له موقعًا يحكمه ويتجاوزه كفرد.

من عالم المتخيل.. الغائب الحاضر، منه كذاكرة يبليها الزمن، يأتي الكاتب إلى الكتابة زمنًا ضد فنائه، يبني عالم نصه متخيَّلا له نظامه ونسقه، يعيد تنظيم وترتيب وبناء الواقع بالشكل الذي يراه جماليًا وأخلاقيًا، إذ يحاول حوارًا مع هذا المتخيل، يقدمه عملاً أدبيًا سرديًا أو غيره([32]).

لكن الحديث عن كتابة المرأة هو حديث استثنائي، فالمرأة عاشت زمنها، أو زمن متخيلها، دون أن تكون معنية بحفظه وتدوينه، فتسربت ذاكرتها وغدت عرضة للطمس.. دخلت المرأة عالم الكتابة خالية من ذاكرة ثقافية تتكئ عليها وتثبت موطئ قدميها في عالم تأخرت كثيرًا في دخوله، وعندما فعلت أحست بكثير من الغربة في هذا العالم المرتب والمعد سلفًا، والذي لم تسهم هي في بنائه وتأسيسه، وبالتالي لم يكن لها وجود فيه. فالمرأة في اللغة، كما في غيرها من مجالات الحياة، ظلت موضوعًا، وليست ذاتًا أصيلة.

فمن الثابت زمنيًا أن الرجل مارس الكتابة قبل المرأة، وحيث كان سباقًا إلى ميدانها فقد اعتلى عرشها، وادعى سلطانها واحتكره لنفسه، حتى أصبح محور بنيتها وأساس الثقافة فيها، وفرضت بنية التفكير الأبوي نفسها في تشكيل القيم والأعراف الأدبية مثلما فرضت نفسها في تشكيل كافة صيغ الواقع، مما لم يسمح بظهور أدب نسائي يستجيب لرؤى المرأة ويعبر عن تجاربها ووجهة نظرها. فظل الرجل هو صانع خطاب المركز، وهو الذي يرتب صلات هذا المركز بأطرافه قربًا وبعدًا وانقيادًا وتبعية، لاسيما بعد أن اكتشفت الكتابة فغدت نمطًا مفتعلاً في صناعة اللغة وتقنية الخطاب، بحيث غدا الرجل هو منتج المعرفة ومستهلكها. وظلت المرأة على هامش الثقافة، وخارج دائرة الفعل. انفرد الرجل بتدوين المسيرة الإنسانية، وتسجيل الوقائع والأحداث، وصناعة التاريخ، فطغى حضوره، واستولى على كامل رقعة التاريخ، في حين أقصيت المرأة وهمش دورها، وطُمر تاريخها حين غابت عن كتابة التاريخ وصناعة الثقافة([33]).

وتؤكد العديد من الدراسات في هذا السياق أن المرأة كانت حاضرة باستمرار، وأن لها تاريخًا كما للرجل. لكن المشكلة أن تاريخها ودورها لم يحفظ ولم يدون. تقول ديل سبيندر: “لقد صنعت النساء تاريخًا بقدر ما صنع الرجال لكن تاريخهن لم يسجل ولم ينقل، وربما كتبت النساء بقدر ما كتب الرجال، ولكن لم يتم الاحتفاظ بكتاباتهن، وقد خلقت النساء دون شك من المعاني بقدر ما خلق الرجال، لكن هذه المعاني لم تكتب لها الحياة حين ناقضت المعاني النسائية المعاني الذكورية وفهم الذكور للواقع… وبينما ورثنا المعاني المتراكمة للتجربة الذكورية فإن معاني وتجارب جداتنا غالبًا ما اختفت من على وجه الأرض”([34]).

لم تعرف الثقافة العربية، وثقافتنا المحلية كجزء منها، نموذج المرأة الكاتبة إلا في أزمنتها الحديثة، في سياق التحول الثقافي الاجتماعي خلا عصر النهضة، وبعد أن خرج الحديث عن حرية المرأة وتعليمها من عداد المسكوت عنه واللامفكر فيه، إلى عداد القضايا المطروحة للنقاش والأخذ والرد على يد مصيلحي ومصلحات عصر النهضة، ما ساعد على ظهور الوعي النسوي، وتصاعد الدعوات النسوية التحررية الداعية إلى إعادة الاعتبار للمرأة ومنحها الفرصة للمساهمة في كافة مجالات الحياة. عندها جرى توزيع جديد لاقتصاد الكلام بظهور عدد من الأقلام النسائية، وغدت المرأة موضوعًا تؤلف فيه المرأة بعد أن ظلت موضوعًا يؤلف فيه الرجل ويصوغه حسب رؤيته.

لقد كان أكبر رهان واجهته المرأة هو أن تمتلك الكلمة لتعبر عن ذاتها، وقد شكل دخول هذا المجال بالنسبة لها جزءًأ من عملية التحدي والمقاومة وإثبات الذات، وإذا كان هذا ينسحب على كل كتابة إبداعية فإن كتابة المرأة لم تكن تفترض مجرد إثبات ارتباط التجربة الفردية بالوجود العقلاني حسب “الكوجيتو” الديكارتي: “(أنا أفكر، إذًا أنا موجود)، كما هو الحال في كتابة الرجل، وإنما كان على المرأة الكاتبة، قبل ذلك، أن تثبت ذاتها كإنسان لا يقل عن الرجل: (أنا امرأة إذًا، أنا موجودة) ([35]).

لكن قرار الانفصال عن تراث ضخم من الفرضيات الذكورية في مجال الكتابة لم يكن سهلاً، خاصة في مرحلة البدايات حيث اللغة مازالت تحمل ذاكرتها المشحونة بالفحولة. فكان أن أبدعت المرأة إبداعًا محدودًا تنفست فيه قيم الإبداع الذكوري، ولم يكن بمقدور المرأة الكاتبة في بداية تجربتها ألا تعيش تجربة التماهي الرجولي، لأن الكتابة كانت “نمط حياة يسكنها الرجل على الدوام”([36])؛ ولأن الذات المؤنثة لم تكن قد بلغت بعد لحظة الاستقلال والوعي الحقيقي بذاتها الأنثوية في مواجهة ذكورية اللغة. فالذات الأنثوية كانت خاضعة لشرطها الحضاري والنفسي، حيث تنظر حسب قائمة للسمات والملامح المحددة، وتصغي حسب برنامج إعلامي معين، هو ذاك السياق الذكوري الذي تنطفي أمامه الأنوثة والذات المؤنثة([37]). وحيث إن الرجل يعتبر هو الكائن لذاته، بينما المرأة كائن بغيره، فإن قول الرجل كان يأتي دائمًا ممتلئًا، لأنه الأصل، ويأتي قول المرأة فارغًا، بمعنى أنه الصدى للقول الفعلي([38]).

في بدايات الستينيات، وبينما كان الصدام على أشده بين قطبي الثقافة في البلاد حول قضية تعليم المرأة وإشراكها في مشروع النهضة، أطلت أسماء عديدة لكاتبات سعوديات في مختلف المجالات، في الصحافة، والشعر، والسرد. على أن التجارب الأدبية التي ظهرت في هذه المرحلة لم تكن أهميتها في إبداعية ما تطرحه، بقدر ما كانت في حضورها نفسه، وفي صراعها لإثبات الذات في محيط كان يعتبر تعليم المرأة طريقًا للفسق وإفساد المجتمع، ويعد كتابتها في الصحف وغيرها سماجة ووقاحة، وخروجًا على الذوق السليم، ومجافاة للطبيعة الحساسة، وفي مجتمع “كان لا يزال حينئذ يعتبر اسم المرأة عورة لا يعبر عنه في مجال الرجال إلا بكناية رمزية وبعد الاعتذار”([39]). فإن مجرد كون هؤلاء الكاتبات قد كتبن للنشر، أي من أجل أن يصل كلامهن إلى عامة الناس، فإن ذلك بحد ذاته يعتبر مؤشرًا على وعي جديد، وعلى رغبة في كسر القيود وتحدي العزلة المفروضة عليهن. لقد كانت الكاتبات في تلك الفترة يسلكن طريقًا غير معبدة، ويكتبن، بتعبير إلين شوالتر، في البرية، حيث يمثلن جيلاً بلا أمهات([40]).

لكن على الرغم من أن أغلب الكاتبات في تلك المرحلة، مثل سميرة بنت الجزيرة، وهند باغفار وعائشة زاهر، ثم هدى الرشيد وأمل شطا في مرحلة لاحقة، لم يتمكن من التحرر من تقاليد الكتابة الذكورية والصورة التي كرستها عن المرأة، إلا أن أدبهن شغل بقضايا المرأة والدفاع عن حقوقها، وإبراز معاناتها، ما يدل على أن الوعي النسوي كان حاضرًا في أدب المرأة منذ بدايات دخولها عالم الكتابة.

5- الرواية الذاكرة الأنثوية:

من بين سائر الأجناس الأدبية، تأهلت الرواية كخيار أمثل بالنسبة للمرأة للتعبير عن تجاربها ورؤاها، وللنهوض بالتغيير على مستوى المرجعيات الثقافية والاجتماعية، وللخروج من أسر الأحادية الذكورية إلى أفق التعدد والاختلاف، وذلك لما يتيحه الجنس الروائي من استخدام فخاخ السرد وتقنيات الكتابة الروائية لإعادة صياغة العالم، وإعادة تنظيم علاقات القوى المتحكمة في توزيع التراتبيات الاجتماعية من وجهة نظر أنثوية. لاسيما في ظل تمتع الإبداع الأدبي باستقلال نسبي عن علاقات إنتاج المجتمع التقليدي الذي يتولد عنه، ومن منظور “قدرة الجنس الروائي على مواجهة تخلف المجتمع التقليدي وجموده، وما يقوم به من مناوشة نواهي هذا المجتمع وتحدي تقاليده القمعية بمراوغات السرد وحيل التمثيل الكنائي التي هي سلاح بلاغة المقموعين في تقليم براثن العنف في المجتمعات التسلطية”([41]).

ومما يساعد على نهوض الجنس الروائي بهذه المهمة أن الكتابة الروائية في مجتمعنا المحلي، كما في كثير من المجتمعات التقليدية مازالت تعتبر وسيلة للتسلية لا يحفل بها أحد ولا يؤخذ ما فيها مأخذ الجد([42]). وتلك هي مفارقة الرواية، كما يقول ألبيريس، فهي لا تعدو من جهة أن تكون مجرد تلبية لمطلب أدبي هو غاية في البساطة: مجرد قصة، سرد، حكاية خيالية، بيد أنها في الوقت نفسه تقدم للمتلقي تلك الجاذبية التي تجعله يستسلم، دون وعي منه، لهذا السحر، ما يجعله “يتبنى دور مصاص الدماء الذي يجعل من قراءة الروايات متعة سادية”([43]).

تذهب جوليا كريستيفا إلى أن النص ليس مجرد لغة تواصلية، وإنما هو جزء من سيرورة الحركة المادية والتاريخية. فهو لا يكتفي بتصوير الواقع أو الدلالة عليه، بل يشارك في تحويل وتحريك هذا الواقع، وذلك عبر لعبة مزدوجة تتم في مادة اللسان وفي التاريخ الاجتماعي.

والنص القادر على القيام بتلك الوظيفة ليس، بطبيعة الحال، النص الذي يكتفي بوصف ذاته أو بالاستغراق في استيهاماته الذاتية، بل هو الذي يقوم بمساءلة اللسان وتغييره وانتزاعه من لا وعيه ومن آلية اشتغاله اليومي والمألوف. وبذا يكون مقلقًا ومزعجًا ومحرضًا على التفكير والتأمل، بحيث يتمكن من تغيير طبيعة النسق السيميائي المتحكم في التبادل الاجتماعي، وتنظيم القوى الحية للسيرورة الاجتماعية داخل المحافل الخطابية، من خلال التشكيك في قوانين الخطابات القائمة، وتقديم أرضية صالحة لإسماع أصوات خطابات أخرى جديدة([44]). غير أن النص لا يتشكل كسيرورة في اللحظات الأولى من لحظات تم فصله، أو في بدايات ظهوره، فالأثر المكتوب “يترسب ترسب العنصر الكيميائي: فيكون في البداية شفافًا، بريئًا ومحايدًا، ثم تظهر ديمومته البسيطة كل ماضيه المؤجل، وتبرز كل (شفراته) التي تتكثف بالتدريج”([45]).

إن اللغة تحمل المتلقين على رؤية الواقع في شكل علامات لغوية فارغة يملؤها كل متخاطِب بما يعرفه من تجربته المعيشية الخاصة. فالأفراد لا يتخاطبون لمجرد التواصل، بل لتبادل التجارب المنتخبة والمنتقاة، وذلك بحثًا عن معنى العالم ورغبة في فهمه. وهكذا تزداد وظيفة كتاب السرد طرافة وخطورة، فليست وظيفة الكاتب أو الكاتبة إدراك العالم كما اعتاد الناس إدراكه، بل حمل المتلقي على إدراك العالم من زاوية نظر مختلفة لاكتشاف ما فيه من ثراء وتنوع. وحينئذ لا تغدو وظيفة السرد، أو غيره من أشكال التعبير، هي تغيير العالم، وغنما هي تغيير طرائقنا في إدراك العالم.

ومن هذا المنطلق تصبح وظيفة السرد تأسيسية أو تكوينية، فالمعنى موجود ولكنه متناثر ومشتت في بعدي الزمان والمكان. والسرد هو ذاكرة المعنى لأنه تجميع لمزق الحياة المتناثرة وخيوطها المتفرقة بغية نسجها في خطاب يمنحها التماسك والانسجام والمعقولية([46]).

وحيث كانت الطريقة الوحيدة المتاحة لإدراك العالم هي التفكير فيه من وجهة النظر الذكورية، لأنها الرؤية الغالبة والوحيدة، فقد شكلت مساهمة المرأة إضافة نوعية للخطاب الإبداعي والواقعي، وأتاحت دخول خطاب مختلف، ورؤية جديدة في تصور العالم حين أضافت تجربة المرأة ورؤاها وعلاقتها بالعالم، بعدما كانت الثقافة القديمة قد حجبت تجربتها، وعتمت على رؤاها وقيمها، وألحت على الفصل بين مجالها (الخاص) ومجال الرجل (العام).

كانت الموجة النسوية الثانية قد أطلقت في بداية السبعينيات شعار (الشخصي هو السياسي)، وكان هذا الشعار بمثابة احتجاج على الفصل بين المجالين الخاص والعام. وعليه فإن روايات النساء، كما يرى النقد النسوي، تعيد التفكير في المسلمات المرجعية التي تشكل مفهوم وحدود الخاص والعام، وذلك عبر دمجهما ليشكلا في النهاية، منطقة جديدة، أو قديمة ولكن يتم التفكير فيها من وجهة نظر مختلفة. وهذا التضفير بين الخاص والعام يكشف عن ثغرات وشقوق في الصورة المتجانسة التي كرستها الرؤية الذكورية، ويمكن من النظر في الهوامش التي تحوي دلالات نصية مسكوتًا عنها. وهكذا يمكن لرواية المرأة أن تقلق الأمن والاستقرار المعرفي الثابت الذي كرسه الخطاب الأبوي ذو النزعة الأحادية. فالسرد يحمل عالمًا شموليًا مكثفًا، وتراكم خبراته لابد أن يخلخل ثبات الخطاب الذكوري المهيمن، مما يعني في النهاية تغيير علاقات القوى، والوصول بها إلى شكل مغاير لشكلها الأول.

لقد أتاحت الرواية للمرأة هامشًا عريضًا لمواجهة التعتيم والتهميش والإقصاء. ولإضافة رؤيتها وتجربتها وخبراتها في المشهدين الإبداعي والواقعي، فالرواية تمتاز بقدرتها على تقديم التجارب الإنسانية غير المعهودة، والخارجة عن الأنموذج والمثال، لأن تاريخ الرواية إنما هو “دفع متصل لمقاومة طمس الإنسان”([47]).. وإذا كان التاريخ قد ظل حكرًا على سير الملوك والعظماء فإن الرواية تأتي لتكتب “تلك الحكايات التي يتعالى عنها التاريخ”([48]). فهي التاريخ المنسي الذي خطه الإنسان المقهور، وابتكار الإنسان الذي لا مجد له، واختراع المقهورين للخلود في مملكة الخيال([49])؛ فالتاريخ يكتبه المنتصر. ولا خيار لمن لم ينتصر بعد “إلا أن يحتمي بالسرد حتى يدون الحكاية كي لا تُنسى”([50]).

ويشير العديد من شهادات الروائيات اللواتي استطعن تحدي القيود من خلال الكتابة إلى أن الكتابة تمثل بالنسبة لهن فعل وجود وحرية ومقاومة. وقد عبرت الروائية رضوى عاشور عن ذلك بقولها: “أكتب لأني أشعر بالخوف من الموت الذي يتربص. وما أعنيه هنا ليس الموت في نهاية المطاف فحسب، ولكني أعني، أيضًا، الموت بأقنعته العديدة الموجودة في الأركان والزوايا، في البيت والشارع والمدرسة، أعني الوأد واغتيال الإمكانية. أنا امرأة عربية ومواطنة من العالم الثالث وتراثي في الحالتين تراث الموؤودة”([51]).

6- نصوص أنثوية للذاكرة..

أدى شيوع نظريات النقد النسوي، ومصطلح الكتابة النسوية عوضًا عن الكتابة النسائية، إلى ظهور العديد من النصوص والدراسات الداعية إلى تبني خطاب جديد يشتغل على مناهضة العنصرية الجنسوية في الوقت الذي لا ينكر فيه خصوصية التجربة الأنثوية في الكتابة والأدب والثقافة عمومًا. وبعد أن كانت شريحة واسعة من الكاتبات ترفض تصنيف أدبها تحت مظلة الأدب النسائي نظرًا لما راج بين النقاد من محاولات للانتقاص من هذا الأدب؛ بدأت المرأة، وقد وصلت إلى درجة عالية من الوعي بذاتها الأنثوية والاعتزاز باختلافها، بدأت تكرس الحضور الأنثوي في النص. ولم يعد يقلقها كثيرًا ما يروجه النقد التقليدي عن الدائرة الضيقة التي يحصر فيها الأدب النسوي مجاله. فغدت النصوص الروائية مجالاً خصبًا لثورة الذاكرة الأنثوية ونزيفها، حيث استجاب العديد من الكاتبات، لمقولات النقد النسوي الساعي إلى ترسيخ ثقافة التمايز والاختلاف. لم تعد المرأة بحاجة لأن تسترجل أو تتخلى عن أنوثتها لتصبح كاتبة جيدة، وليست بحاجة للحديث عن تجارب لم تعايشها ليكون أدبها مهما، وليس المحك هو معالجة القضايا الكبرى والخطيرة من وجهة نظر الرجال.. فمنذ عصور طويلة والرجال وحدهم يقررون ماهية الكتابة الجيدة، مع أن ما هو جيد من وجهة نظرهم قد لا يكون كذلك من وجهة نظر النساء، وقد حان الوقت ليكون للمرأة رأي في ماهية الكتابة الجيدة.

يجدر هنا التمييز بين مفهوم كتابة النساء، وبين مفهوم الكتابة النسوية. فالأول يعني ما تكتبه المرأة من وجهة نظرها عن المرأة أو عن الرجل أو عن أي موضوع آخر. أما الثاني فيعني الكتابة من وجهة نظر نسوية ملتزمة بقضايا المرأة، سواء كانت هذه الكتابة من إبداع امرأة، وهذا هو الغالب لأسباب مفهوم ومبررة، أو من إبداع رجل. وينبغي التأكيد على اختلاف هذين المفهومين؛ فالنسوية هي، بالأساس، اصطفاف مصالح كثيرة مترابطة تعتمد مقدمتين: الأولى هي أن التفاوت في الجنس هو أساس اللامساواة البنيوية بين النساء والرجال، والتي تعاني النساء، بسببها، من الظلم الاجتماعي المنهجي. والثانية أن هذه اللامساواة بين الجنسين ليست نتيجة حتمية للاختلاف البيولوجي، وإنما هي من صنع الشروط الثقافية لذلك الاختلاف. وهذا المفهوم يزود النسوية ببرنامجها المزدوج: فهم الآليات الاجتماعية والسيكولوجية التي تشكل وتؤيد اللامساواة. وبالتالي، السعي لمقاومة وتغيير تلك الآليات. ولا يخفى أن هذه التجربة ليست مشتركة بين جميع النساء، فقد يتبناها البعض منهن دون الآخر([52]).

غدت مفاهيم النقد النسوي اليوم ذات أثر كوني، وساعدت تقنيات الاتصال والإعلام في نشرها وتكريسها. والمرأة في المجتمع المحلي بطبيعة الحال، ليست بمعزل عن الحراك العالمي من جهة، وحراك المجتمع المحلي من جهة أخرى.

روائية اليوم في مشهدنا المحلي، هي ابنة التحولات والمفارقات الكبرى، هي امرأة تعايش اجتماع أشد أشكال المحافظة التقليدية مع أسرع، بل وأشرس، أنماط التغيير والتحديث المادي، التي أعقبت الطفرة النفطية في السبعينات وما تبعها من تحولات سياسية واقتصادية، وثورات معلوماتية، وفضاءات مفتوحة، وعالم أصبح قرية كونية تتلاحق فيها التطورات وتتسارع الأحداث. وقد قذفت تلك التغيرات بإنسان هذه المنطقة في قلب عجلة التحديث المتسارعة، فانقلبت أنماط الحياة والمعيشة دون أن تتمكن الأنساق الفكرية والثقافية من اللحاف بها([53])، حتى بدا المجتمع وكأنه “يعيش الحاضر بعقل أعد للماضي”([54]). وفي مواجهة هذه الهجمة التي كان من الصعب أن يستوعبها المجتمع (كونه مستهلك لا منتج لجميع منظومات التحديث سواء أكانت فكرية أم تقنية) بدأ الخطاب السائد، كما يحدث في أي مجتمع يشعر بتهديد هويته، يتشبث بتراثه وماضيه. وهو تشبث يزداد شراسة عندما يتعلق الأمر بشأن من شئون المرأة المرتبطة بالعرض والشرف والمحرمات التي لا حصر لها. ولذا يتشدد المجتمع في حراستها، وإحاطتها بسياج منيع من الحراسة والوصاية، بحيث يراد لها الثبات عند مرحلة تاريخية معينة بينما يتغير كل ما في الحياة من حولها.

وكنتيجة حتمية لتنامي وعي الكاتبة في مجتمعنا المحلي بذاتها الأنثوية، ووعيها بالنفي الذي طالما مارسته الثقافة ضد ذاكرتها وأنوثتها، بدأت تبرز العديد من الكتابات التي تحمل حساسية مختلفة، بحيث تعمل المرأة من خلالها على إعادة الاعتبار للذات الأنثوية المستلبة، والتشديد على إدانة ممارسات القمع التي تمارسها السلطة الأبوية ضد المرأة ووعيها وذاكرتها.

أحيانًا.. تحدث بعض الثورات والانقلابات بلا فوضى ولا ضجيج.. بكتابة دافئة ربما.. بحكاية تتسرب إلى مخادع الصغار أو أحلام الكبار “أحيانًا قد تأتيك بعض الأشياء عنوة وتقتحمك.. كالمطر كجيش إصلاح.. فمن ثقوب صغيرة تسربت بلا هوية مسبقة.. خفيف كالحلم.. لذيذ لذة حكاية الليل في أسرتنا الصغيرة يوم كنا نعشق رائحة الجدات المنبعثة من صدورهن الذاوية.. معروقة ولدنة ومفعمة ببقايا عطر قديم ورائحة أفلت([55]).. تنبه الساردة هنا إلى خطورة الحكي، ومفعول الحكايات الصغيرة التي تتسرب إلى ذاكرتنا وتقتحمنا فتؤدي إلى إحداث التغيير.. واستحضار حكايات الجدات هنا له دلالته كون هذا الفعل يشكل إرثًا أنثويًا تعمل به الساردة كتقليد ممتد من الجدة التي تشكل الدعامة الأساسية في بناء وعي الساردة بكينونتها كامرأة تتلقى وتسجل حكايا نساء أخريات.

تلتقط الساردة هنا التفاصيل الصغيرة لليومي والمعيش، وتنسج من خلال تلك التفاصيل حكايا لنساء مقهورات تعيش كل واحدة منهن نفيها الوجودي الخاص. وترتكز بنية هذا النص على خاصية الثرثرة والتكرار في ميل واضح نحو تكريس وترسيخ بعض الصور كي لا تتعرض للطمر في غياهب الذاكرة.. وقد شكل موت فضة أبرز تلك الصور.. موتها الفاجع مختنقة بجنينها من رجل زوجت له ليصادر جسدها وينغي عرقها الأسود.. عاندت فضة قدرها فكان هذا الموت الأسطوري..

في (الفردوس اليباب) صبا أيضًا تخرج على القانون، وتستمع لنداء لحظة جنون زينته لها كتبها وثقافتها.. لتلقى المصير الفاجع نفسه.. عملية إجهاض بدائية انتهت بموت بطيء ومر.. وأيضًا تركيز على التفاصيل واليومي، والثرثرة، وانسياب تيار الوعي للإيغال في تخوم الذاكرة وإفراغها مما يثقلها.

في كلا الحالتين أنثى تموت.. وأنثى تبقى.. تحكي وتحمي موتها من النسيان.. تبقيه في الذاكرة.. ففضة، رغم تصريح الساردة بموتها منذ الصفحات الأولى، ظلت حاضرة على امتداد الأحداث، بل كانت توجه أحيانًا وتنتقد وتبدي رأيها ويسمع صوتها.. صبا كذلك لم تنته حكايتها بموتها، بل بقيت خالدة لتخلد تلك النهاية الموجعة..

كل أنثى معرضة لذات المصير إن هي فكرت في الخروج على القانون.. والكاتبات يعملن من خلال هذه الحكايات الإنسانية على إدانة تلك الوضعيات التي تتعرض لها النساء.. بسيطة تلك الحكايات وساذجة من وجهة نظر النقد التقليدي الذي يطالب المرأة الكاتبة بإذابة قضاياها الصغيرة في محلول القضايا العامة والخطيرة كالحروب والأيديولوجيات والمعتقدات.. لكن الكاتبة تدرك أنها تدون تاريخًا لا يقل خطورة عن ذلك الذي يراد لها أن تلتفت إليه.. هو تاريخ القمع وذاكرة المقاومة وتوكيد الذات في مقابل القوى التي تعمل على هدمها واستلابها.

مما يميز كتابات المرأة هو الانطلاق من هذه القضايا الحميمة باتجاه قضايا الخارج أو القضايا العامة، كما تسمى.. مثلما نجد في وجهة البوصلة حيث لم تغب قضايا فلسطين وبغداد، وفي جاهلية ليلى الجهني التي انطلقت من قصة حب بين (لين) و(مالك) لمعالجة قضية الطبقية الاجتماعية ([56]).

روايات (البحريات) تتكئ هي الأخرى على مخزون ضخم من الذاكرة النسوية، تاريخ العائلة العريقة يحكى من الداخل، من حكايا النساء والجواري والعبيد.. هذا الداخل يبني شيئًا فشيئًا صورة الخارج.. عالم الرجال الذي يبدو متواريًا وهامشيًا في الظل.. لكن حكايا النساء تعمل، في النهاية على إظهار ملامحه وتشكيل صورته. وهي ليست صورة جميلة أو زاهية في نهاية المطاف، فالرجال يبنون أمجادهم على أكتاف الفئات الاجتماعية الأضعف. والساردة تركز على حكايا النساء الغريبات القادمات من فضاءات مكانية وثقافية مختلفة، ليتحولن إلى كائنات ينبغي عليهن تبرير غربتهن واختلافهن في وسط لا يعترف بالاختلاف.

(الآخرون).. ذاكرة جسد أنثوي يبحث عن أناه، بين رغباته المنفلتة على القوانين والقيم، وبين ممنوعات ومحرمات تحاصره وتقوم سدًا منيعًا دون اكتشافه.. الذي يعني اكتشاف الذات في نهاية المطاف.. فالجسد هو بيت الكائن، والطريق إلى الذات يمر أولاً عبر هذه الآلة التي بها تمارس الذات وجودها.. والساردة هنا تعمل ذاكرة اكتشاف الذات عبر الجسد الذي يخوض تجربته الخاصة بين علاقات شاذة شائنة، ومرض يقيده، ووطن يغتال حقوقه وحريته، وعالم صاخب متفلت.. “جسدي خلفني في الوراء وراح نحو نقطة غير مرئية من حيث أنا باقية، شرع في وضع لوائحه وتنظيماته الخاصة، خططه لما يمكنه أن يحصده في التالي من الأيام، كانت نياته تخيفني لأنها غامضة ومطلقة، وأنا في وحدتي المروعة، ليس لأني لا أنتمي للعالم، فها أنا لا أنتمي إلى أيضًا” ([57]).. وتدخل هذه الذات في اغترابها ووحشتها وتيهها بشكل يبدو لوهلة أنه سيكون سرمديًا وأبديًا، ولا يخلصها من هذا التيه سوى إيقاظ ذاكرة الجسد التي طمرت في نقطة قصية من الذهن، عندما عادت الساردة لغرفة صديقتها ضي، واستحضرت مشهد المرآة، واللحظة التي ظنت أن روحها وذاكرتها قد حبست فيها.. لتنتهي الرواية بذات تتصالح مع ذاكرتها، ونفسها وجسدها، ومع الآخر، الرجل (عمر) الذي لا يمثل قيمة التصالح مع الرجل فحسب، بل قيمة الآخر المختلف مذهبيًا أيضًا، وكأنما هي خطوة في سبيل التصالح مع الآخر/ الرجل، ومع الوطن الرافض لهذه الذات بما هي أنثى، بما هي تنتمي لطائفة مذهبية منبوذة..

بمثل هذه الحكايات الصغيرة.. النازفة.. الشاكية.. تؤسس الساردات ذاكرة إنسانية جديدة..

في رواية البحريات لأميمة الخميس:

قررت أميمة أن تكون زفرة البداية من هناك من نسوة الخمسينيات أرادت أن تغوص في أساس الثقافة الذي جعل للنساء اليوم مساحتهن المحدودة التي تتسع وتضيق بحسب ما يغدق عليها الرجل من كرمه العظيم. إن تتبع شفرات الميلاد السري لهذا الضنك الاجتماعي الذي يحاصر النساء ويجعلهن لا يجدن مقعدًا في مؤسسات المجتمع على الرغم من هذا الكفاح الطويل هو عمل أميمة الخميس في روايتها الأولى البحريات، مهم ومؤثر ولابد أن يثير الأسئلة؟!

أسئلة كثيرة تطرحها الرواية وهي تغمرنا في تفاصيل سيرة بهيجا ورحاب وسعاد النسوة الثلاث اللائي هطلن مثل غيمات على رمضاء نجد.. اقتادتهن المادة مثل النعجات إلى مزرعة آل معبل في جنوب الرياض وعلى حواف ذلك نبتت الصحراويات نائيات من حواف الزمن اللافح بالقيظ والظمأ.

تعمل الرواية على تأريخ أحزان المرأة النجدية التي حاصرتها رائحة الطين وسعفات النخيل بنفس الإخلاص التي تؤرخ لحزن القادمات من عروش الزيتون والبرتقال إلى الجفاف والغبار والأشجار التي تهب ثمرًا شحيحًا. كل ما حول المرأة مؤنث لكنه لا يلتفت إلى وجودها لا يمنحها شهادة الحياة عدا الليل حين يجلب إليها رجال يؤون إليها حين يقرصهم جوع الجسد.

تطرح الرواية سؤال النسق العتيد الذي يتناسل حراسه من داخله يتوالدون كي يبقى بشروطه التي تقف بكل جسارة في وجه أي محاولة سافرة لتغييره أو حلحلته من مكانه.

وإذا سلمنا بأن المرأة هي أهم ضحايا النسق فلم لم تنجح في تغيير حالها؟ وهي التي تلد الرجال وترضهم ماء الحياة. تبذل الرواية جهدًا كبيرًا في إثبات أن المرأة هي حارسة النسق العتيدة.

تبدو أم صالح هي المحور الارتكازي في الرواية ومن خلال بوابتها العظيمة انهالت كل كومات الضوء خاصة وهي تهب جل ملامحها بكل سخاء إلى إحدى أهم ضحاياها لتصون أمانة النسق فبهيجا لا تحتمل أن تنجو سعاد من سطوة ما عانته هي فتمارس عليها كل الأنماط القمعية التي مورست عليها.

فالبحريات يعاركن النسق النجدي ليس كرهًا فيه بل سعيًا لفرض نسقهن على المكان والزمان جئن إلى المكان ولم يقبلن بشروط الاندماج وضياع هوية البحر وسط سطوة الرمال فبهيجا وسعاد ورحاب تمردن بأساليب مختلفة ففي حين اكتفت بهيجا بالخروج من ربقة أم صالح وطعامها وأرديتها والشجيرات التي تبثهن في كل ما هو قابل لذلك تجد أن سعاد فعلت مثل ذلك لكنها تجاوزت حين خرجت روحها من سجن الجسد الذي احتبست فيه في منزل المخمور دائمًا سعد آل معبل وراحت ترفرف تتوق لضماد تلتئم إليه جراحها فكان متعب المغارة السحرية التي أغدقت عليها وتبلسمت لها.

أما رحاب فقد جاءت تداوي جروحها… تدفنها في الصحراء تهرب من جرح على الذي غادرها وغدر بها.. وبعد لأي وآخر ينزلق في قلبها عمر الحضرمي ليداوي آخر الندبات في جرحها القديم([58]).

كلهن يأتين للصحراء ليداوين جراح الحياة..

تمامًا مثل “نازك” بطلة (امرأة من طابقين) لـ (هيفاء البيطار)([59]) التي جاءت إلى الصحراء لتداوي هزائم قلبها وتعمل في التدريس..

كلهن نسوة طارئات.. أخذت الصحراء عصارة أجسادهن ووهبت لهن المال والولد.

لكنهن جئن بنسقهن.. لا أجد بينهن وبين نسوة الصحاري فارق كبير في التعامل مع الأحداث ومجرياتها.

ظلت بهيجا ورحاب وسعاد يحتفظن بالقشرة من نسقهن الخاص فالقهوة التركية والمعمول والشجيرات الصغيرة.. كلها نسق شكلي أما التمايز الحقيقي عن نسوة الصحراء في القرار والاختيار فلم يكن..

كن فقط يتقن للكسب دون معادلة الخسارة!!…

الصحراويات ونظرية النشوء والارتقاء:

بدءًا من أم صالح، موضي، شيخة، البندري، منيرة، نوال ست نساء يمثلن أجيال مختلفة بدءًا من الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات… كلهن كن نسوة المكان.. يشكلهن كما يريد هو لا كما تريد كل واحدة منهن…

ليس لهن حياة إلا من خلال الجسد.. وسعادتهن تعلو وتهبط أسهمها وفق قدر الجمال واللدونة التي تتسم بها أجسادهن…

أم صالح غادرتها الأنوثة.. فمنحت مميزات الذكورة…([60])

وموضي حظها من الحياة عاثر… استيقظ قليلاً من خلال جسد ابنتها البض ووجهها الجميل..

وشيخة.. النهمة للحياة.. الشبقة.. جسدها يدير مؤشر حياتها؟؟ والبندري ومنيرة.. حتى لو تعلمت الأخيرة.. فالنسق يملي عليها شروطه ويغيب تأثير الكتب الطارئ عليها..

بقيت نوال… وهي بوصلة جديدة تشير من على بعد أن ثمة ارتقاء وبلوغ إلى مرحلة نضج سوي في تفكير المرأة حيث متعب الذي تثق فيه وتتركه لا تفتش في جيوبه بحثًا عن رائحة امرأة أخرى مختبئة في عطفات الثياب.. فهل أذعن النسق أخيرًا لنضج نوال.. التي أصبحت امرأة قادرة على العمل والعطاء والتفكير المستقل هي نجحت نوال بعد أن تأهلت تمامًا للمشاركة في أن تشارك…

الانتظار لعمل قيادي ظل مفتوحًا في الرواية فهل ترى نوال نجحت.. وهل حصلت على ما تريد وقد بذلت واستعدت لتكون مؤهلة لما تطالب به!.

أسئلة كبيرة تطرحها الرواية.. تنبش في واقع المرأة وتحاكم النسق من خلال الماضي والبدايات.. ومقارنتها في ذهنية المتلقي وأفق تلقيه للأحداث والنهايات.

 

المكان والزمـان:

اهتمت الرواية بالحيز أكثر من اهتمامها بالمكان والحيز أكثر اتساعًا من المكان… وأعمق…

في محاولة لفهم واستيعاب هذا النسق الذي يلف عباءته على الناس ولا أحد يفكر في أن يرفع يده ليبعد طرف العباءة..

خيمة الصحراء والنخل… والبيوت.. والحكايات السرية.. والجنيات والصلاة.. والحلال والحرام…

والتهجين… وتحسين النسل.. والغياب والحضور.. والزمن الذي يتثاءب بطيئًا… رتيبًا في حضرة الاستهلاك النزر والجفاف.. كلها جاءت دافعة للحدث والتشابك وقاربت الرواية بين الطعام والجنس وكونهما ثنائية تحفل بها الصحراء دون الغوص في أعماق الأشياء بل تركها تستمر وتعبرها القوافل حتى تذبل الأفواه والأجساد…

المكان والزمان يمثلان شخصية اعتبارية هامة في الرواية.. حيث المكان المثالي تمامًا لإقامة هذه التضادات والتشابكات في العلاقات بين نسوة المعبل وعالمهن القريب…

والزمان مثالي جدًا هو الآخر حيث بداية التكوين الإداري الحضري للبلاد واكتشاف النفط وتطور التعليم…

فكانت رصدًا هامًا وتوثيقًا ناجحًا… لسيرة المرأة في حاضرة نجد وكيف تعاطت مع المتغيرات حولها…

إنها تمامًا مثل نظرية النشوء والارتقاء!

المرأة ومتعة السرد:

جاءت البحريات مجللة بمتعة السرد حيث السمة البشرية المشتركة للقص والحكي والإنصات.

وإن استمر السرد على وتيرة واحدة ولا تتغير ولكنها وتيرة ساخنة تعرفها النساء جيدًا.. إنها شبيهة بسخونة سرد تفاصيل المخاض ولحظات الولادة.. حيث تدار الحكايات حول الأطعمة الحلوة والدافئة ونسغ إطلالة المواليد.. لا يداوي تعب النفاس إلا سرد حكاية الولادة..

كانت الرواية تشبه سرد امرأة مثقلة.. وحين تخففت منه جلست إلى ورقها لتحكي وتحكي..

تلك هي علاقة المرأة بالكتابة..

علاقة مخاض وولادة وبكاء حروف وكلمات…

وحيث تمثل الرواية كجنس أدبي المتعة في أصلها ثم تعمد إلى صقل وتهذيب النفس ونقل الحياة المعاشة عبر الحكاية حيث ينأى الراوي عن حكايته ويقدمها عبر شخوصه وأحداثهم التي يصنعونها هم عبر خلفياتهم الثقافية والسلوكية..

فإن الراوي هنا موجود وغائب في آن…

لا نكاد نشعر بوجوده إلا من خلال رصده الدائب لكل شيء وأي شيء في نخيل آل معبل.

وهو كما لو كان واحدة من جنيات أبو دحيم اللاتي يدهمن المكان ليساعدن بهيجا في وحدة ليلها.

كان بإمكان الرواية أن تفتح باب الآخر بشكل أكثر اتساعًا فقد جعلته مواربًا حيث الحديث عن مريم الحبشية المسيحية التي تخفي صليبها تحت ثيابها.. كدلالة على غياب الحرية الدينية ليس ممارسة فقط بل وحتى رفضها كوجود.

بينما تغير الآمر قليلاً مع تغريد ولكن الرواية لم تتوقف عند ذلك طويلاً!

الصحراء ولغة العشق الصامتة..

كل اللغات تغيب في الصحراء وتبقى لغة الجسد… والرواية تضرب على وتر العلاقة بين المرأة والرجل وفق الرغبة وشروطها..

عمر الحضرمي ورحاب..

الطبيب السوري والبدوية..

سعاد ومتعب…

ولكن رغبات مؤججة بعشق الجسد حيث الأرواح لم تتلاقَ متعب وسعاد كان بإمكانهما أن يمثلا علاقة مختلفة لولا أن متعب اكتشف أمام جسد سعاد أنه رجل مثل كل الرجال!!

صالح الذي أحب بهيجة.. كان يمثل آلهة الحب الصامت.. التي تجوب الصحاري وتبث للعشاق لغتها.. وتمهد لهم الطريق.. تلو الطريق!

لكنه عشق مسائي مجلل بالظلمة.. يغيب بمجرد مجيء النهار!!

 

ملاحظــات:

الراوي متعاطف في حكاية رحاب وسعاد مع البحر وثيمته حتى أن أبناء عمر الحضرمي ورحاب الشامية مخلوقات جميلة نادرة تربط اليمن بالشام.

لكن الحديث عن مخلوقات صالح وبهيجة كانت هجينًا منفرًا!!

الشرفات في الشام ينبت فيها الأخضر بتلقائية… بينما النخل في الصحراء لا يوحي إلا بمزيد من الجفاف والانتظار!!

الرياض وهي مستيقظة من لعنة الموات الصحراوي.

الرواية غنية بالشفرات السرية والإيحاء والتناص الأسطوري والخرافات وهي من متلازمات عالم النساء السري…

فأثير المذياع وبرامجه والارتباط السري مع الحدث.

الأساطير والجنيات في حكاية رحاب وعلي.

ذا النون وغيرها تعطي إيحاءً لعالم المرأة الغيبي!

غياب الرجل… فهو صانع النسق في النهار… ومحطمة والباكي على إطلاله في المساءات.

ويمثل ذلك صالح ومتعب..

وسعد آل معبل..

ويمتلك الرجل الحق في صنع كل شيء وهدم كل شيء في آن.. كتركيز على هشاشة الصنع والمصنوع!

تتسم الرواية بقدر من اللغة الشعرية.. وحداثية البناء حيث التلاعب بالزمن والتأخير والتقديم..

فبهيجا تحدثنا في أول الرواية من مشفاها الخارجي بعد أن عبرت سفينتها كل شطآن الحياة..

ثم تعود بهيجا صبية وأمًا وامرأة تكابد الحياة… وقد أتقنت الكاتبة هذه التقنية السردية عدا موضوع واحد.

حيث انتقال الحديث المفاجئ من حكاية سعاد إلى بهيجة دون رابط أو إشارة أو دلالة!!

الرواية تعد تمثيلاً مهمًا للخطاب النسوي الذي يكشف عالم المرأة من الداخل بغية إصلاحه بالمكاشفة.. وسمات اللغة والتفاصيل النسوية.

ظهرت عدة أخطاء في الأسماء مما أحدث ارتباكًا لدى القارئ وانقطاعًا لمتعة السرد وهي للأسف كثيرة ومنها:

لم تنوع الكاتبة في تقنيات السرد وسيطر الراوي العليم على أجواء الرواية الذي يكشف كل شيء في الداخل والخارج مع أنه غير موجود البحريات (علامة هامة).

بلا أدنى تحيز.. تعد البحريات علامة هامة في تاريخ الرواية المحلية… ليست النسائية وحسب..

وهي رصد تأريخي مهم لمرحلة نسوية كانت ستندثر لولا عناية الكاتبة بها فشكرًا لأميمة الخميس التي وهبتنا متعة سردية هائلة في روايتها (البحريات).

7- حرية الحركة في السرد النسوي:

إن قانون “التداعي الحر (Free Association) هو أقرب إلى بناء السرد النسوي من قانون التسلسل المنطقي”؛ إذ حول السرد مساره من نسقه المألوف الذي تتحرك فيه الأحداث والشخوص حركة أفقية تسلم فيها المقدمات إلى النتائج ويتحكم فيها التسلسل الزمني إلى حركة رأسية تتعمق هذه الأحداث وتلك الشخوص ومن ثمَّ أخذ السرد بعض الحرية في الحركة الترددية إلى الوراء والأمام وأخذت الشخوص نوعًا من التبلور الذي يتابع الظاهر والباطن على حدٍّ سواء”([61]). والتداعي الحر يعني به الفيضان الذهني والتذكر الحر الطليق من قيود الزمن وهذا يجعل الكلمات تظهر بعفوية من دون تكلف و”هناك ثلاثة عوامل تنظم التداعي وهي أولاً الذاكرة التي أساسه، وثانيًا الحواس التي تقوده، وثالثًا الخيال الذي يحدد طواعيته”([62]).

تعد رواية (الوارفة) (لأميمة الخميس) نوعًا من أنواع الرواية السِّيرية التي تحدد ماهيتها وطابعها فهي لحظة استرجاعية طويلة لحياة البطلة (الجوهرة) وهي في طريقها إلى مستشفى الجيش حيث تعمل مستعرضة أثناء ذلك قضية روايتها الأساسية وهي نغمة الرثاء نحو الذات والانتقاد الاجتماعي الناظم حول القيم والمساواة التي تتعرض لها البطلة كما صرخت بذلك “عند بوابة مستشفى الجيش اتفق الجنود عند البوابات على مخاطبتها هي وسائقها بلغة تقتصر على الأصوات والصفير دون الكلمات.. ياهيه.. يا هو يا أنت.. يا رفيق هي وسائقها لا يستحقان امتياز التخاطب بالمفردات ويكتفي الجندي بالأصوات. والطقطقة.. تقاوم الفكرة السلبية داخل رأسها سريعًا لن تجعل الأفكار المستفزة حول القيم والمساواة تقتات أعصابها كل يوم”([63]).

والسبب الأساسي لدَّي في الوصول إلى نتيجة أن الرواية تتراوح بين مستويي روايات (بدرية البشر) (هند والسكر) وقماشة العليان (عيون قذرة) (فالوارفة) تغلب عليها المباشرة الأيديولوجية التي ما يشبه خطبة جمعة ليبرالية أو مواعظ ليبرالية مع طرح مباشرة للطرح (القشري) لبدرية البشر في روايتها (هند والعسكر) والطرح الرثائي (لقماشة العليان) في روايتها (عيون قذرة). فقد ركزت أميمة الخميس عالمها الروائي في قضية المرأة مما جعلها عرضة للتكرار مع اعتبارها رواية غير مملة كما يمكن أن تكون مسلسلاً دراميًا اجتماعيًّا خليجيًّا حول نضال المرأة الخليجية من أجل تحقيقها ذاتها وتقديرها لها. إلى أن هناك بعض الأخطاء التي تم رصدها وهي كالآتي.

الكاتبة أميمة الخميس بدأت قاصة ثم كتبت الرواية وملاحظة أن النص القصصي القصير يسهل على كاتبه ملاحظته والدقة في التعامل مع ما فيه من معلومات. وأما النص الروائي فهو يقوم على سلسلة من المعلومات يجب على الكاتب الروائي أن يراجعها بضع مرات ليتأكد من صحتها ولكيلا تتسبب لعمله في أخطاء مميتة قد تحيل إلى معرفة الكاتب نفسه أحيانًا وقد تحيل إلى ما هو أسوأ وهو احتمال المقصودية بخاصة إذا كان الخطأ المعرفي يوحي بأن السبب في الوقوع فيه هو سبب أيديولوجي من ذلك على سبيل المثال.

غياب المعلومة الطبية في الرواية إلا بشكل نادر جدًا في حين أن (الجوهرة) الشخصية التي تدور حولها الرواية هي طبيبة في أمراض الغدد فلم تعرض لأي حالة مرضية سوى حالة السائق (بابلو) الذي أصيب بسرطان في جهازه التنفسي وعولج بالعلاج الكيماوي. أَمَّا ما سوى ذلك فالرواية مشغولة طيلة أوقات دخول المرضى بافتتان المرضى بالبطلة ومحاولتهم معاكستها أو ملامستها أو التفوه بعبارات نابية تجاهها وهذا ما يعكس عدم بذل الكاتبة جهدًا معرفيًا فيما يتعلق بالتخصص الذي اختارته لبطلة روايتها. الخطأ في نقل آية قرآنية مرتين (ص24) لكن الشيخ المصري قال لها بصوت عميق.. أخواتنا يتجسدون أحيانًا في هيئة بشر أو شجر لعله فتح مبين وكشف للبصيرة يا ابنتي خصك الله به – لا تقصص رؤياك على أحد فيكيدوا لك”.

والصواب للآية: “لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيدا” (الآية 5: سورة يوسف).

ورد خطأ آخر في ص143 الرواية “كانت تردد الآية “واحلل عقدة  من لساني ليفقهوا قولي”([64]). والصواب “وأحلل العقدة من لساني يفقهوا قولي” (سورة طه: آية 27-28).

في (ص24) السابقة خطأ معرفي في زعم الساردة أن من علماء مصر من اعتبر الأطياف التي تراها دليلاً على ميزة خاصة بها حيث حدثها إخواننا يتجسدون أحيانًا في هيئة بشر أو شجر لعله فتح مبين وكشف للبصيرة يا ابنتي خصك الله به لا تقصص رؤياك على أحد فيكيدوا لك وأكثري من الأذكار وقد جاءت بهذا الرأي في الرواية في مقابل التلويح بقسوة الرأي السلفي في مسائل العلاج عن طرق الرقية الشرعية.([65])

في ص16 “ظلت قارورة سيد – التفاح الخضراء تشعرها بالبهجة والأناقة ليلة زواجها الأولى تناولا العشاء في المطعم أسفل فندق الأنتركونتنتال، الذي ينزلون فيه قدم لهم النادل عصير سيدر مع ماء (بيريه) الفرنسية وقطع تفاح وليمون أسماه سعودي شامبين”([66]). فعصير سيدر كان رمزًا للحضارة والذوق والوجاهة والتمدن وهو ترف انسدل حول البطلة.

في صفحة 28 الادعاء بأن سبب تفوق الطالبة الحجازية في مواد الطلب راجع إلى أنها نشأت في بيئة لا يوجد فيها فصل بين الرجال والنساء وهي البيئة الحجازية حيث تختلط مجالس النساء بالرجال والحقيقة غير ذلك حيث إن المجالس الحجازية لا يوجد فيها الاختلاط “تقول الروائية “كاريمان حينما تذكر تشخيصًا للحالة وتلمح بريق السخرية في أعين الاستشاري وبعض الطلبة كانت تستفز وتتحفز وتقاتل وتطلب تفسيرًا وتراجع إلى المراجع ومن ثم تأتي بتحليلها معها لاحقًا لربما لأهل كريمان في الحجاز مجالس نساء ورجال مشتركة وربما تصيح أمها في وجه أبيها مطالبة بحقوقها”([67]).

وهناك خطأ معرفي آخر في ص57 حين تقول الروائية “بعد صورة الأشعة قالت لها الطبيبة عندك تليف في الرحم هذا التليف يجعل حملك في المستقبل في غاية الصعوبة وإذا زادت عليك دماء الدورة الشهرية أو شعرت بآلام في أسفل بطنك أو دوخة ونقص في الوزن.. لابد أن تراجعيني…” ([68]).

فالرواية تقول إن أم البطلة التقطت أشعة للرحم في مستوصف عادي قبل أكثر من بضعة عشر عامًا من زمن كتابة الرواية وهذا خطأ مضرِّ بالرواية حيث إن الشخصية البطلة فيه طبيبة.

وفي صفحة 104 خطأ فقهي حول أخذ الزوج نصف المهر من زوجة دخل بها وفيه إعادة الجوهرة المهر كاملاً (لطلال الدُّب) بعد أن طلقها حتى خاتم سنغافورة وفيه تم التصريح بذلك مع أن الصحيح في المعلومة أن المرأة إذا قبضت المهر ولم يدخل بها زوجها فمن حقه استعادة نصف المهر ما لم تعفُ عنه. تقول الروائية “هل كانت تريد أن تغيظ طليقها؟ الذي أعادها للموزع بضاعة نصف مستعملة عندما قالت أختها (رقية): يأخذ نصف المهر فقط لأنه دخل بك. واستعادة ظلال تلك الليلة رائحة عرقه التي ظلت فوق الشراشف طوال الليل، دماؤها وانتحابها وترددها طوال الليل على الحمام ومن ثم خرجت لتجده قد نام”([69]).

وفي صفحة 136 خطأ معرفي أيديولوجي، يتحدث حول أن أهل المسجد يعترضون لأي السائق النصراني النجس يقود مكفولة للمسجد مع أنه لا يحاول دخول المسجد وإنما ينتظر سيده حتى يخرج. كما في الصفحة أيضًا خطأ معرفي حيث تقرر الرواية أن أهل الرياض يسرعون بالسيارات ويتسببون في الحوادث لماذا؟ لأنهم غير سعداء ولماذا بالتحديد؟ لأن الرجال لا يرون النساء هكذا كتبتها، الرجال المرأة لمن تتزين وتتباهى هذا سبب السرعة في الرياض.

وفي صفحة 153 خطأ معرفي أيديولوجي آخر وهو أن الداعية تنهي الفتيات عن لبس الستيان وهذا غير صحيح لأن أكثر السعوديات يلبسن الستيان سواء كن محافظات أم غير محافظات فالمحافظات لا يلبسن الضيق ولا القصير ولا الشفاف. تقول الروائية [بعد أن شعرت بأن (حصة المريض) توبخها هي شخصيًّا وحدها وتطلب من جميع الحاضرات أن يرتدين ثوبًا واحدًا مشابهًا لثوبها بلا خصر أو ستيان لكن النصيحة الوحيدة التي استوقفتها هي قولها لا تبدي إعجابك أمامه بأي من الرجال في العالم عدا علماء الدين، همست في أذن رقية عابثة: ماذا عن أبطال المنتخب؟] ([70]).

كما أن الرواية فيها من الافتعال والتكلف عبر الأحداث العامة ومن هذه الافتعالات، أن الجوهرة البطلة تمنت لو أن زوجها طلقها لأنه لم يصحبها لإحضار ملابسها من بيت والدها ولأنه نام في الطائرة ولم يحدثها. وأن الجوهرة أيضًا فرحت بزواج أختها لكيلا تضطر إلى أن تبرر لها لماذا لم تنضم معها إلى القسم الأدبي بدلاً من العلمي. كما نرى التكلف والافتعال في زوجة الطبيب (بدرية) تراجعت عن الزواج منه لأنه بدأ في تربية ذقنه. وأن أخا الجوهرة عبد الرحمن تزوج ليعوض عن أمه المتوفاة. وأن الجوهرة في صفحة 100 أحضرت قوارير خاصة لتملأها بالدموع ولتحضرها لتفرغ فيها دموعها إذا توفيت والدتها أو تزوجت أختها أو خلافه ثم تكتشف الطبيبة أن الدموع لا تملأ القوارير فتبدأ في ملء أوعية أقراص الأدوية بدموعها لكنها لا تمتلئ أيضًا.

في رواية (الوارفة) تحاول الكاتبة أميمة الخميس أن تكتب روايتها بأسلوب الراوي العلوي المحايد لكن الراوي في الحقيقة ليس سوى مونولوج عالٍ مصاحب للأفكار والقناعات الخاصة بالشخصية الأساسية في الرواية ويصاحب ذلك تنميط سافر للشخصيات فالأشخاص الذين تحبهم الجوهرة يؤمن الراوي على جمالهم وتحضرهم وذكائهم والأشخاص الذين تكرههم يقدمون الراوي بصورة بغيضة ومحتقرة فمثلاً (الجوهرة سمراء) لا تستطيع العين أن تلتقط فيها أي عيب (وأدريان) صديقتها شجرة التفاح أو سيدة الفواكه ولابد أن تكون رائعة الجمال فائقة التحضر حاضرة النكتة عامرة بالتأمل والإيحاءات الثقافية. لكن زوجها طلال الذي لم يمنحها الحب يجب أن يكون بدينًا بل يجب أن يسمى بالفقمة الرمادية وأن تساورها بشأنه الكوابيس وزوجة أبيها سارة التي اقتحمت منزلها سول تلقب بقطة الحطب وسوف تسيء إلى نباته بل سوف تخونه مع عابر سبيل ومعلمة التدبير السحلية والطبيب الاستشاري أبو بطيخة وزوج (هند) مفتاح علبة الصلصلة والطبيب البدوي الذئب وذو الأظلاف والمخالب والطبيب اليهودي هو الضفدع الذي يبول على يدي البطلة و(عبيد) الذي يحيها مثل الكلب لأنه حيوان أليف ومطيع([71])…الخ.

وهذا ما جعل القارئ، لا يستطيع أن يستجلي بطريقة حرة آفاق هذه الشخصيات، حيث أن طبيعة تقديم الراوي لها جعل منها شخصيات منتهية، وغير نامية وغير قابلة للاكتشاف، وهذا التواطؤ ينم على عدم قدرة الكاتبة، على التمييز بين الراوي وبين الشخصية التي تتحدث بمونولوجها الخاص وعلى تداخل المونولوجين، رغم أنها تقدم الراوي على أنه يعكس ذلك ما جعل الراوي يتواطأ، ويتماهى مع شخصية البطلة، فالمعاكسات من قبل زوجة الأب تنهدات، وأصوات خفية وحينما تدخل حبيبها، فإنها تنكشف ويفتضح أمرها ويهدم بيتها، وتُطلِّق وتطرد أما (الجوهرة) فمكالماتها إِنَّما هي شراك ناعمة لجلب الزوج وعندما تستضف حبيبها البدوي في البيت وعبر بوابة زوجة الأب فإنها تحكي له قصة خيانة وإنما مغامرة حب عذرية. ومن هنا فإنه لا يستغرب أن تكون الأفكار في الرواية مؤدلجة وتقدم أفكارها، ومواضيعها على أنها غير قابلة للنقاش فيما يشبه خطابات وعظية انفتاحية فالنقاب في نظر البطلة يعد شرطًا عائليًا قسريًّا لتكون عفيفة. وغطاء الرأس يمثلها كراهية في كندا وجسدها يعد غرفة حبيسة لا تتعرف عليه إلا في (تورنتو) ورجال الهيئة هم شرطة الفضيلة، وعندما يقاس تطور المجتمع فإنه يجب أن يفتخر بتعلم أطفاله الموسيقى، ويجب على الرجل أن تتقدمه المرأة في المصعد وأن يفتح لها الباب كما تحرص في الجندرة المضادة إلى تصوير جميع الرجال بأنهم مغازلون محترفون يطاردون وراء هذه البطلة التي لا ترغب في أي منهم، ولا تبرير لذلك لدى الراوي ولا البطلة سوى هرمون التستسترون وزواج (أدريان) الكندية ناجح لأنها صادقت حبيبها قبل الزواج وأما زواج الجوهرة فهو فاشل لأنه اختارها عن طريقها أهلها ولأنه أخذها من سوق النساء إلى غير ذلك. من الأنماط الخطابية الوعظية، التي تنحصر في محاولة المرأة إلى تقدير الذات.

8- ذاكرة المتخيل السردي:

لاحظنا أن حركة السرد النسوي قد أعطت لنفسها كل هذه الحرية، فإنه من اللازم أن يتخلى السرد النسوي عن العقلية الصارمة، التي تجعل النص منغلقًا على نفسه فإن “المخيَّلة السردية تحل بكل طاقتها على الإيهام وبكل قدرتها على اختراق قوانين الوجود تحل محل العقل في كثير من مفاصل النص ليتمكن السرد من تقديم رؤياه المأمولة أو المنتظرة ومن ثم يكثر في النص الأحاديث النفسية وأحاديث المناجاة إذ لا تجد الذات الأنثوية غير نفسها لتحاورها مادامت لغة الحوار مع المحيط متوقعة”([72]). فالحديث عن العلاقة بين الواقع والمتخيل في الإبداع السردي النسائي هو حديث عن علاقة جدلية بين الواقع وما يحبل به من قضايا اجتماعية وتحولات ثقافية من جهة، وبين الإبداع باعتباره منتجًا متخيلاً لا يمكن أن يقوم إلا على قاعدة واقعية اجتماعية من جهة أخرى.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن المتخيل لا يكتفي بإعادة صياغة الأشياء أو ترتيب الصور والحكايات، لأنه بقدر ما يورط الذات الفردية في عملية إنتاجه، بقدر ما يتجاوزها ليلتقي باعتبارات ما يسميه “بول ريكور” بـ”المتخيل الاجتماعي”، وهناك تدخل لعبة التحرر والدمج أو الاختلاف والتطابق، سواء كان ذلك على صعيد الثقافة الوطنية أو على مستوى الأدب الكوني([73]).

فالمتخيل يمكن أن يعمل على تكريس الوضعية الاجتماعية القائمة أو على تجاوزها، ومن ثم فإن طبيعة تعامل المبدعة مع الواقع بكل أبعاده تؤثر بشكل أو بآخر في صياغة متخيلها الإبداعي، وبالتالي في درجة تميز هذا الأخير.

إذ لا شك في أن فعل التخيل يلعب دورًا جوهريًا في تكريس الواقع أو إعادة تشكيله من جديد، وقد نبه العديد من الدارسين إلى هذه المسألة، فـ”وليم جيمس” مثلاً يعرف فعل التخيل بكونه “القوة التي تستعيد نماذج أو صور الإحساسات كما كانت في الأصل، وهو ما يسميه بالتخيل المستعيد، والثانية مجمع عناصر متباينة من إحساسات مختلفة لتأليف مجموعات جديدة وهو ما يسميه بالتخيل المؤلف أو المبتكر”([74]).

والمتخيل، باعتباره نتاجًا ملموسًا لفعل التخيل “يمثل مستوى تعبيريًا يكشف تجليات الجسد وصيغ اللغة وأشياء الواقع، وهو بقدر ما يجمع بينها، أي بين الجسد واللغة والواقع، فإنه يفصل بينها، لأن المتخيل يتميز دومًا بالتوتر، سواء في اتجاه توظيف إرادة للقوة أو في أفق الانطلاق والتحرر..” ([75]). ذلك أن المتخيل يعد أداة سحرية يلجأ إليها الإنسان لتوسيع الهوة بين الشيء كمرجع، وبينه كحضور في بنية ثقافية ما، أي بين الشيء كما هو، وبينه في هذه البنية المنقول إليها عبر وسائط متباينة([76]).

في ضوء التعريفات السابقة يمكننا القول: إن ما تتخيله الروائية مثلاً، وإن كان مشروطًا بالتعامل مع معطيات الواقع، لا ينحصر في استعادة الصور الماضية، بل يقوم أيضًا بتأليف وابتكار أشياء جديدة.

الأمر الذي يجعل من الحديث عن علاقة الكتابة الروائية النسوية المتميزة بالواقع حديثًا عن محاولة لخرق ما تراكب في الذاكرة العربية من تصورات حول المرأة. ومن ثمة، فإن خصوصية الكتابة الإبداعية النسائية ترتبط أساسًا بالجانب التاريخي والوضع الاجتماعي، وبقدرة هذه الكتابة على محاورة قضية المرأة انطلاقًا من منظور مخالف للخطاب السياسي، أو الأيديولوجي، أي من منظور إبداعي خلاق.

فظاهرة ارتياد المرأة العربية لعوالم الكتابة الإبداعية السردية ضمن سياق الحقل الأدبي العام وصراعاته وتحولاته، هو ما أضفى على هذه التجربة طابع الخصوصية، وجعلها وسيطًا في صوغ أسئلة مختلفة. ومن أهم تلك الأسئلة التي تساهم كتابة المرأة العربية في صوغها، سؤال الذات الفردية، ووضعها الاعتباري داخل المجتمع العربي. ذلك أن الكتابة الإبداعية تقتضي التباعد عن الخطابات التعميمية ذات النبرة الجمعية التي تستهدف تأطير المجتمع ولحمه وإبراز السمات المشتركة التي تتيح التعايش لأفراده وتنظيم صراعاتهم([77]).

فليس عن طريق الشعارات والخطب السياسية والتمويهات والأيديولوجية تتشكل الرواية، أو تحقق أثرها في المتلقي، بل إن “الكتابة بمختلف أجناسها وأساليب تعبيرها تشكل مجالاً غنيًا للعمل التخيلي، وهو بصوره يمكن أن يخلق فرصة للحوار الثقافي أحيانًا، أكثر مما يمكن أن يوفره اهتمام عقلاني صارم، فالكتابة بوصفها تجليًا للمخزونات الواعية واللاواعية لجسد الكاتب، هي في مبدئها نداء متميز. كما أن النص المكتوب يمثل دعوة للقاء بين متخيل الكاتب والقارئ المفترض، الذي هو بدوره سيقرأ من منطلق متخيله الرمزي الخاص”([78]). وبقدر ما يعرب القارئ عن تفاعله الإيجابي مع النص، بقدر ما يتم تجاوز نقائص الواقع وتكريس السلطة الثقافية للإبداع على مستوى القراءة أيضًا.

المتخيل، باعتباره نتاجًا ملموسًا لفعل التخيل “يمثل مستوى تعبيريًا يكشف تجليات الجسد وصيغ اللغة وأشياء الواقع، وهو بقدر ما يجمع بينها، أي بين الجسد واللغة والواقع، فإنه يفصل بينها؛ لأن المتخيل يتميز دومًا بالتوتر، سواء في اتجاه توظيف إرادة للقوة أو في أفق الانطلاق والتحرر..”.

إن التخيل بما هو فعل اكتشاف وتجاوز لحدود الآن والهنا، يمنح للروائية إمكانيات لا حصر لها لبلورة متخيلها الإبداعي، واستعادة توازناتها المهددة باختلال العلاقات الاجتماعية النمطية، التي تحول دون السماح للمرأة بالتعبير عن رغباتها أو الاختيار الحر لمصيرها، وذلك نتيجة للتأثير الكبير الذي تمارسه البنى الثقافية والاجتماعية، التي كانت تجعل من المرأة سلعة خاضعة لمواضعات السوق العائلي والأعراف التي حددت التعامل مع المرأة في قوالب ومسارات نمطية متوارثة. زيادة على ذلك، فإن عمق الرؤية الاجتماعية والثقافية على مستوى الكتابة السردية عمومًا، والنسائية منها على وجه الخصوص، يظل رهينًا بمدى صقل موهبة المبدعة بالدراسة والبحث، وأيضًا بمدى وعيها، وبمستواها التعليمي والثقافي. ولعل هذا ما دفع الناقدة رشيدة بن مسعود إلى الحث على ضرورة الرفع من جودة تعليم المرأة لأن الإبداع – في رأيها – يرتبط “بالواقع التعليمي الذي يمثل أهم الشروط التي تساهم في بلورة الوعي الثقافي الذي تعتبر الكتابة الإبداعية أسمى صوره”([79]).

كما يذهب الناقد حميد لحمداني إلى القول إن قضية الكتابة النسائية تفترض التركيز على “الفئة النسائية المثقفة التي تعاني مثل غيرها من الشرائح النسائية من سلطة المجتمع ذات الطابع الذكوري. ولكنها تواجهها بوعي خاص أحيانًا، متوسلة بالكتابة كأداة لإثبات هوية الذات وتميزها”([80]).

وكلما انصهر الإبداع الروائي بالتجربة الذاتية للمرأة المبدعة بكل إحباطاتها، وأيضًا بكل إنسانيتها التي تستلزم من الكاتبة محاكمة واعية للعلاقات القائمة بين الرجل والمرأة، إلا وكانت رؤيتها الفنية للوجود أعمق. ذلك أن البوح الإبداعي بأسرار الأنا الأنثوية لا ينحصر في العاطفة والجسد، ولا يمكن أن يتم في معزل عن كشف مواز لمختلف تمظهراته في علاقتها بالآخر، مما يساعد على انعتاق الذات الكاتبة والمتلقية على حد سواء، ليجعل الإبداع حرية وانطلاقًا نحو عوالم تخترقها الذات المبدعة لتمرر عبرها منظوماتها القيمية والجمالية.

ففي جميع آداب الأمم المحدثة، وجد روائي (أو روائية) اتخذ من العلاقات بين الجنسين والموقف من المرأة معيارًا وقاعدة لتربية الإنسان الجديد، كما أنه في البلدان المتخلفة لا تعد مثل هذه الرواية تربوية فحسب، بل نهضوية أيضًا. إذ في هذه البلدان، التي إليها انتماؤنا، يمثل تخلف المرأة وتخلف الموقف من المرأة معلومًا أساسيًا وعلة أساسية في آن معًا لواقعة التخلف. وكل إشكالية نهضوية لا تجعل من المرأة ومن الموقف منها محورًا من محاورها تبقى إشكالية ناقصة وعاجزة([81]).

ظاهرة ارتياد المرأة العربية لعوالم الكتابة الإبداعية السردية ضمن سياق الحقل الأدبي العام وصراعاته وتحولاته، هو ما أضفى على هذه التجربة طابع الخصوصية، وجعلها وسيطًا في صوغ أسئلة مختلفة. ومن أهم تلك الأسئلة التي تساهم كتابة المرأة العربية في صوغها، سؤال الذات الفردية، ووضعها الاعتباري داخل المجتمع العربي.

ويظل الرهان قائمًا على المرأة المبدعة، قصد الكشف الفني عن الأوضاع المأساوية للمرأة عمومًا، وتصور البديل المحتمل والمرغوب فيه على مستوى خدمة قضايا المرأة. والكتابة بهذا المفهوم، لا تفجر المسكوت عنه وتدفع بالمتلقي إلى التفاعل الإيجابي مع صدق التجربة الفنية للمبدعة فقط، بل وتعمل أيضًا على تجاوز الصورتين الفنيتين النمطيتين للمرأة/ الشيطان، والمرأة/ الملاك، اللتين دأب الأدب الذكوري المتطرف على حصر المرأة في إطارهما.

وإذا انطلقنا من الرأي القائل بأن قضية المرأة في مجتمعنا العربي، لا تنحصر في كونها قضية جنسية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية فحسب، وإنما هي قضية اجتماعية اقتصادية سياسية جنسية([82])، فإن محاولة الدفع بها عبر الكتابة الروائية – باعتبار هذه الأخيرة إسهامًا إبداعيًا في مشروع التحرر والتجاوز – يتطلب من المبدعة عدم التركيز على جانب وإهمال آخر لكي تنفتح قضيتها على مجمل القضايا التي يحبل بها المجتمع، كما أن الكاتبة لا ينبغي أن تظل عند حدود الرضا باستدعاء قضيتها أو قضايا المجتمع.. دون أن يكون ذلك مرتبطًا بحس إبداعي وجمالي عميق، وببحث فعلي في الكتابة ذاتها تنظيرًا، وإبداعًا، ونقدًا، حتى تتمكن من إظهار القيم الفكرية والفنية للرواية النسائية، وكذا إضافة نماذج إبداعية نسائية متميزة إلى رصيد الرواية العربية بغض النظر عن مدى حضور التمايزات الجنسية في الإبداع الروائي النسائي، لأن هذه الأخيرة بدورها، تظل عالقة ومتفاعلة مع باقي مكونات شخصية المرأة المبدعة باعتبارها كلاً لا يتجزأ.

ذلك أن احترام المبدعة لآليات اشتغال المتخيل السردي عمومًا، وانفتاح محكيها الروائي النسائي على مجموعة من القضايا والمواضيع التي كانت لفترات طويلة تقتصر على الرجل، يمكنها من جعل إبداعها دليل حياة ووجود، وحقيقة كينونة، مادام هذا الأخير يتيح عبر التخييل والأساليب الفنية والرؤى الجمالية الاكتشاف المتجدد للذات وللآخرين وللعالم.

أما الأعمال التي ظهرت فيها سمات التوجه إلى ذاكرة المتخيل السردي، فإن ذلك يشمل عددًا قليلاً من الروايات، وآخر من القصص القصيرة، وخاصة مع بدايات المرأة السعودية في كتابة الرواية مثل روايات سميرة خاشقجي، ورواية “غدًا سيكون الخميس” لهدى الرشيد، ورواية “البراءة المفقودة” لهند باغفار، ورواية “غدًا أنسى” لأمل شطا، ورواية “عفوًا يا آدم” لصفية عنبر، بالإضافة إلى روايات نادرة اتجهت هذا الاتجاه العاطفي، وخاصة في مرحلة التسعينيات مثل روايات قماشة العليان، وسنأخذ مثالين لهذا التوجه بالتفصيل، وهما رواية “بريق عينيك” لسميرة خاشقجي، ورواية “غدًا أنسى” لأمل شطا. وتدور أحداث رواية “بريق عينيك” في إطار رومانتيكي متخيل موضوعه الرئيسي الحب الذي يجمع بين البطلة شروق وشخصيتين رئيسيتين تتنازعان فلبها بدءًا بالعشيق (الأسباني كارملو)، ثم الحبيب الغادر وليد، وانتهاء بالحبيب الأول (كارملو) الذي أصبح يدعى حازم بعد مصادمات عجيبة مرت به، أولها تعرف البطلة عليه أثناء استراحة الطائرة في أسبانيا، وبحكم عملها مضيفة وإجادتها اللغة الإنجليزية والفرنسية؛ تتطور العلاقة بينها وبين هذا الشاب الأسباني في (كالب) إحدى المدن الأسبانية أثناء تبادله مشاعر الحب التي تكتشفها البطلة من بريق عينيه، لينساق هو أيضًا وراء بريق عينيها، ثم تختفي هذه العلاقة بمجرد عودتها إلى موطنها “لبنان”. ثم تذهب شروق في رحلة إلى “روما” وعلى متن هذه الرحلة تتعرف على كابتن الطائرة وليد وتبدأ علاقة الانجذاب المتبادل بينهما؛ لتكتشف – فيما بعد – أنه متزوج من ابنة عمته راجية ولديه منها ولدان، ومع ذلك لا تغير قرا رها في ا لزواج منه استجابة لعواطفها الرومانسية. وعندما تفاجأ باهتمامه بأولاده وزوجته السابقة تهدأ جذوة الحب المشتعلة بينهما، فتقرر شروق العودة إلى عملها مضيفة في الطيران بعد أن حرمها زوجها وليد منها عدة شهور، رغبة في تملكها حسب تحليل الساردة. ويحسم علاقة شروق بزوجها (وليد) إجهاضها للجنين إثر حادث سيارة، فتقطع كل ما يمت بها من صلة بـ وليد. وأثناء إحدى الرحلات الجوية تُفاجأ شروق بوجود حبيبها الأول كارملو على متنها، لتكتمل سلسلة المصادفات باكتشاف هذا الحبيب أصوله العربية؛ فهو من أب لبناني اتصل بأمه الأسبانية في إحدى زياراته لمدريد، فيقرر كارملو الاستقرار في لبنان، وتغيير اسمه إلى حازم لتحل الساردة بذلك عقدة الحدث، وهي أزمة البطلة (شروق) المتمثلة في صعوبة ارتباط فتاة عربية برجل أجنبي طبقًا للبنى الاجتماعية والدينية، فتنفرج العقدة الرئيسية الثانية عندما تصر شروق على طلاقها من زوجها السابق، فتتزوج بعد ذلك من عشيقها المهجن (كارملو/ حازم).

ثم يعتقد المخاطب أن نهاية الرواية وقفت عند تلك السعادة التي تحققت للحبيبين؛ لكن تحصل المفاجأة الأخيرة في أن الساردة هدفها الرئيسي إثارة انفعالات المسرود له، كذلك فإن نهاية الرواية لابد أن تكون مأساوية لتحقق التوجه الرومانتيكي عند الكاتبة، وهذه النهاية تكون بموت (كارملو/ حازم) منبع الحب الحقيقي والشاعرية عند البطلة شروق. وتكتمل حدة المأساة بأن تختار الطبيعة (البحر) وسيلة لموته، بعد أن كان وسيلة تعرف بعضها على بعض، وسبب إشعال جذوة الحب في قلبيهما، وكأن هذا البحر الذي أعطاها أجمل اللحظات مع الحبيب ستعيدها مرة أخرى ليغرق شروق في التعاسة؛ بعد أن أغرقها في الأحلام والأماني السعيدة، فأثناء ر حلة السعادة التي يقوم بها كارملو/ حازم يغرق في البحر وتغرق معه كل أحلام وشروق بالسعادة.

أما الأحداث الثانوية، فكانت في مجملها تدور حول فلسفة الحب عند الكاتبة؛ تأتي حديثًا استطراديًا على لسان شخصياتها؛ حوارات طويلة تقطع تطور الحدث الرئيسي، وكأن استمرار اشتعال عاطفة الحب بين جنسين هي الشغل الشاغل لمجتمع شخصيات المؤلفة، سواء أكانوا رجالاً أم نساء، قد يكون الحدث الثانوي وصفًا لهذه العلاقة بضرب أمثلة من مجتمع الرواية الثانوي، أي من خلال الشخصيات الثانوية، فتضمن الرواية حكايات ثانوية، مثل حكايات الحب بين هشام ومها صديقة البطلة شروق وزميلتهما في العمل مضيفة في الطيران، وتنتهي هذه العلاقة أيضًا بنهاية مأساوية وهي موت مها أثناء سقوط الطائرة بها. ويدعم اتجاه سميرة خاشقجي للرومانتيكية أبيات رومانسية تضمنها مع بداية كل مشهد مثل:

  غرة الصبح لوّحتْ في ضلوعي           **       ثـم شـبّت إهابـــة في ربيع

  لا ضياعًا، بريق عينيه، مأوى              **       يا دروبي، ومحخبس يا دموعي”([83])

من هنا يتحقق الشعور الرومانسي للبطلة بتعرفها على الشاب الأسباني “كارلو” تنشد في عينيه السعادة وتحقيق أحلامها. ويشطح بها الخيال إلى إحساسها ببريق خاص لهاتين العينين مما يجعل البطلة تستشرف حياة رومانسية في كنف هذا الفارس الأسباني. وهذا ما ذهب إليه الرومانتيكيون “في اعتقادهم أن العاطفة الصادقة في الحب هي السعادة، ولا سبيل إلى نشدان هذه السعادة في الاختلاط بالناس، بل في الخلوة الهنيئة مع الحبيب”([84]).

تقول الساردة واصفة مشاعر (البطلة/ شروق) تجاه العشيق الأسباني في أول لقاء لهما، وكأنها تصف الحب من أول نظرة عند الرومانتيكيين في  الذاكرة المتخيلة “وقفت تنظر في إعجاب إلى الصخرة الكبيرة، التي يسمونها “أفاش” ارتفاعها حوالي 300 قدم. وبينما كانت تجيل الطرف بهذه البقعة.. اقترب منها شاب وهمس لها ببعض الكلمات بلغته الأسبانية.. لم تفهم شروق ما قاله وإنما نظرت إليه، وجمدت عيناها لحظة.. وارتبكت ثم عادت ورفعت أهدابها إليه واختلطت نظراتها بنظراته… ولم تستطع أن تحول نظرها عن عينيه اللتين انبعث منهما بريق حاد…

وشعرت بشيء يجذبها للتطلع إلى عينيه… شيء كالمغناطيس”([85]). “ولا يختلي الرومانتيكيون بالطبيعة ليفكروا ويستخلصوا الحجج أو يحلو مشكلات، كلا! ولكن ليحلموا ويستسلموا لمشاعرهم”([86]). فالهروب إلى الطبيعة وتأملها يبعث الخيال اللامحدود عبر مسارها، ويحرك مشاعر البطلة نحو استنطاق ذكريات الحب عبر وسائل تكتبها إغراقًا في المثول لهذه العاطفة؛ “لم يزل الطير الصغير ينعم بهدأة الليل.. والشجر الباسق بفروعه، يساير الريح، وبأوراقه يحف مع النسيم، كل خلد إلى السكينة والاطمئنان، ومع ذلك فقد آثرت شروق أن تحيا مع سكون الليل من أن تعيش جلبة النهار….

فلم تنم ووقفت في نشوة الحب بقوامها الممشوق تتنشق النسيم العليل في الشرفة المطلة على البحر… بحر اللقاء والذكرى، فيتماثل طيف حازم أمامها وتصدح كلماته متناهية إلى مسامعها من بعيد إلى قريب.. فيرتد الصدى من شغاف قلبها، وتخاف أن تفلت من ذاكرتها ومضة عبرت، فترى أن تخلد دقائق ذلك اللقاء وذراته على الأسطر، كما خلدته في نفسها فتمسك القلم بين أناملها الرقيقة وتسرح في الخيال.

وأطلت العينان البراقتان… فطفرت دمعة حنون من عينيها.. وأخذت تكتب ما يمور به الصدر.

“حازم…

“يا حبيبي أنت فوق الخيال..، والواقع، فوق النهي… وفوق الحدود…” ([87]). وعندما خطر للساردة جذب فارسها إلى موطنها وصفت له أولاً الطبيعة وجمالها، وكأن هذه الطبيعة المتحكم الأول في علاقتهما، فإما أن تكون سببًا في سعادتهما أو تعاستهما، بل يصبح التأثير أكبر وأخطر عندما يتعرفان على جمال البحر، وتشارك “شروق” الفتى الأسباني الصيد في أمواجه في أول لقاء لهما؛ ليكون أحد أماكن سعادتهما يصبح في آخر هذه الرواية مصدر تعاستهما، عندما تهيج الريح وتجرف السفينة ومعها فارس أحلام البطلة، لتعيش بعد ذلك حياة العزلة مع ذكريات الحبيب الراحل، وتكون عينا ابنها وبريقهما الذي يشبه بريق عيني والده المعين لهما فما تبقى من حياة خالية من الرومانسية.

وتأتي بعد سميرة خاشقجي روائيات سرن على المنوال نفسه من حيث التوجه والتوظيف الفني للشخصيات (1) حتى نصل إلى عام 1980م.

فنفاجأ برواية “غدًا أنسى” لأمل شطا باختلافها عما سبقها من روايات نسائية، سواء من حيث السلامة في الأسلوب، أو من حيث القدرة على توظيف التقنية الخاصة ببنية الرواية. وهي بذلك تشبه روايات الرواد السعوديين للرواية الفنية وهم حامد دمنهوري وإبراهيم الناصر، مع أن هذا النضج الفني جاء متأخرًا عند المرأة السعودية، إذ يفصل بين ظهور أول رواية فنية سعودية وهي “ثمن التضحية” لحامد دمنهوري (1958)، وأول رواية فنية للمرأة السعودية – فيما أعتقد – وهي رواية “غدًا أنسى” لأمل شطا (1980م) ما يقارب (22) عامًا، والفرق الواضح بينهما هو نوعية الخطاب الأدبي أو الاتجاه الفني، أما الرواية الأولى للمرأة السعودية، فيغلب عليها الخطاب الرومانتيكي مع وجود النزعة الواقعية. فمن افتتاحية العنوان يلحظ المتفحص له سمات النزعة الرومانتيكية من قبل أن يلج متن الرواية فـ”لا يقر خيال الرومانتيكي على قرار. فهو متجاوز حاضره إِلى مستقبل زمني آجل..” ([88]). فالزمن النفسي يلعب دورًا كبيرًا في شخصيات هذا الاتجاه الرومانتيكي، لأنها تحاول الهرب من زمنها الحاضر عندما تواجه مشكلة، وتلجأ إلى الخيال اللامحدود؛ إما بالعودة إلى الماضي أو استشراف المستقبل؛ فالماضي هو مصدر انفعالات الشخصية الرومانتيكية، وعندما تهرب منه فهي – في الحقيقة السردية – تعود إليه في كل مرة تعتقد أنها تبتعد عنه. فمن مطلع الرواية تظهر شخصية بائسة تشعر أنها قادمة من مجتمع فكتور هوجو ” البؤساء”، بالرغم من أن هذا الوصف المأساوي جاء في بادئ الأمر عن طريق غير مباشر، أي ليس من الساردة نفسها، وإنما عن طريق تقنية الحوار: “هناك امرأة بالباب تريد الدخول لمقابلتك يا سيدتي.

– وما الغريب في الأمر… هل هي المرة الأولى؟ دعيها تدخل.

– أمرك يا سيدتي… ولكن مظهرها غريب، ظننتها في بادئ الأمر، جاءت تطلب إحسانًا، ولكنها أصرت على مقابلة مديرة المدرسة، وتدعى أنها أم لإحدى الطالبات ولكنني…” ([89]).

والحوار من التقنيات التي تجعل المخاطب ينفعل مع الشخصيات ويتخيل أنه يعيش حاضرها في الواقع؛ لأن زمن الحكي وزمن الخطاب يتساويان عند استخدام هذه التقنية، وعندما تفتتح الكاتبة روايتها باستخدام الحوار، فينبغي ذلك أولاً إثارة عواطف المتلقي وجذب اهتمامه وفضوله لسماع ما يدور بين الشخصيات. وهذه العناية موجودة عند الرومانتيكيين بشكل عام؛ لأنهم يحرصون على إذكاء العواطف، وإثارة حماسة المخاطبين.

وتختار  الساردة بطلتها من البيئة الريفية، لتؤكد على هذه النزعة الرومانتيكية، ولعل “حب الطبيعة هو الذي جعل بعض الرومانتيكيين يشيدون بالريف وأهله، ويختارون أبطالهم من بين الفلاحين الذين كانوا في الأدب الكلاسيكي محقورين، لا يتحدث عادة إليهم ولا عنهم”([90]).

ومن باب المصادفة التي تعودنا عليها في هذا النوع من الروايات الرومانتيكية تعرف البطلة الحارسة على موقع مدرسة ابنتها، وتجثو باكية عند أقدام المديرة لتمكنها من رؤية ابنتها التي لم ترها منذ خمسة عشر عامًا، وفي اليوم التالي تسنح لهذه البطلة الجاوية فرصة مقابلة ابنتها ثم تحاول كسب عطف المتلقي بفعل آخر غير الجثو عند أقدام المديرة وهو وقوعها مغمى عليها وكي تصدق ابنتها أنها والدتها، ثم لا تلبث إلا أن صدقتها بسبب وجه الشبه وانفعالها الذي أدى دوره أيضًا في كسب عطف المسرود له؛ لينصت إلى هذه الأم بقلب منفطر. ثم تبدأ هذه الأم بسرد حكايتها انطلاقًا من الحاضر وعودة إلى الماضي، لتسترجع أحزانها وقسوة الأيام عليها. وهذا ما دأب عليه الرومانتيكيون في استنطاق أرواحهم والعودة إلى ماضيهم المؤثر، وخاصة فيما يتعلق بعاطفة الحب، فوالد هذه الأم الجاوية أحب امرأة هندية تدعى برفين ودفع لها مهرًا إحدى سفنه، ثم أنجب منها هذه (الأم/ البطلة) لنكشف أن اسمها “فاطمة” أما المتعارف عليه في مناداتها فهو تيما، وتعيش هذه الطفلة في عذاب وفقر مدقع بعد أن خدع ألنتو والدها، وقد كان بمثابة ساعده الأيمن، فاستولى على المقهى ومنزل والد تيما بعد إدمانه الخمر، بسبب  ألنتو الذي أوهمه في البدء أن هذا الخمر ليس إلا مخدرًا للألم الذي أصابه إثر حادث الحصان، وهو ما كان مدبرًا في الأصل من صديقه ألنتو، لينتقم من والدة تيما بعد رفضها ميله إليها.

ثم تتوالى الأحزان على تيما بموت أمها أولاً وهي مازالت طفلة، ثم عملها في مقهى ألنتو لتعول جدتها، وتسدد شيئًا من دين والدها، ثم تكبر ليكبر مصابها بزواجها من الرجل المكي السيد عبد المجيد الذي يكتفي بالعيش معها فترة إقامته في إندونيسيا، وعندما قرر العودة إلى بلاده انتزع منها ابنته ذات الثلاثة الأعوام، ثم تقرر تيما بعد هذا الحادث العمل سنوات حتى تذهب لرؤية ابنتها، ثم تتذكر جدتها التي يثنيها حبها لها عن رؤية فلذة كبدها خاصة بعد وفاة والدها الذي تكفل بوعد منه بالاعتناء بجدتها، وتبقى تيما مع جدتها حتى تواريها التراب بيديها بعد أن وعدت جدتها وهي تلفظ أنفاسها بأن لا تشبّع جنازتها، لأن المصادقة شاءت أن يوافق موتها موعد رحلة (تيما/ البطلة) إلى مكة، وينتهي الزمن المسترجع من الماضي عند هذه اللحظة.

ولا يمثل الزمن الحاضر سوى فواصل بين بعض المشاهد، أو تلميحات سريعة باستثناء الحدث الثانوي المتعلق بشخصية المدير نوال، ومع ذلك فهو أيضًا لم يكن يخلو من الاسترجاعات الماضية التي تعلل الأحاسيس المرهفة لهذه الشخصية، ومحاولة الهروب إلى العزلة. تقول الساردة “كانت تقف إلى نافذة بجوار مكتبها، تحملق باهتمام إلى منزل متهدم مهجور. لم يكن هناك شيء يستحق النظر إليه على الإطلاق، لم يكن هناك سوى أكوام من القمامة والحجارة والأخشاب، ولكنها بدت من شدة اهتمامها وكأنها باحثة تتطلع من خلال المجهر، أو أنها تراقب فيلمًا سينمائيًا مثيرًا، ولكن من يعرف الحقيقة يعجب لها! كانت لا تمل من وقفتها كلما سنحت له الفرصة تراقب الفئران المتناثرة هنا وهناك، تعدها وتحصيها، وتلاحظ حركاتها وجحورها. وبين حين وآخر كانت ترمي إليها بقطع صغيرة من الجبن، تتكاثر عليها الفئران”([91]). وعندما تجد الشخصية الرومانتيكية من يحبها فإنها تتغير مع كل خفقة من خفقات قلبها، فشخصية نوال التي بدت قاسية أو جامدة كجمود الأشياء التي تلجأ إليها في عزلتها، تصبح لينة وشاعرية مثل جمال وشاعرية فارس أحلامها: “وماذا حدث يا نوال… وكيف تغيرت وتغيرت حياتك إلى هذه الدرجة، أكل هذا من أجله…”!.

وأخرجت صورة صغيرة من حقيبة يدها، وابتسمت في رقة وهي تنظر إليها، وأخذت تتأملها في حب.

يا لهذا الحبيب… هدية السماء…. أرسله الله إلى لينقذني ويبعث الحياة من جديد في صحراء نفسي القاحلة.

سنوات طويلة مضت، كانت تعيش خلالها كتمثال جامد لا حياة فيه…” ([92]). وقد استطاعت الكاتبة أن تجعل المسرود مشدودًا لخطابها السردي في هذه الرواية، بالرغم من الانتقادات الموجهة إليها في المبالغة بوصف البيئة الجاوية، والإجحاف في وصف البيئة المكاوية، لكن غلبة هذا الاتجاه الرومانتيكي قد يغفر للساردة ولعها واهتمامها بتفاصيل البيئة الأجنبية، فالهروب إلى الطبيعة بين الحين والآخر، وهو ما تهيئه جزيرة جاوة للساردة، وسهولة التقاء الجنسين يعد بيئة خصبة لتبني هذا الاتجاه الرومانتيكي، وإن كان عن غير قصد من الكاتبة، إلا أنه يكشف تأثرها بما كان سائدًا في الساحة العربية آنذاك، وخاصة في كتابات المنفلوطي والرافعي، ولا ينفي ذلك وجود نزعة واقعية في هذه الرواية والتي كانت بداية لتبني الكاتبة هذا الاتجاه في جميع ما جاء من روايات بعدها([93]). وتتجسد الواقعية في تسجيل الساردة ما ترى أنه حصل فعلاً، كما تقول المؤلفة في مقدمة روايتها: “إن هذه الصفحات تضم بعضًا من نفسي، وبعضًا من مشاعري وأحاسيسي؛ فوالله ما كتبتها طمعًا في نصر أدبي أو كسب مادي، وإنما أردت بهذه السطور أن أنفس عما يجيش بداخلي، وأن أتحدث عن شخصيات أصبحت عزيزة وقريبة إلى نفسي لطول معايشتي لها، لدرجة أنني كدت أشك أنها رواية حقيقية وأنني أعرف أبطالها، وأنهم يعيشون بيننا بالفعل”([94]).

وقد كان الرومانتيكي يصف ما يراه من حوله “ويرسم صورة للمجتمع من حوله الذي يعيش فيه، ويعبر عن شعور هذا المجتمع وماله. وبهذا الاتجاه مهد الرومانتيكيون للواقعية فيما بعد.

وعند إجراء موازنة سريعة بين رواية “غدًا أنسى” والرواية السابقة “بريق عينيك” مع الأخذ في الاعتبار الفارق الزمني بينهما، فإنه يتراءى لنا أن أوجه الشبه بينهما ترتكز في تصوير الطبيعة والهروب إليها مع مخاطبتها، عدا استخدام اللغة الانفعالية التي تصل أحيانًا إلى الخمطابية التي يضيق بها الواقعي ذرعًا، وإن كان ذلك أظهر في روايات سميرة خاشقجي.

أما أوجه الاختلاف، فأبرزها أن روايات سميرة خاشقجي وخاصة “بريق عينيك” تجعل الرومانتيكية إطارًا لجميع أحداثها، أما رواية “غدًا أنسى” لأمل شطا، فتجمع إلى جانب هذا الاتجاه النزعة الواقعية، وخاصة الواقعية التسجيلية.

ومن الاختلافات في التوظيف الرومانتيكي أيضًا أن روايات سميرة خاشقي تركز على عاطفة الحب بين الجنسين، أما الثانية “غدًا أنسى” فتتنوع في مصادر هذه العاطفة ومظاهرها، فهي مرة بين جنسين، ومرة بين الأم وابنتها وهي العاطفة الرئيسة عند الساردة، ومرة أخرى بين الجدة والحفيدة ومرة بين الأب وابنته، في صور الشفقة والرحمة والعطف.

كما أن روايات سميرة خاشقجي تشبه إلى حد كبير “فيلمًا سينمائيًا” أي أن حدود البنية الروائية غير واضحة، وخاصة البناء الهرمي واعتمادها الكبير على مفاجآت غير مسوغة.

ومع ذلك فلابد أن يضع المتلقي في الاعتبار الزمن الذي يفصل بين رواية “بريق عينيك”، ورواية “غدًا أنسى” وهو ما يقارب عشرين عامًا.

وقد جاءت رواية “غدًا أنسى” متماسكة البنية وتضم خطابات متنوعة ما بين رومانتيكي واجتماعي ينطلق من الواقع، ويهتم بالتفاصيل الدقيقة، وإن كان مما أخذ عليها اهتمامها بما لا يخدم الأحداث الرئيسية في الرواية وهي كثرة الأسماء الإندونيسية بغض النظر عن أهميتها([95])؛ حتى الشخصيات المسطحة تضع لها الساردة أسماء مثل “دكنهو – برفين….الخ”. وقد يرجع ذلك إلى رغبة الكاتبة في تسجيل الواقع الذي اعتقدت أنه لا يتم إلا بتسجيل كل الأسماء التي مرت بالبطلة ولو مرورًا عابرًا وبالمقابل لم تعط الكاتبة البيئة المكية هذا الاهتمام.

ومع ذلك فإن هذه الرواية “غدًا أنسى” تدل على نضج فني مبكر عند كاتبتها وإن جاء متأخرًا عن أول رواية فنية للرجل “ثمن التضحية” لحامد دمنهوري 1958م، وكانت المسافة بينهما طويلة تمتد إلى ما يقارب عشرين عامًا، وهذه المدة نفسها تساوي تقريبًا الزمن الذي يفصل بين الإرهاصات الأولى للرواية السعودية المتمثلة في “التوأمان” لعبد القدوس الأ،صاري 1930م وأول رواية سعودية فنية “ثمن التضحية” لحامد دمنهوري 1959م.

وبذلك ساد الاتجاه الرومانتيكي المتخيل في بواكير الإنتاج النسوي، وخاصة روايات سميرة خاشقجي التي صنعت أحداثها وشخصياتها تحت السيطرة الكاملة لهذا الاتجاه؛ حتى سميت رائدة الرواية العاطفية. ثم جاءت رواية “غدًا أنسى” تصطبغ بالرومانتيكية المتخيلة باهتمامها بالمرأة القادمة من الريف؛ وهذه الشخصية الرومانتيكية التي تعاني أقسى أنواع الألم العاطفي مما يثير انفعال المسرود له، ويجعله مشدودًا وباكيًا في اللحظة نفسها آلام هذه الشخصية “تيما” التي تذكرنا بآلام فرتر الرومانتيكية. لكن رومانتيكية “غدًا أنسى” لم تسيطر سيطرة كلية على شخصياتها وأحداثها، كما هو الحال في البدايات الأولى للمرأة في كتابة الرواية عند سميرة خاشقجي ومن جاء بعدها، وإنما تطل الواقعية التسجيلية بين الحين والآخر لتهيئ الروائية نفسها لتبني الاتجاه الواقعي فيما بعد في كل ما ألفته من روايات تالية([96])، ولا يعني ذلك التطور في الاتجاه تطور الكاتب في أدواته الفنية؛ فأمل شطا في رواياتها اللاحقة أقل جاذبية عند المتلقي، مما يعني – فيما أظن – أنها أقدر على الكتابة بقلم رومانتيكي، وقد يرجع السبب إلى مقدرتها على استشفاف شخصية المرأة والبراعة في نقل أحاسيسها العاطفية للمتلقي، وإن كان من الممكن أن يتحقق ذلك تحت سيطرة الاتجاه الواقعي، إلا أن الرومانتيكيين كانوا أبرع في مخاطبة القلوب.

ولا يعني ما ذُكر سابقًا، أَنَّ الرجل السعودي لم يستطع تبني هذا الاتجاه في رواياته، وإنما ظهر ذلك بصورة أقل في حين كانت الغلبة فيها للاتجاه الواقعي؛ باستثناء بعض الأعمال الأدبية، مثل بعض قصص عصام خوقير، وأبرزها رواية “السنيورة” بالإضافة إلى رواية “الغصن اليتيم” لناصر الجاسم.

8- السرد للأنثى الساردة:

يطرح السرد النسائي العربي إشكاليات عديدة على الدارس الناقد، أولاً، لأنه ميدان جديد لم يتم فيه بعد تحقيق التراكم الكمي حتى يحصل التراكم النوعي الذي من خلاله يمكن الوقوف على “جماليات السرد النسائي”. ثانيا، لأنه يعلن عند دراسته وبحثه عن اختلاف في الرؤى التي يصدر عنها. ثالثًا، لأن الكتابة النسائية تطرح من خلال خصائصها النوعية والجمالية إشكالية فرعية تتمثل في السؤال التالي: هل يمكن أن تكون كتابة الرجل كتابة نسائية إذا ما اعتمدت على الخصائص الجمالية والأساليب والتقنيات الكتابية التي تتجلى في الاصطلاحات التالية؛ البحث في الذات، البعد التراجيدي، الاعتراف والبوح، الحاجة إلى الاعتناق والتحرر، والتدفق السردي، والتركيز على اليومي، وعلى الأشياء الدقيقة في الحياة، وعلى شدة الملاحظة…؟

فمن الممكن أن نطلق على السرد النسوي تسمية مجازية تناسب وظيفته المستهدفة من معظم الكاتبات السعوديات وهي السرد (الشبكي) الذي يعتمد على نسج خيوطه الناعمة الأنثوية والخادعة حول الذكر ليمتص منه كل الرحيق ثم ينتهي بها الأمر بالخلاص من سلطته التي تحاصر الأنثى زمنًا طويلاً فقد آن الأوان أن تمتلك هي السلطة.

“لقد أصبح الخلاص من الذكر ظاهرة لافتة في السرد النسوي وهو فعل مشابه لفعل أنثى العنكبوت التي تقتل ذكرها بعد أن تنتهي مهمته من تلقيحها لكن أنثى السرد تقوم بالخلاص من ذكرها تدريجيًا فتسعى أولاً لتهميش دوره الفعال ثم تستحوذ على بعض سلطاته ثم تقوم بتشويهه داخليًا وخارجيًا وربما عمدت إلى إلحاق العجز به (جسديًا وعقليًا) فإن لم ينفع ما سبق في الخلاص منه سعت إلى تمويته لتنفرد هي بأفعالها وسلطاتها وتعوض ما فاتها خلال رحلة التهميش الطويلة التي عانت منها”([97]).

فالكتابة السردية للروائية السعودية بأغلبها كان في مواجهة سلطة المجتمع والأب والزوج عند جل الكاتبات السعوديات في (بيت الطاعة) لمنيرة السبيعي، (وعيون قذرة) قماشة العليان (وسعوديات) كسارة العليوي و(محور الشر). لنبيلة محجوب و(البحريات) لأميمة الخميس و(هند والعسكر) لبدرية البشر، (4- صفر) لرجاء عالم. و(بنات الرياض) لرجاء الصانع. وهذا النمط من السرد النسوي يضع أمامه مسألة المرأة الأساس وهي الحاجة إلى التحرر والانعتاق – انعتاق الذات وبحثها عن إمكانيات التحقق الفعلي والإسهام في البناء والخروج من منطقة الظل وذلك بالتصدي ولو بالاحتجاج الداخلي والتعبير السردي الأدبي لسلط المنع والحجر المتمثلة في المجتمع والأب والزوج (الواقع/ الرجل).

نكشتُ شعري، ولطخت شفتي بالأحمر الصارخ، وإلى جانبي صحن من رقائق البطاطس المرشوشة بالليمون والشطة، كل شيء جاهز للفضيحة الأولى([98]).

ووصفها هذا يدل على استعدادها للمواجهة بكل حدتها، واختارت قصيدة لنزار قباني، يصف فيها واقع الفتاة العربية الحزين، لتكون مدخلها إلى حكاياتها عن صديقاتها اللاتي وصفتهن بأن كلاً منهن تعيش حاليًا تحت ظل “راجل” أو “حيطة” أو “راجل حيطة”.. لتزيح الستار العميق الذي يختفي خلفه عالم الفتيات المثير في الرياض اللافت أن اسم “بنات الرياض”، استقى من أغنية للفنان عبد المجيد عبد الله([99]).

تروي لنا على شبكة الإنترنت قصص أربع صديقات لها إضافة إلى أم نوير التي كان بيتها ملتقى الصديقات الأربع ومسرحًا لكشف أسرارهن. “الرواية” حداثية الفكرة أو السرد؛ وهي في نفس الوقت قفز فوق التقاليد لتقدم ما هو خارج على التقاليد. حيث استخدمت رجاء الصانع تقنيات من هذا العصر “عبر الشبكة العنكبوتية، وطرح خمسين رسالة إلكترونية، وجهت إلى مجموعات “إلياهو غروب” المعروفة، أطلقت عليها “سيرة وانفضحت” والكتابة بصيغة ضمير المتكلم توحي لعموم جمهور القراء بأن المتحدث هو المؤلف نفسه، وبما يصعب معه التفريق والفصل بين صوت المؤلف وصوت الراوي، لهذا تخفت الكاتبة رجاء الصانع وراء صوت الفتاة الراوية موا، مخاطبةً جمهور قرائها: “سيداتي آنساتي سادتي… أنتم على موعد مع أكبر الفضائح المحلية، وأصخب السهرات الشبابية. محدثتكم، “موا”، تنقلكم إلى عالم هو أقرب إلى كل منكم مما يصوره له الخيال. هو واقع نعيشه ولا نعيش فيه، نؤمن بما نستسيغ الإيمان به ونكفر بالباقي”. إننا أمام فضاء جديد للإبداع: لا هو سيري ذاتي، لا واقعي سحري، لا واقعي اشتراكي، لا خيال علمي.. إنه عالم فلسفته الخيال، ويقدم لنا الإنسان الافتراضي، واللغة الاجتماعية لا اللغة الثقافية كما كان في السابق، واللغة الرقمية “أو اللا لغة” لا نجد لغة سردية ولا شعرية ولا يومية مستقرة، اللغة في هذا “العمل” نحيلة. أن تكون لغة العمل “فصحى” وثلثه أو يزيد يتأرجح بين سطحية “العامية” واللهجة “النجدية” التي استمرت حتى السطر الأخير من “العمل” وأيضًا مصطلحات “التشات” و”الإنكليزية” التي كتبت بالأحرف العربية إمعانًا بالملل وأما الفكرة فهي جديدة من حيث ارتدائها “الجرأة” وخلعها النص التقليدي والحكاية المألوفة لتغوص في عالم حديث لفتيات سعوديات من هذا العصر وتقول في وصف إحدى السهرات لتلك ا لصديقات التي سحبت عليهن بنات الرياض: “وُزعت الشيش الجديدة في الخيمة لأن شيش الأب تنتقل معه حيثما يسافر. أعدت الخادمة الفحم وأخذت الأغاني تصدح وبدأ الجميع بالرقص والتعسيل ولعب الورق، حتى قمرة جربت المعسل هذه المرة بعد أن أقنعتها سديم بأن “الواحدة ما تتزوج كل يوم([100]) “وأعجبها معسل العنب أكثر من غيره”. وتتركز قصة كل منهن في حياتها العاطفية وما عانته كل واحدة في مجتمع منغلق. الاختلاط بين الجنسين محرم، حتى إذا توفر في كلية الطب مثلاً فإلى حد محدود جدًا. وكل من تُضبط برفقة رجل تُعاقب ويتعهد ذووها بالتحفظ عليها. وتقول: “في يوم الفالنتاين أو عيد الحب، ارتدت ميشيل قميصًا أحمر وحملت حقيبة من اللون نفسه، وكذلك بالنسبة إلى شريحة كبيرة من الطالبات، فاصطبغ الحرم الجامعي باللون الأحمر، ثيابًا وزهورًا ودمى”. كان العيد أيامها تقليعة جديدة استلطفها الشبان الذين صاروا يجولون في سياراتهم في الشوارع مستوقفين كل فتاة جميلة ليقدموا لها وردة حمراء ملفوفًا على ساقها “الرقم”، واستلطفتها الشابات اللواتي وجدن أخيرًا من يهدين ورودًا حمراء كما في الأفلام”. ثم تقول بعد ذلك: “يمنع الاحتفال بعيد الحب في بلادنا ولا يُمنع الاحتفال بعيد الأم أو الأب مع أن الحكم الشرعي واحد، مضطهد أنت أيها الحب في هذا البلد”([101]). هذا الكبتُ الشديد كانت تقابله الفتاة بالتعليقات الساخرة والمنتقدة في الجلسات النسائية البيتية، تقول: “قبل هبوط الطائرة في مطار هيثرو، توجهت سديم نحو حمام الطائرة وقامت بنزع عباءتها وغطاء شعرها لتكشف عن جسم متناسق يلفه الجينز والتي شيرت الضيقان، ووجه بريء التقاطيع تزينه حمرة الخدود الخفيفة “البلاشر” عن أربع فتيات جامعيات “بنات الطبقة الثرية بالسعودية([102])“: سديم، قمرة، لميس، ومشاعل (ميشيل) كما تنادي؛ لكون والدتها أمريكية. وتبدأ الرواية بموقع إلكتروني ورسائل للمجموعات البريدية تتناول فيها فتاة مجهولة أحداث حياة كل منهن وما فيها من أمور شخصية. الرواية تمحورت في معظمها حول حياة الفتيات العاطفية والقيود التي تُكبل الفتاة السعودية في علاقاتها بالرجل، هذه الفتاة التي تحاول التمرد على مجتمعها بالالتفاف على محرماته بمختلف الأساليب، ولكن حتى يتحرر المجتمع يجب أن تتحرر عقلية الرجل أولاً. صحيح أن الكاتبة تعرضت لقضية رفض وظلم الأغلبية السنية للأقلية الشيعية في المملكة وتكفير أتباعها واستنكار كل علاقة بأي منهم “كانت قمرة وسديم تحذرانها من طعام الشيعة، فم يُنجسون طعامهم خفية إن عرفوا بأن سنيا سيأكل منه، ولا يتورعون عن دس السم فيه لينالوا ثواب قتل سني”([103]) والشرطة التي أمسكت بلميس تجلس وزميلها في الجامعة “على الشيعي” أخبرت والدها “أن عقاب على سوف يكون أقسى بكثير من عقابها هي لكونه من الرافضة”([104]). لكن الواضح أن الرواية تجاهلت القضايا الأخرى التي لابد وتثير اهتمام أبناء المجتمع السعودي، ككل مجتمع آخر، كالقضايا السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والثقافية. فالكاتبة تمركزت في القضايا العاطفية التي تشكل محورًا مهما في حياة أبناء الطبقة الغنية التي كما يبدو هي الشاغلة لها أكثر. وتأتي طزاجة النص وسخونته “الحداثة” عبر حكايات البنات وهذا يقودني إلى طرح عدة محاور في الرواية وحولها المحور الأساسي في الرواية هو اللامكان (شاشة الكمبيوتر) التي كانت البطل في النص، وتم إلغاء المكان المألوف في النص الروائي لصالح المكان الافتراضي الذي بدأ يتسلل إلى حياة الناس وبشكل لافت، وأصبح جزءًا من حياتهم، متجاوزًا تلك الأمكنة بكل أنماطها القديمة ومحور الزمن في الرواية، فهو تابعة لأزرار الإنترنت، شاخصة لحركتها، وبعد كل رسالة، يتوسع المكان ليولد أماكن أخرى هي أعماق الفتيات وقدرتهن على تجاوز الخوف، هذا التجاوز اللافت هو نقطة ارتكاز أساسية للتعامل مع الموروث، وهذا هو الذي أثار ضجة في الوسط الاجتماعي قبل غيره.

سرد حكايات البنات:

قمرة التي رضيت بخطيبها “التنبل” – وهذا اسمه – الذي اختاره أهلها لها وتزوجته: “تنهي قمره المسح بيديها على سائر جسدها بحركة سريعة بعد أن قرأت المعوذتين والإخلاص ثلاثا مخافة الحسد. وصلت محمرة الوجه والجسم بعد الحمام المغربي وفتلة الوجه والحلاوة. لعرسها “وهي أول من تزوج من البنات” ص33 “قمرة على طرف السرير، في غرفتها بفندق جورجونيه في فينيسيا. تمسح فخذيها وقدميها بمزيج مبيض من الجليسرين والليمون أعدته لها والدتها، وقاعدتها الذهبية تملأ ذهنها: “لا تصيري سهلة” التمنع في السر لإثارة شهوة الرجل. لم تسلم أختها الكبرى نفلة نفسها لزوجها إلا في الليلة الرابعة، ومثلها أختها حصة، وهاهي ذي قمرة تحطم الرقم القياسي ببلوغها الليلة السابعة بعد زواجها دون أن يمسها راشد حتى الآن، مع أنها كانت على استعداد للتخلي عن نظريات والدتها بعد أول ليلة معه، عندما نزعت ثوب زفافها وارتدت قميص نومها السكري الذي ارتدته مرارًا قبل الزواج في أيام الملكة أمام المرآة في غرفتها، بعد أن تناولا العشاء في مطعم الفندق الراقي، قررت قمرة بحزم أن تلك الليلة ستكون ليلة دخلتها التي طال انتظارها. مادام زوجها خجولاً فلا بأس من أن تساعده وتمهد له الطريق كما نصحتها أمها. صعدا إلى غرفتهما وبدأت تلاطفه على استحياء، بعد دقائق من المداعبة البريئة صار هو المتحكم بزمام الأمور، أغمضت عينيها بانتظار ما تتوقع حدوثه، وإذا به يفاجئها بفعل لم يخطر لها على بال! كانت ردة فعلها المفاجئة له ولها في حينها أن صفعته بقوة” “الفتاة الهادئة التي تزوجت شخصًا لم تره إلا الرؤية الشرعية، وتبدأ حياتها الزوجية معه في شيكاغو ببرود وتنافر عاطفي، يجبرها الزوج على ترك الحجاب، ثم يأمرها بلبسه مرة أخرى لكونها بشعة بدونه! تكتشف خيانته مع فتاة يابانية فتترك حبوب منع الحمل لكي تنجب طفلاً منه؛ أملاً في تغيره، لكنه يفاجئها بالطلاق فتعود إلى الرياض” ص200 لتقاسي من تعليقات الناس ومراقبتهم وحياة الوحدة حتى أصبحت على استعداد كما تقول: “أنا على العموم ما عندي مانع يجيني أيّا كان، يجي نظيف، يجي وسخ، يجي محرول بس المهم أنه يجي! أنا مستعدة أرضي بأي رجّال! مليت يا بنات! طقت تسبدي! ترى خلاص! ما باقي إلا شوي وانحرف”([105]).

سديم التي أحبت وليد، وعملت ما رغب منها بعد إلحاحه الشديد معتقدة أن لها التمادي معه في العلاقة حيث أنها بحكم الشرع والمجتمع هي زوجته. لكن وليد بعد أن دفع سديم لمُضاجعته احتقرها وتركها، وقطع كل علاقة بها مما سبب لها الألم والعذاب والمعاناة طوال حياتها، “ارتدت في تلك الليلة قميص النوم الأسود الشفاف، الذي اشتراه لها، ورفضت أن ترتديه أمامه يومها، ودعته للسهر، في بيتها دون علم والدها، الذي كان يقضي الليلة، في مخيمًا في البر، مع أصدقائه. الورد الأحمر الذي نثرته على الأريكة، والشموع المنتشرة هنا وهناك، والموسيقى الخافتة التي تنبعث من جهاز التسجيل المخفي، كلها أمور لم تثر انتباه وليد، كما أثاره القميص الأسود، الذي يكشف من جسمها أكثر مما يخفي، وبما أن (سديم) كانت قد نذرت نفسها تلك الليلة لاسترضاء حبيبها وليد، فقد سمحت له بالتمادي معها حتى تزيل ما في قلبه من ضيق تجاه تأجيلها لزفافهما. لم تحاول صده كما اعتادت أن تفعل من قبل، إذا ما حاول تجاوز الخطوط الحمراء، التي كانت قد حددتها لنفسها وله، في بداية أيامهم بعد عقد القران، كانت قد وضعت في ذهنها أنها لن تنال رضاه الكامل، حتى تعرض عليه المزيد من (أنوثتها)، ولا مانع من ذلك، في سبيل إرضاء وليد الحبيب، ومن أجل عين، تكرم مدينة. انصرف وليد بعد آذان الفجر كعادته، إلا أنه بدا مشتتًا وحائرًا على غير العادة. اعتقدت أنه يشعر بالتوتر مثلها بعدما حصل. انتظرت (سديم) اتصاله المعتاد بعد وصوله إلى منزله، خاصة، وأنها بحاجة ماسة لرقته وحديثه بعد ليلة كهذه، لكنه لم يتصل. لم تسمح (سديم) لنفسها بالاتصال به، وانتظرت حتى الغد، ولكنه لم يتصل أيضًا، قررت على مضض، أن تمهله بضعة ايام حتى يهدأ، ثم تتصل هي به لتستفسر عما به. مرت ثلاثة أيام و(سديم) (ما جاها خبر). تخلت عن ثباتها، واتصلت به لتجد هاتفه النقال مقفلاً، ثابرت على الاتصال به على مدار الأسبوع، وفي أوقات مختلفة، علها تنجح في الوصول إليه، ولكن هاتفه النقال ظل مقفلاً، وخط غرفته الثابت، مشغول باستمرار! ما الذي يجري؟ هل أصابه مكروهًا؟ هل مازال غاضبًا منها إلى هذا الحد؟؟ حتى بعد كل محاولاتها لاسترضائه؟ ماذا عن كل ما منحته إياه في تلك الليلة؟ هل أخطأت؟ بأن سلمته نفسها قبل الزواج؟ ويلاه! جُن وليد؟؟ أيعقل أن يكون هذا ما دفعه للتهرب منها منذ ذلك اليوم؟ ولكن لماذا؟ أليس هو زوجها شرعًا منذ عقد القران؟ أم أن الزواج هو القاعة الضخمة والمدعوات والمطربة والعشاء؟؟ ما هو الزواج؟ وهل ما فعلته يستحق أن يعاقبها عليه؟ ألم يكن هو البادئ بالفعل؟ ألم يكن هو الطرف الأقوى؟ لِمَ أجبرها على ارتكاب الخطأ، ثم تخلى عنها بعده؟ من منهما المخطئ؟ وهل ما حدث خطأ في الأصل؟؟ هل كان يمتحنها؟ وإذا كانت قد فشلت في الامتحان، فهل يعني ذلك أنها لا تستحقه؟ لابد وأنه ظن أنها فتاة سهلة! ولكن ما هذا الغباء؟! أليست زوجته وحلاله؟ ألم تبصم ذلك اليوم في الدفتر الضخم، إلى جانب توقيعه؟([106]). وتصف الحال بينهما بعد أن قرر وليد الانفصال عنها، فتقول([107]): “هل اعتقد وليد أنها فتاة “مجربة”!!؟؟ هل كان يفضل أن تصده؟؟ هي لم تفعل أكثر من التجاوب معه بالطريقة التي تراها على شاشة التلفاز أو تسمعها من صديقاتها المتزوجات أو المجربات، وقام هو بالبقية. وحتى فراس الشاب المتعلم الذي تعرفت عليه في لندن وأحبها حتى الوله وبادلته الحب بمثله فضّل أن تكون عشيقة له تقول ص166: “كان الهاتف هو المتنفس الوحيد تقريبًا للحب الذي جمع سديم بفراس، مثل كثير من الأحباء في بلدهما. لذلك أسلاك الهاتف في هذه البلاد كانت قد اتسعت أكثر من غيرها في البلدان الأخرى لتتحمل كل ما يسري فيها من قصص العشاق وتنهداتهم وتأوهاتهم وقبلاتهم التي لا يمكنهم “أو هم لا يريدون، نظرًا للتعاليم الدينية والتقاليد الاجتماعية([108]) “استراقها على أرض الواقع”. وذكرت حوارًا بين سديم وامرأة أخرى تذكر فيه سديم علاقتها القوية مع عشقها فراس، وكان مما قالته لها: “تخيلي أنه مرة من المرات راح بنفسه للصيدلية الساعة أربعة الفجر عشان يجيب لي “أولويز” لأن سواقي كان نايم”. وتتابع الوصف: “أتخيل نفسي وأنا أستقبله كل يوم في بيتنا بعد الزواج وهو راجع من الدوام تعبان. أجلسه هو على الكنب وأجلس أنا على الأرض قدامه. أتخيل نفسي أغسل رجوله بموية دافية وأبوسهم وأمسح بهم على وجهي”. ولكن فراس تزوج من فتاة عادية، “يبدو أن الرجال جميعهم من صنف واحد وقد جعل الله لهم وجوهًا مختلفة حتى يتسنى لنا التفريق بينهم فقط”([109]). وكانت نهايتها أن تزوجت من شاب عادي لم تحبه وإنما رضيت به لأن بقاءها وحيدة مستحيل في مجتمع محافظ.

ميشيل التي دللها والداها واهتما بدراستها وثقافتها واجهت القسوة بسبب كون أمها غير عربية مما دفع بفيصل الشاب المتعلم الذي أحبها وأحبته أن يخضع لرغبات أمه ويتزوج من الفتاة العادية التي اختارتها له. وتقول: “وجدت ميشيل في فيصل كل ما كانت تبحث عنه في الرجل، فقد كان يختلف عن بقية الشباب الذين تعرفت عليهم منذ استقرارها في السعودية، وأكبر دليل على ذلك استمرار العلاقة بينهما لما يقارب العام، مع أن أطول علاقاتها السابقة لم تدم أكثر من ثلاثة أشهر. كان فيصل شابًا متحضرًا، يعرف تمامًا كيف يتعامل مع المرأة ولا يستغل الفرص كما يفعل الآخرون، كان لديه العديد من الصديقات كما كان لدى ميشيل العديد من الأصدقاء”([110]).

مشاعل أو (ميشيل) هي الشابة الأكثر تحررًا وانطلاقًا من أب سعودي وأم أمريكية! تعجب بشخص التقت به في السوق، ولكن أهله يرفضون زواجه بها من أجل جنسية أمها “تولت ميشيل التي تحمل رخصة قيادة دولية قيادة جيب الإكس فايف ذي النوافذ المعتمة كليًا والذي تدبرت استئجاره من أحد معارض تأجير السيارات باسم السائق الحبشي. اتخذت لميس مكانها إلى جانب ميشيل بينما تراصت بقية الفتيات وهن خمسة في المقاعد الخلفية، وارتفع صوت المسجل مصحوبًا بغناء. كان محل القوة الشهير في شارع التحلية أول محطة توقفن عندها، ومن الزجاج المظلل أدرك الشبان بفراستهم أن في الإكس فايف صيدًا ثمينًا، فأحاطوا بها من كل جانب! بدأ الموكب يسير نحو المجمع التجاري الكبير في شارع العليا والذي كان محطتهن الثانية. دونت الفتيات ما تيسر لهن من أرقام الهواتف التي جاد بها الشباب، إما بترديد المميز منها، أو باللوحات المعدة مسبقًا لتعليقها خلف نوافذ السيارة بحيث تراها الفتيات في السيارات المجاورة بوضوح، أو بالبطاقات الشخصية التي يمد الجريئون من الفتيات أيديهم بها عبر النوافذ لتلتقطها الجزيئات من الفتيات أيضًا. كانت أعين النساء في السوق تتابع قمرة وسديم وبقية البنات بصورة مزعجة. كانت الواحدة منهن تتفحصهن من وراء نقابها بجرأة وتحد وكأنها تقول لهن (عرفتكم وما عرفتوني). هذه هي الحال لدينا في الأسواق، يحملق الرجال في النساء لأسبابهم الخاصة، وتحملق النساء في بعضهن لإشباع غريزة (اللقافة). تسافر إلى سان فرانسيسكو لتنشأ علاقة بينها وبين ابن خالها، لكن هذه العلاقة تنتهي بعودتها للسعودية، ومن ثم استقرارها مع عائلتها بدبي، وعملها في إحدى المؤسسات الإعلامية.. وتجسد موقفًا هو قمة الجرأة وتحدي العادات، عندما تعود للرياض لحضور حفل زواج حبيبها السابق، وتستقبله عند دخوله القاعة بالرقص مع قريباته.

“وحدها لميس التي وعت ثقل المجتمع الذي تعيش فيه” كانت البداية في أحد أيام رمضان عندما أخذت لميس طعام الفطور إلى فاطمة في شقتها لتفطر معها، وهي تتذكر الأيام التي كانت تخاف أن تأكل فيها أي طعام تقدمه لها طالبة شيعية من زميلاتها في الجامعة. كانت قمرة وسديم تحذرانها من طعام الشيعة، فهم ينجسون طعامهم خفية إن عرفوا بأن سنيًا سيأكل منه، ولا يتورعون عن دس السم فيه لينالوا ثواب قتل سني لاحظت لميس أن فاطمة تمتنع عن تناول التمرة التي وضعتها أمامها بعد سماعهما آذان المغرب. راحت فاطمة تشغل نفسها بإعداد الفيمتو والسلطة ولم تفطر إلا بعد الآذان بحوالي ثلث ساعة. أخبرتها فاطمة بعد أن رأت استغرابها أنهم لا يفطرون حال سماع الآذان بل ينتظرون قليلاً تحريًا للدقة، ولا تعرف فاطمة السبب الحقيقي وراء ذلك. لميس التي أثار الموضوع فضولها اندفعت تسأل صديقتها عن الزينة المعلقة على الجدران في شقتها والتي تشير كتاباتها إلى مناسبة دينية. أوضحت لها فاطمة أن الزينة تخص مناسبة (حج ومدينة) التي حييها الشيعة في منتصف شهر شعبان من كل عام. سألتها عن بعض الصور الغريبة التي شاهدتها ضمن ألبوم زفاف أخت فاطمة الكبرى، وكبحت نفسها عن الاستفسار عنها في حينها. كانت بعض الصور تظهر جدتي العروسين وهما تريقان بعض الماء على قدمي كل من العروسين الموضوعتين في إناء فضي كبير وقد تناثرت قطع معدنية من النقود في قاع الإناء. أخبرتها فاطمة أن هذا من تقاليدهم في الأعراس، مثل الحنة والجلوة. تفرك قدما العريس والعروس تحت ماء قد قرئت عليه آيات قرآنية وأدعية معينة وترمى النقود تحت قدميهما صدقة حتى يتبارك زواجهما. كانت فاطمة تجيب على أسئلة صديقتها الفضولية بباسطة وهي تضحك من معالم الإثارة البادية على وجه لميس! عندما وصل النقاش إلى الأئمة الاثنى عشر وسرداب سامراء شعت كلتاهما بتوتر الأجواء واستعداد كل منهما للتجريح في مذهب الأخرى فتوقفتا عن الجدال وانتقلتا بهدوء إلى غرفة المعيشة لتتابعا أحداث المسلسل الرمضاني الشهر (طاش ما طاش) على القناة السعودية الأولى والذي لا يختلف السنة والشيعة على متابعته! تحب على أخو صديقتها فاطمة، لكنها تضطر لقطع علاقتها معه للاختلاف الطائفي بينهما، وبعد أن قبضت عليهما هيئة الأمر بالمعروف في أحد مقاهي الرياض، وتتزوج وتسافر لكندا”. لميس أوفر حظًا منهن، ولعبت دورًا في مساعدتهن، وروت تاربهن، وأقامت علاقات جيدة معهن. وإن بدت الفتيات على علاقة وطيدة فيما بينهن، فإن كل فتاة تعيش خيبتها الخاصة ما عدا لميس التي ستوفق في حياتها الزوجية وترتدي الحجاب وتسافر مع زوجها إلى كندا ليواصلا دراساتهما العليا. رضيت بالزوج العادي الذي تقدم لها وعاشت وإياه حياة زوجية ناجحة، مغرمة بقراءة الأبراج الفلكية..

أهم الملامح النقدية على الرواية “بنات الرياض”:

احتوت الرواية على عناصر الجذب بين الشكل والمضمون بدءًا من العنوان الذي يجمع بين المبتدأ (بناتُ) والإضافة الرياض وكلاهما تحمل دلالات كبيرة فالبنات هن النصف الآخر للأمة والرياض هي عاصمة المملكة العربية السعودية الدولة التي تخدم الحرمين الشريفين.

وتعتز بالإسلام وتحمل رايته وتلتزم بتشريعاته، وهي حماية الالتزام وهي حاملة أمانة القيم الإنسانية في العالم الإسلامي، ودلالة التركيب للكلمتين يولد كثافة تشع في الأفق الوطني والاجتماعي بل تصور التصوير الخارجي لهذه البلاد، فما هي سلوكيات بنات الرياض العاصمة الإسلامية الملتزمة، كل يسعى لكشف الحقيقة.

  • ومن عناصر التشويق العمر الزمني للبنات فهن ما بين الثماني عشرة حتى السادسة والعشرين وتلك مرحلة الاندفاع وتصطفي بنوع من المراهقة، وفيها تطلع للحياة الجديدة وفيها تكبر الأحلام وتقترب النفس من الأوهام.
  • وهي المرحلة التي تجتمع فيها الاتجاهات، وتكثر الحوارات، وتلتقي فيها النزعات ويتجاوز فيها تبيان التركيبات الاجتماعية والمذهبية، إنها مرحلة التأثير والتأثر وهو يظهر من شخصيات القصة القصيرة فيجمعهن الحرم الجامعي، وتجمعهن الديانة، وتجمعهن المعالم الحضارية في العاصمة، وكلهن بنات نعمة وثراء، أما أعراقهن فهي متباعدة وظهر هذا التلوين في جل محادثاتهن وسلوكياتهن وتنازعهن جينات شعوب متباعدة ث يحتم تكاثف الجينات الذهنية المتنوعة.
  • ومن العناصر المهمة في التشويق أن الرواية تمثل سلوكيات وهذا عامل فيه جذب فكيف بسلوكيات فتيات إنه إغراء وتشويق.
  • تستهل فصلها بمقولة فلسفية أو مقطوعة شعرية تحكي أحاسيس القصة فهي بمثابة الاستهلال النحوي للمشاعر التي تحكيها حكاية الفصل.

ويغلب على الحكاية أنها تختلط بتحليل جماعي من الشخصيات أو تحديد موقف وتعاون أو تتداخل الأصوات فتكشف الأضواء على حكايات جريئة جانبية.

إن الروايات تتابع سيرة متواصلة، فمسيرات الشخصيات الفتيات متواصلة كل حلقة منتظمة بحلقات وما تنفك إحداهن عن الحلقة حتى تراها تتداخل مع زميلاتها بآرائها أو بعبرة حادثتها السالفة وسيرتها، وهن يتعاطفن معها مباركات أو باكيات وتارة ناقدات.

ولغة القصة تعتمد على اللفظة القريبة المتناول التي لا تخرج عن الفصاحة لكنها شائعة التداول، وسهلة مخارج الحروف قابلة للتداول في تلك المرحلة الجامعية وتراكيب الرواية تعتمد على الجمل القصيرة ذات الدلالة الواضحة والكثيفة أحيانًا والدلالة المراوغة أحيانًا أو ذات الاحتمالات أو الإشارات البعيدة ذات الخطوط الحمر.

لغة القصة تتداخل معها اللغة الإنجليزية أحيانًا، استجابة لمظاهر التباهي أو محاكاة للواقع الحياتي من الأفلام وهي لغة دارجة عند سائر الشباب من بنين وبنات وربما فرضها الحاسب الآلي والإنترنت، والتفاعل مع العالم الخارجي ونحن نعترف أن الأجيال الجديدة تحمل ألفاظهم دلالات جديدة وربما تحمل ألفاظًا من لغات شتى ودلالات فرضها التعامل الإلكتروني بل أصبحت هذه الألفاظ الدخيلة تحمل دلالات نفسية واجتماعية وقد كثر عندهن استعمال هذي الكلمات. بل استعيرت إلى دلالات اجتماعية ولانعدم ظهور بعض اللهجات التي تنبئ عن أقاليمهن، وتتوارد فيها ألفاظ عامية.

وبناء القصة على تسعة وأربعين حكاية يدفع القارئ لمواصلة القراءة للاقتراب من النهاية، لأن الحكاية تتبعها حكاية أو هي تؤدي معرفة نهاية السيرة لأن الحكايات لا تنتهي ولا يعلن فيها نهاية الحكاية حتى (لقمره) التي طلقت ولم تخض تجارب جديدة فهي تصحبنا في سائر الرواية وأسلوبها وهو يحاكي الواقع بنوعية الشعر الفصيح والشعر العامي، وما يتماثل الشعر من نفثات شعرية ومن استدعاء بعض الأغاني الوجدانية.

الزمن معطى مباشر من معطيات الوجدان، وصحبة الزمن للوجدان صحبة ذات دلالات مختلفة تمثل الحاضر وتستدعي الماضي وتترقب من المستقبل والزمن في التي نحاول قراءتها يدور في أفلاك متعددة، فهو يدور حول مرحلة زمنية عمرية للفتيات مكونات شخصيات القصة وهو ينتقل في حدود زمنية القصة التي لا تتجاوز ست سنوات في الثانوية والجامعة وتلك المرحلة لها تفاعلها الذاتي ولها تأثيرها في مسيرة الحياة السلوكية لكل فتاة متأثرة بمكوناتها الذهنية والوجدانية والسلوكية، إنها مرحلة الاهتزازات العاطفية والاهتزازات السلوكية المتعانقة مع التفاعلات الفكرية. والموقع الزمني للرواية يكاد يقع ما بين عام 1420هـ/ 2000م حتى عام 1426هـ/ 2006م، وهو زمن تقارب الكون فيه، فقد تكاثفت الفضائيات، وتكاثفت الرسائل الهاتفية، وأصبح الهاتف الخاص ملكًا سريًا وتكاثف البريد الإلكتروني، إنه التأثير القوي العاصف الذي يحد بالشباب بنوعيه في ركب السلوكيات المتماوجة الذي يتمايل يمينه ويساره. ونحن نستبين من الرواية تلك الحياة السلوكية ذات الحراك الكوني فهن يوظفن كل جديد من مكونات الحياة ويتبعن كل سلوك تفيض به الفضائيات والأفلام. وهذا الزمن يمثل زمن الحدث والمغامرة ويقرب منه جدًا زمن الكتابة للرواية التي لها من الأهمية القصوى لتسجيل الحدث فكلما اقترب زمن الكاتبة من زمن الحدث كان أكثر تصويرًا إنه تفاعل فكري وسلوكي كثيف بين الفكر والكاتب والمتلقي يؤطره زمن يتشكل بالحدث ودلالاته ومن ثم إدراك ظواهره بل لأنه زمن العمر الجامعي وزمن الحضور الكثيف لتضاد الفكر وتصادمه وحضور الحوار والجدل وهو نسيج من التفاعل بين كم هائل من متضاربات السن والفكر والسلوكيات ليست تماثل إنما أقصد أن كلاً منهن تستجيب لهذه المكونات وإن اختلف بعضها عن بعض فالرواية تصور شرائح اجتماعية متنوعة للرياض الجامعة فمنهم شرائح أصحاب الذوات ومنهن الفقيرات ومتوسطات الحال ومنهن ذوات المذاهب والأيدلوجيات المتنوعة وكل ذلك تكشف عنه القراءات المتعددة للرواية. والرواية سردية مما أوجد بينها وبين تتابع الزمن تلاقحًا واضحًا يحمل دلالات كثيفة تتبلور بتيار الوعي للباث والرسالة والمتلقي. والزمن المعاصر حافل بالإنتاجية المؤثرة المستعينة وزمن الرواية يحمل التغيرات الاجتماعية بفعل التلاقح العالمي وعوامل التأثير والوسائل الجديدة التي تمزج هذا العالم فهذه رياح التغيير تهب على العاصمة الحديثة الملتزمة من حيث يدري المجتمع أو لا يدري تخترق مكوناته الذهنية، وتوجهاته الاجتماعية وتصهر ما في القلوب والعقول، وتجذب السلوك وتثاقف البشر تثاقفًا حضاريًّا شاملاً (نتيجة لسيطرة القيم المنتجة والمستهلكة على مقدرات الواقع الحياتي المعيش وتحول الزمن إلى سلعة في العالم الاجتماعي) ونحن نراه في زمن هذه الرواية فهي متواصلة مع الإبداع العالمي الحسي والمعنوي الصالح والطالح أحيانًا.

الأنثى والرجل في السرد النسوي:

كان ومايزال هاجس الكتابة عند المرأة والعلاقة المتوترة بين الذات الكاتبة والآخر ولعبة الجسد واللغة الإيحائية أو ما يتعلق بمستوى التعبير الروائي النسوي بأسئلته عن الذات والآخر والمصير وفق مسارات الحكي المعتمدة على الترميز المستند على قواعد التخييل القائمة على مبدأ التحول خلف الإشارات والرموز وتأويلاتها حيث نلمس عبق السرد القديم والسرد الجديد المختلف باختلاف العلوم والمعارف وباختلاف دور المرأة الكاتبة [فقد كانت عناية السرد النسوي بحضور الأنثى الساردة متوافقًا مع طبيعته وبخاصة أن المنتجة تنتمي إلى الأنوثة ومحملة بخبرة ذاتية تتيح لها أن تقدمها تقدمًا صحيحًا وقد اتجه السرد إلى مستويين من الإناث: المستوى الأول: هي الأنثى النمطية التي تكاد تكون خاضعة خضوعًا مطلقًا لأنساق المجتمع وتقاليده وأعرافه ومن ثم تحولت إلى قناة لتمرير قوانين العرف الاجتماعي إلى غيرها من الإناث”([111]).

فهي أنثى لا تسعى إلى الاصطدام بالرجل كسلطة ذكورية فهي ترضى أن تعيش في الهامش مكانًا ولغيرها من الإناث. فمهمتها هي أن تنقلهن إلى دائرة السلب وبخاصة مع أزواجهن يتلقين الأوامر ولا يقتربن من المعارضة أو النقاش تمثل هذا النوع من السرد النسوي رواية [آدم يا سيدي] أمل شطا. فعائشة الناطقة الرسمية باسم حواء في الرواية تجدد ولاء المرأة للمنظومة الاجتماعية التي تعيد اكتشافها من خلال نظارة (معبد) الذي يردم الفجوة بين خطابين وبين لغتين ويتجاوز العثرات الصغيرة ويضمدها وعين سحرية تعيد تلوين الذاكرة الأنثوية بأطياف الواقع والمأمول.

عائشة هي المرأة الأنموذج التي تشكل وعيها الأنثوي داخل إطار أبجديات البنية الفكرية الذكورية؛ لذا فهي تتبنى نفس الخطاب الذي تولى قولبته وصياغته الوعي الذكوري بحيث لا يقوض الفكر السلطوي أو “الأبوية” التي نواتها الرجل، تلك القوامة أو الوصايا الذكورية والتي ما فتئت عائشة تكرسها وتمجدها. فالصوت الذي تسمعه هو صوت يحمل ملامح ضعف الأنثى، ولكن يرتق تمزقات الأنا فيها، ويستر توترات الحس الأنثوي ويطمر هواجسه ووجده. وينطلق هذا الصوت منذ بداية الفصل الأول ليمطر قصصًا وحكايات ومفاجآت حتى آخر ورقة. فالرواية ترتكز على تقنية الاسترجاع في سرد الأحداث. وعائشة هي الراوي الرئيسي المهيمن على الخطاب السردي وعلى الرواة الثانويين الذين يتوارون خلفها. فالساردة هنا تتبنى رؤية أحادية تسيطر بها على المتن الحكائي المتفرع إلى مسارات حوارية متدرجة. رؤاها وانطباعاتها ومشاعرها بين ثنايا السرد، لذلك وقعت في مأزق الذاتية حيث هيمنة التأمل على حساب العمل السردي، مما أدى إلى تمحور الشخصيات حولها، وتمحور الخطاب حول آرائها في العلاقات الأسرية، وحكمتها في تربية الأبناء ومعالجة مشاكل أفراد العائلة وأقاربها وأقارب زوجها والذين يمثلون معظم شرائح المجتمع. ولقد أدى هذا التكثيف في التأمل والصيغ الخطابية إلى ضغط المقاطع الإنشائية التأملية على الأحداث ومن ثم إلى بطء تفاعل الشخصيات.

وعلى طريقة (الفلاش باك) تبدأ عائشة رحلة مناجاة حمزة، ومعها تبدأ رحلة السرد بتذكر يوم الرحيل، يوم أن مات أبو عدنان: “وحملوك على محفة خشبية متآكلة الأطراف، واندفعوا إلى الخارج، وأحسست بغمد في صدري”([112]). ولنتصور بعدها معاناتها من بعده، بدءًا من السيارة التي انفجر إطارها ولم يستطع السائق إصلاحها، والخزان الأرضي الذي طفح، وبجهلها بأبسط آليات تسديد فواتير الماء والكهرباء والهاتف، ومرض الأطفال، وانتهاءً بتجرؤ السائق: “الكلب أماندو”، والذي قد يمثل هنا انحلالاً خلقيًا دخيلاً علينا. أما المصيبة الأعظم فهو إسماعيل، شقيق حمزة، الحمو الفظ الغليظ القلب، والذي تجرأ على طلب الزواج منها وهو لا يرقى إلى مرتبة حمزة، رمز الرجولة والكمال.

وهنا تبدأ حلقة من حلقات الوعظ والدرس موجهة للنساء حيث تطغى التقريرية والمباشرة على بوح عائشة. فما تعتقده المرأة قيدًا هو حماية لها، وما تتذمر منه هو نعمة لن تعرف قدرها إلا بعد أن تفقدها: “كنت ترعاني بمحبتك، وتدرأ عني المخاوف، وتحميني وتحتويني تحت جناحيك، ولا أدري كيف كنت أضيق بهذا الحب، وهذا الاحتواء، واعتبرته نوعًا من السيطرة وحب التملك، وقيدًا وعقبة أمام حريتي وانطلاقي مع أنك ما كنت يومًا عقبة، وإنما حاجز أمن بيني وبين المخاطر، ولكني لم أستوعب ذلك إلا بعد زمن طويل”([113]).

وتشق عائشة طريقها وسط غابة من الذكور محاطة برعايتهم ابتداء بأخيها سالم وحتى إسماعيل الذي تخفي غلظته أبوة حانية وشهامة نادرة، “كان من الواضح أنه مهتم بهم ولأجلهم، حريص على توجيههم وإرشادهم، ولكن غلطته وضعت ساترًا بين أعينهم وبين محبته”([114])، ومع ذلك وبرغم احتدادها الدائم معه، إلا أن عائشة لا تنكر احتياجها له ولفزعته “فلقد فرض نفسه على حياتنا فرضًا ونصب نفسه حاكمًا وراعيًا لنا، سواء شئنا أم أبينا”([115]). ولا تجد عائشة غضاضة في قوله: “الرجل يربيه الرجال، تربية الحريم ما تنفع”([116]). وهي لا ترد عليه، ولا تقتنص الكاتبة هذه النقطة لتبدع حوارًا يبرز فيه الخطاب النسائي ليثور على، أو حتى يحاكم سلطوية الخطاب الذكوري وتهميشه لدور المرأة. وإسماعيل هنا يرمز إلى شرعية هذا الخطاب ورسميته. ولكن عائشة وفي وسط هذه الغابة وكالسائر فوق الأشواك تسترسل في تمجيد آدم إلى حد التقديس، متجاوزة لحظات الصمت تلك والمسكونة بين السطور.

وإمعانًا في الدفاع عن آدم، تستمر عائشة في دحض ادعاءات بعض الأصوات النسائية. ففي قاعة المحكمة تتبدد مخاوف عائشة من “عصبة الذكور الذين كان يخيل لها أنهم سيميلون حتمًا لنصرة الرجل ضد الأنثى. فالقاضي هو ذلك “الشيخ الوقور” الذي يشع وجهه نورًا يبعث على السكينة، يداعب ابنتها الصغيرة ببعض كلمات رقيقة وينهر إسماعيل لمطالبته بالوصاية على أولادها، بل ويعتذر لها على ما سببوه “هم” من إزعاج”([117]). طبعًا لا يخلو التصوير من يوتوبيا متخيلة، ومن مواربة يتطلبها الموقف، والكاتبة هنا تشق طريقها بتمرس بين كثير من المناطق المحظورة أو التابوه، فعائشة مثلاً لم ترفع النقاب أو بالأحرى لم تجرؤ على رفع النقاب حتى لا ينهرها واحد من “زمرة الرجال” أو “عصبة الذكور”، وليس “حتى لا يلحظ أحد” امتقاع وجهها كما تدعي. وهنالك أمثلة كثيرة لمناطق الحضر الإبداعي، والسكوت غير المباح والذي يعيق إبداع المرأة أكثر من الرجل بوصفها ضيفة شرف على عالم الكتابة المملوك بوضع اليد لـ”زمرة الرجال”، أو “عصبة الذكور” حسب تعبير الكاتبة، والذين استأنستهم عائشة طوال هذه الرواية.

والولاء للأبوة الاجتماعية يتجلى أيضًا في سيطرة النزعة الأخلاقية التجريدية على خطاب عائشة والذي لا يمكن فصله عن الخطاب الاجتماعي السائد أو المقبول. فالحب للزوج فقط، رغم وعي الكاتبة بمشروعية الحب كعاطفة سامية، وكحالة إنسانية فطرية تغذي الخيال الإبداعي، وتغير مسار الأحداث. وهي بلا شك تعي كيف غيَّر الحب مجرى تاريخ الأمم، وكيف كتبت على أنقاضه أعظم القصص والقصائد. والتجارب الإنسانية غنية بتجارب الحب وقصصه التي استهلكها الرجل في نصوصه ولم تقتنص الكاتبة واحدة منها لتعكس واقعًا حيًا ينبض بالمشاعر والعذابات. كل ذلك مراعاة لخصوصية اجتماعية محلية نفض الكثير من المبدعين الغبار عنها، وهي لذلك تسهب في تقديس العلاقة بين المرأة وزوجها وتشكك فيما عداها رغم أن الواقع ينبض بحكايات الحب وأسراره وتبدع عائشة في تشويهها لأي عاطفة بين اثنين خلا تلك التي بينها وبين حمزة أو ما يرقى إليها، كما فعلت في تصوير قصة سلافة وعدنان، ولبنى وهاشم. فبالنسبة لعائشة “لا يمكن للمرأة أن تحب رجلاً كما تحب زوجها، إنه آدم.. آدم الذي خلقها الله من ضلعه فأسكنه إليها وأسكنها إليها، فلا رجولة إلا رجولته، ولا محبة إلا محبته، ولا طاعة ولا امتثال إلا لسطوته، إن هذا الحب الدافق وهذا الشعور الرائع لا يتولد داخل قلب المرأة إلا لزوجها. إنها آية الله وإعجازه في خلقه وحقيقة.. ما أروعها من آية”([118]). وتأبى عائشة إلا أن تلبس ثوب المصلح الاجتماعي لا المشرفة الاجتماعية وهي تتفحص سحنات الطالبات في الساحة: “ترى من منهن تشبه سلافة لا ضمير لها؟ ترى من منهن تستغل ثقة أبويها فتخابر الفتيان في الهاتف فتفسد حياتهم قبل حياتها؟ من تخفي وراء قسماتها الطاهرة البريئة شحنة قبيحة مشوهة؟”([119]).

وتتبنى عائشة في تناهيها مع الخطاب الاجتماعي المهيمن منطق الرجل، وتنظر إلى الأمور بمعياره هو، فهي مثلاً تحمل نبيلة تبعات ما حصل بينها وبين زوجها والذي تزوجته تحت ظروف قاهرة في صفقة شبيهة بما يسمى “زواج المسيار” وأغفلت عائشة الأبعاد النفسية لمعاناة شابة جميلة مثل نبيلة كان عليها أن تدفع ثمن زواجها برجل نذل بعد تخطيها الثلاثين وفشلها في زيجة سابقة. لكن نبيلة رغم وعظ ونصائح عائشة “صمت أذنيها عن صوت العقل وتبعت الهوى”، بل ونصحتها بالصبر على القهر “حتى يرزقها الله طفلاً يملأ فراغ حياتها وقلبها، ويغير من شعور والده نحو بيته”([120]). ولا تستغل الكاتبة معاناة نبيلة وغيرها كمدخل إلى تكثيف مشاهد الهم الأنثوي وتسليط الضوء على الحيف الاجتماعي الذي تتجرعه كثير من النساء، بل تبرئ الرجل من جريمة حرق جسد نبيلة، وهي التي احترقت بنار استغلاله لهذا الجسد وتحقيره في صفقة تشبثت هي بها كما يتشبث الغريق بالحياة. ففي حبكة هزيلة يتناهى إلى سمع عائشة اعتراف نبيلة لأمها في المستشفى: “لقد انتقم الله مني لأني أردت أن أردي زوجي في مصيبة تدخله السجن ظلمًا، أشعلت النار في طرف ثوبي، ولم أقدر على إطفائها سريعًا كما حسبت، سأموت ظالمة، أما هو فسيظهر الله براءته حتمًا”([121]). لقد توقفت كثيرًا عند هذه الكلمات التي تحول المجني عليه إلى جانٍ، وتبرئ الظالم وتجرم الضحية حتى وهي “ترقد في الكفن”. وما لم تقله عائشة هو أن نبيلة اختارت أن تحرق جسد الأنثى فيها لأنه سر عذاباتها وتشوهاتها، وهو خطيئتها أحرقته لتبرئ آدم، وتطهر (الرجال) مما هو في عرفهم رمز الغواية.

وتمتد ثيمة الولاء في الخطاب الأنثوي في النص الذي أمامنا لتشمل الولاء للأبوة الأدبية وما يتبعه من تماهٍ مع الرؤية الذكورية لفعل الكتابة المتسقة مع الموروث الاجتماعي والإرث الأدبي الواقع في نطاق هذه الأبوة. فالمتن الحكائي والمرتكز على تقنية الحكايا الإطار التي بداخلها عدة حكايات والحافل بالأخبار والمفاجآت، والمواعظ والحكم، واستحضار الخطاب السردي لشخصية شهريار متمثلاً في حمزة الميت..الحي، والمؤطِر لكل هذه الحكايات، يذكرني بالإرث الشهرزادي في قصص ألف ليلة وليلة، والذي هو أصلاً اختراع ذكوري يرتكز على متعة الحكي الذي يأنس إليه الرجل ويتخذ منه بؤرة لإسقاطاته، والذي تجيده الأنثى كإجادتها للغناء والرقص في عصر الجواري والحريم، وكله للتسرية عن الرجل. فالحكي الشهرزادي الذي حفل بأخبار العالمين وغرائب الجن والإنس وقصصهم كان لتشويق شهريار واتقاء شره إلا أن توظيف هذا الموروث الأنثوي الذي هو جزء من الإرث الأدبي الذكوري لم ينجح من خلال المحكي في كشف غياهب عوالم الرجل السحيقة، بل سخرته الراوية لتعيد صياغة ماضيها وطهر أنوثتها في مرثية بلاغية استلهمت أبجدياتها من هوامش الصوت الذكوري السائد.

والحكايات هنا ليست كحكايا شهرزاد، فشهريارنا مات، وعائشة ستظل تهذي بحبه، وبحب أسره وقيده. حكايات عائشة لا تخلو من الطرائف والمفاجآت أو الحكايات التي عايشناها طوال 235 ليلة أو صفحة وعلى رأسها مفاجآت راغب سلام والشحاذ، وراغب سلام والصحفي، وراغب سلام العاشق ومكائد سلافة وحكايات كشف السرقة والسارقين الفلبينيين في بيت سالم، وتداعيات حيلة السيد عبد القادر لتزويج ابنته حسناء على سالم، وتعرف راجية الذكية على المجرم ومن ثم اكتشاف المتفجرات في بيت حمزة، ومشاهدات عدنان في الصومال…الخ. إنه مسلسل من القصص والمفاجآت لا تنتهي إلا بانتهاء الرواية وعودتنا من حيث بدأنا لحمزة محمولاً إلى الداخل “في خشوع وسط الدموع”([122])، كما تتذكره عائشة.

وبالإضافة إلى ما قد يبدو لي محاكاةً للإرث الأدبي المتمثل في المتن الحكائي لقصص ألف ليلة وليلة، وولاء للخطاب الذكوري المتغلغل في ثنايا تلك الحكايات، يتجلى لنا ملمح آخر من ملامح هذا الولاء ألا وهو تبني الكاتبة لنفس الصور النمطية التي ابتدعها خيال الرجل والتي تحفل بها النصوص الذكورية في جميع المجتمعات، والمتوارثة كجزء من التقليد الأدبي السائد. فصورة المرأة في “آدم.. يا سيدي” تراوح بين صورة المرأة الملاك المغرقة في المثالية والتي تنضوي تحتها أيقونة الأنثى الطاهرة، المخلصة، الضحية البريئة، وصورة المرأة الشريرة أو رمز الشر، وتندرج تحتها امرأة الغواية، الأنثى اللعوب، الساحرة، الكائدة، المتمردة، وكلها نماذج صادفناها في “آدم.. يا سيدي”. فعائشة الشخصية الرئيسية هي الأنثى الأنموذج، وهي الملاك الحاني، وهي الوفية المخلصة المتجردة من كل هنات الجسد، فهي الأرملة العذراء التي ترفض الارتباط بعد حمزة، وسعاد أخت حمزة هي نموذج لأيقونة الأنثى البريئة، “هذه الحبيبة كانت كالنسمة الطيبة، ناعمة ندية، تجر السعادة في ذيل ثوبها”([123])، وهي المرأة الصبور التي كانت “ضحية مؤامرة” اغتيل فيها مستقبلها، ولكن رغم “مرارة الخديعة”، بعد اكتشافها حقيقة مرض زوجها أبو المهند، وعدم “احتمال قلبه بعد شهر فقط من زفافها”، إلا أنها ترضى بالواقع وتستسلم للمصير، وتجاهد من أجل بعدها “الاحتفاظ به”([124])، بل وبعد سبع وعشرين سنة، نجدها تخاطب عائشة قائلة: “لقد كان زوجي وكان حبيبي، ولا أدري كيف يمكن أن أعيد صياغة أيامي بدونه”([125]). وعلى الطرف الآخر في أقصى اليسار تتمحور صورة المرأة الشر أو الشريرة، ونجدها في شخصية سلافة في الفصل الرابع والتي تجسد أيقونة الأنثى اللعوب، رمز الغواية المحدق بالرجل البريء عدنان، وشخصية العمة بهيجة التي تجسد الأنثى الساحرة التي “لم تكن لتتورع عن ممارسة السحر وغيره من الموبقات للاحتفاظ بهند إلى جوارها لتؤنسها في وحدتها بعد وفاة زوجها”([126])، وصورة المرأة الكايدة والتي تمثلها أيضًا سلافة في الفصل الثامن حينما تنصب كمينًا لعدنان بوضع طفلها من زوجها الأول فوق سيارته لتتهمه بعدها “باختطاف الطفل ظنًا منه أنه والده ويجبرها على الطلاق من زوجها والعودة إليه”([127]). وكذلك نموذج شخصية نبيلة التي أشعلت النار في طرف ثوبها لتتهم زوجها بمحاولة قتلها: “لأني أردت أن أردي زوجي في مصيبة تدخله السجن ظلمًا”([128]). كما تندرج تحت صورة المرأة الشر أيقونة الأم القاسية والمزواجة والتي تمثلها سعدية أخت حمزة. أما أيقونة الأنثى المتمردة فقد تراءت لنا في شخصية لبنى، ابنة سعدية، وهند أخت عائشة واللتان ثابتا إلى رشدهما على يد عائشة وجلسات فك السحر والمر، فتم قمع هذا التمرد وعودة الأمور كما يجب أن تكون كعودة هند إلى أمها وعودة لبنى إلى أحمد هاشم ولكن كزوجة. إذًا فتكرار وتبني هذه الصور والأيقونات المتطرفة كما تعكسها دائمًا المرآة ما هي إلا صورة من صور ولاء الخطاب الأنثوي، وهي نماذج لم نر مثلها حتى في شخصية إسماعيل والذي رغم تشدده وغلظته أبت عائشة إلا أن تتغلغل إلى عمق نفسيته وأبعادها وتلتمس له الأعذار لتصوره في النهاية شهمًا نبيًا بل ومثل حمزة، أو كما ورد على لسان رانية “مثل أبي يا عماه، تمامًا مثل أبي”([129]).

وبعد فهذا ليس نقدًا ولكن جس لنبض لغة الأنثى في النص. ويحمد للكاتبة انغماسها في الهم المحلي والذي تفوقت فيه على كثيرات من الكاتبات السعوديات واللاتي لجأن إلى “التغريب” للخروج من المأزق. فالرواية بوجه عام تقارب ما يعرف برواية “القضية الاجتماعية”، والتي خاضها وهابها كثير من الكتاب الرجال في بلادنا.

وأخيرًا احكِ يا عائشة.. احكِ.. فحكاياتك تحتمل كل الوجوه، ولن يغضب آدم.. ولكن الرسائل الصامتة في أناتك وشمائل رضاك ستتفهمها بنات جنسك.. حتمًا فهمناها.

وفي رواية (محور الشر) لـ(نبيلة محجوب) نرى رسالة هامة من أنثى ساردة إلى أنثى متلقية مفادها أن الفتاة تعيش حياة كريمة إذا تعلمت وتثقفت وبذلك تكون زوجة صالحة في المستقبل [فهم صالح من نظراتي أني لم أفهم قصده ربما تمنى لو أني أكبر بسرعة أو أني أفهم ما يدور في عقله من صمته دون أن يبوح لي بسرعة خوفه فكر أن يجذبني إلى عالمه عالم الكتب والقراءة قدم لي روايات (أرسين لوبين) التي يعشقها.. جلب لي بعض قصص الأطفال المصورة.. أمسكت بيديه بين يدي قبلتها ففضَّت اللفافة كانت تضم ثلاث روايات لنجيب محفوظ (رادوبيس، وأولاد حارتنا، ودنيا الله)، كانت بوابة دخولي لهذا العالم.. القراءة هي الملاذ الآمن الذي يطمئن له صالح”([130]).

فنحن أمام شخصية نمطية وهي (رحمة) البطلة في الرواية لها مواصفاتها الخاصة تكافح من أجل حقها في التعليم وإبداء الرأي وحرية العمل وهي أنثى تبحث عن حماية الرجل (بكري) الزوج رغم بعده في بداية الحياة عن الأخلاق والقيم ولكنها أحبته وتمسكت بحقها في العيش معه ولكنه سرعان ما انقلب عليها وتزوج من صبحية البراق وكيلة المدرسة، التي تعمل بها (رحمة) بعد أن التزم دينيًا نفاقًا للمدير في أول الأمر ثم انضم للتجنيد من صالح أخو (رحمة) في خلية إرهابية قامت بالتفجير والتكفير في الرياض.. بالرغم من توجه صالح في البداية إلى العلم والثقافة والحرية فـلم يكن هدفه أن أتحول إلى عاشقة بل كان يهدف إلى تسليتي أو تثقيفي كان يقول:

العلم والثقافة هما الطريق إلى الحرية] ([131]).

المستوى الثاني: الأنثى المتمردة:

هي أنثى فقدت الثقة والإيمان بالأطر الثقافية القديمة التي حاصرتها في الهامش وضيقت الخناق عليها فعاشت الظلم والمعاناة في جميع مراحل تطورها العمري فقد مثل ذلك شخصية (سارة) في رواية (عيون قذرة) لقماشة العليان.

(فسارة) البطلة في الرواية من أول سطر تقول “تضيق أنفاسي – العرق الغزير يبلل جبهتي بغزارة ويسيل على ثيابي أجاهد لأتنفس تحاصرني صورة الماضي الكئب طفلة ممزقة الملابس تصرخ هلعًا”([132]).

فتمرد سارة منذ الطفولة يرجع لأسباب نفسية واجتماعية الأم مطلقة ومتزوجة من رجل آخر والأب متزوج من امرأة أخرى عاشت سارة بين ضياع الأسرة وتقاليد المجتمع هاجر (فيصل) الأخ الأكبر لها إلى لندن للدراسة. سارة تذهب إليه في الصيف تقابل سلوك فيصل الصادم يعرفها على (روبير) تحمل منه في لحظة خيانة من (روبير) حين طلب منها أن تشرب عصير التفاح وهو خمر تسكر وتحمل سفاحًا (بفيصل آخر). فقد تابعها السرد في مراحلها العمرية المتتابعة بدءًا من مرحلة الطفولة ووصولاً إلى مرحلة النضج في هذه المتابعة جاء تركيز السرد على ما يمكن أن نسمِّيه “الأنثى الاجتماعية” المتداخلة مع الأنثى النمطية إذ لاحقها المجتمع ملاحقة كلية وجزئية في أثناء حملها بالطفل الغير شرعي من (روبير) ووضعها له على أرض الرياض حين يكبر فيصل الجديد ويقول “أنا لا أريد لعبًا ولا هدايا.. أريد الأمل الذي فقدته والحلم الذي أرنو إليه.. أشتاق للمسات حانية من صدر مترع بالحب تهفو نفسي للأمان المغلف برداء الأمومة، تتوق خصلات شعري المتمردة الشقراء إلى أصابع بعينها لتعزف عليها أجمل الألحان”([133]).

إن ما سبق يشير إلى تمرد الأنثى داخل النصوص كان قد اتخذ مسارات وصورًا مختلفة وإن كان معظمه ينصب على السلطة الذكورية الظالمة وقد نلاحظ أن الظروف ربما لا تسمح للأنثى بالتمرد المباشر لاسيما في بيئة مغلقة مثل المجتمع السعودي ومرجع ذلك للتقاليد والأعراف السائدة لذلك فالأنثى تواجه السلطة الذكورية مواجهة مراوغة وغير مباشرة في رواية (سعوديات) لـ(سارة العليوي) نرى أن شخصية (ليلى) الأميرة الوهمية تلعب دور المراوغة على خالد الواصل وعلى (ياسمين) “هيأت ياسمين نفسها لدعوة الليلة منذ أيام تعد نفسها للمواجهة الحاسمة بينها وبين ليلى، جهزت كل شيء للدعوة الكبيرة أكدت على طاقم الطهاة بالاهتمام الجيد والتنويع أصناف الطعام.. وفي أثناء انشغالها مع الخدم في وضع اللمسات الأخيرة اتصل خالد:

– هلا ياسمين.. بشرى كل شيء أوكي؟

– ضحكت ياسمين:

خالد وشفيك؟ هذه المرة.. تنهد خالد.

– يا ريت من جدودي أشوف هـ(الأميرة) بصراحة قلبي محروق من اللعب اللي لعبته فيني([134]).

ثم اتجه تمرد الأنثى ثانيًا على الأنثى الضعيفة التي تستسلم لمحاولات قهرها وتهميشها أي أنه تمرد على الأنوثة الضعيفة في عمومها ويتميز التمرد هنا بالشدة والعنف.

في رواية البحريات لأميمة الخميس نرى أن بهيجة تحتقر مريم الحبشية وهي زوجة صالح أيضًا زوجها حين نراها تختار الهامش وتختلف معها في الديانة بسبب الصليب الأخضر الذي وجدته معها.

“فكرت أن تخبر (مريما) بسرها والضبع الذي تشممها ذات ليلة ولكنها لاحقًا حمدت الله أنها لم تفعل فبعد حادثة الصليب الأخضر فقدت (مريما) إلى الأبد وأصبحت نائية بعيدة تلمحها حول سفرة الطعام أو في أحد الممرات فتحييها بتردد متحفظ ومن ثم تنسحب سريعًا”([135]).

كما رصدنا بعضًا من صفات التمرد للأنثى أن الأنثى تأخذ بعض الصفات الذكورية وذلك يرجع إلى رفضها لأنوثتها المقيدة للحرية والانطلاق. في رواية سعوديات لسارة العليوي نجد (ليلى) عند شيماء المصرية تأخذها إلى الهاردروك (ديسكو) ترتدي بنطلون جينز طويل.. تشرب بيرة.

“وفي شقة شيماء استعدت الاثنتان استعدادًا كبيرًا لسهرتهما هذه ارتدت ليلى بنطلون جينز طويل وتنورة فوق البنطلون إلى الركبة مع حزام عريض ماركة وبلوزة، على قياس الجسم وقامت بتزيين وجهها بالمكياج ووضعت شالاً على رأسها. أما شيماء فقد عدلت شعرها القصير (بوي) وارتدت بدي وبنطلون جينز ضيق وذهبا إلى (جراند حياة) ([136]).

وغالبًا ما تترك الأنثى زينتها الطبيعية حتى تصل بالجسد إلى التماثل بينها وبين الرجل وتهتم بالإبداع العقلي حتى تصل إلى الأنثى مثيلاتها ونفسيًا تنفر من العلاقة الزوجية لأنها تجعلها محلاً للمتعة ووعاءً للإنجاب وقد تتمرد الأنثى على وظائفها البيولوجية فترفض الحمل وتتمرد على دور الأمومة كما تبلغ بها التمرد إلى امتلاك سلطات الذكر مثل التدخين والملبس في رواية (سعوديات لسارة العليوي).

وغالبًا ما تحب الأنثى إنجاب الذكور حماية لها في بعض المجتمعات مثل المجتمع السعودي حيث المرأة تحتمي بالرجل وهو واصٍ عليها من الطفولة حتى الممات. في صورة الأب والزوج. وفي بعض المجتمعات الأخرى تتمرد الأنثى على وظائفها البيولوجية الإنجابية لاسيما إذا كان الجنين ذكرًا فتسارع إلى لفظة خارج رحمها فتجهض بذلك رغبة الذكر في تحقيق سلالته من الذكور كما فعلت سارة في رواية عيون قذرة لقماشة العليان مع الابن فيصل الذي حملت به من (روبير) في لندن.

الرُّجُلُ في السَّرد النسوي:

في السرد النسوي ظهر الرجل بقسميه [النمطي والمتمرد] الرجل الذي خضع خضوعًا مطلقًا لأنساق الثقافة وأعراف المجتمع. وقد لاحظنا سيطرة الثقافة التقليدية على الذكر النمطي لذلك سكنه التعالي على الأنثى بفعل الظروف التي هيأها له المجتمع”([137]).

في روايتي الوارفة والبحريات لأميمة الخميس نلاحظ أن الشخصيات الذكورية تحمل نموذجًا نمطيًّا لا هو سلبي ولا هو إيجابي فالروايتين تتعامل مع التاريخ والمجتمع فهي تتطلب أن تكون الشخصيات طبيعية أما شخصية (سعد) في البحريات وهو يساري انضم إلى شلة تمارس الشرب والشتم وتقتنيات السياسة في إحدى شقق العطايف، وهي تعكس شخصية شريحة من المجتمع تتمسك بالقشور الثقافية لكن شخصية سعد يتوهم أنه يؤدي دورًا تقدميًّا في حين أنه يقلد بعض المجتمعات المجاورة.

“كان المشهد سرعان ما ينفك بين سُكر (سعد) وإحساسها بالملل والإرهاق والرغبة في النوم.. سألته (منيرة) على اعتبارها المتعلمة التي تجيد إلقاء الأسئلة وإدارة الحوار “وش قصرت يا أبو خالد؟ وش جاك مني ليه تعرس على؟ قال لها: أنت ترفضين أن أشرب في المنزل وتبدأين في الصباح والنواح والشامية تجيب الثلج وتحضر المازة وتشغل المسجل وترقص على أغنية (جانا الهوى جانا)” ([138]).

فسعد شخصية سلبية متمردة على العادات والتقاليد والمجتمع لظروف نشأته في بيت آل معبل.

صورة فيصل في رواية (عيون قذرة) تحمل صورة الرجل المتناقض والحائر بين الشرق والغرب فيتسم سلوكه بالتناقض بالنسبة للمكان في لندن يرافق فتاة ويعيشان معًا في شقته وهي (كاتيا) أخت (روبير) الذي رافق سارة أخت فيصل وتوبته والرجوع إلى وطنه الرياض والعودة إلى طبيعته الشرقية.

إن هذا يعني أن الرجل في النصوص المدروسة إما خالص التقليدية وإما يتسم بالازدواجية والتردد وأمام هذه الحقيقة يهتم السرد بالظواهر الثقافية والاجتماعية التي تعمدت إعلاء الذكر سواء أكان هذا الإعلاء نفسيًا أو جسديًا أو ثقافيًا حيث تمثلت في سلطة الأب في رواية (محور الشر) لـ(نبيلة محجوب) والأخ والزوج في رواية عيون قذرة لقماشة العليان.

وفي هذا السياق يبرز السرد النسوي من الموروث الفحولي الذي يرى في ذاته القيمة المطلقة في إشارة إلى الثقافة العربية التي تربط دائمًا بين الذكورة والفحولة. وتمثل ذلك في رواية البحريات لأميمة الخميس في شخصية بهيجة وزوجتها صالح آل معبل الذي يأخذها في رحلة برية حيث “تعود النسوة عادة من رحلة البر كجفاوات شعتاوات إلا (بهيجة) التي تلوِّح الشمس خديها فتصبغها بصبغة صحراوية تزيل ألوانها الفاقعة فتعود وكأنها فضة مسها ذهب وفي البر يباغتها (صالح) خلف شجرة أو تحت جبل يغيب بها داخل غار من النيران التي تطوقهم وينغمر بها.. هو يستغرق بشكل غرائزي بدائي بينما هي تظل قلقة من اتساع المكان ابنة المدينة”([139]).

وقد تعمد السرد هنا إلى إلحاق الذكر بالحيوان في صفاته ومن ثُمَّ شوه الذكورة في صورتها، وجعلها تبحث عن النفعية الفردية الغرائزية.

الجسد الأنثوي في السرد النسوي:

تتأكد المدلولات الخاصة للجسد عند الأنثى انطلاقًا من الدور الهام الذي بات يلعبه كمنطلق خاص للشعور بالتمايز والاختلاف وتشكيل هوية الذات لاسيما بعد أن ظل الجسد (هو المسئول عن حمل القيم من وجهة نظر المجتمع وأصبح مساويًا للهوية الفردية من وجهة نظر النساء مما سهل على الفكر الذكوري السائد اختزال المرأة في جسدها) ([140]).

فإذا كان الصراع الاجتماعي قد تركز على الجسد عبر محاولة السيطرة عليه رمزيًا أو ماديًا بهدف إخضاعه فإنه قد تحول إلى ساحة صراع بين المرأة والرجل على امتلاكه الأمر الذي جعله يحمل شفراته الخاصة وفقًا لاستراتيجية الأهداف التي ينطلق منها كل من الرجل والمرأة في علاقة مع الجسد ورؤيته إليه لقد تميز الفكر الغربي بثنائيته القائمة على علاقة التقابل بين العقل والجسد والتي منح فيها العقل قيمة أكبر من الجسد مما ساهم في رفع مكانته مقابل تحقير الجسد. كذلك عمل على الربط بين الجسد والطبيعة واللاعقلانية والمرأة. فقد اعتبر أفلاطون الجسد تابعًا للروح في حين عكس تلميذه سقراط القاعدة فجعل الروح تابعة للجسد.

ومع أرسطو برزت المرأة ككائن أدنى بيولوجيًا سواءً من الناحية العقلية أو الجسدية ما يجعلها أدنى من الرجال. وبالتالي يكون خضوعًا له نابعًا من خصائصها التكوينية لذلك شبه أرسطو سلطة الرجل على المرأة بسلطة الروح على الجسد وفي قراءته للجسد في الفكر الغربي كشف عالم الاجتماع الفرنسي بيار يورديو عن تلك الرؤية التي اخترعها العالم الاجتماعي للجسد والتي عملت على استدماج للإدراك يشتمل “على كل الأشياء في العالم وفي المقام الأول على الجسد نفسه في حقيقته البيولوجية”([141]).

بغية تبرير إخضاع المرأة لهيمنته عبر بناء الجسد الأنثوي بناء فجنسنا مستمدًا من حقائق البيولوجيا لكن التحول الكبير الذي طرأ على الجسد جاء مع فكر الحداثة الذي عمل على إشهار هذا الجسد لحضوره القوي وأن يتحول (إلى مصدر ثري لتوليد وصياغة الصور البيانية وإلى بؤرة لشبكة علامات واسعة بعد أن ظلت علاماته طوال تاريخها ممنوعة من التداول وممنوعة من الدلالة فلم تمتلك بالتالي سيموطيقياها الخاصة بها بل إن الأمر ارتد إلى الجسد نفسه الذي صار بحق محور مكبوتات الـ(وعي) فلا يتحرك إلا خفية ولا يستعلن إلا رمزًا”([142]).

وهكذا فإن الجسد في الفكر الحداث لم يعد مجرد حامل لصيغة وجود (الأنا) وإنما تحول إلى (فاعلها البديهي فبالجسد توجد الأنا، وفيه يسكن عدمها وعليه يقع قمع المجتمع لها وذلك لسبب واحد ووحيد هو أن الجسد طاقة حرية ليست الجنوسية غير وجه من وجوهها المتعددة ومن ثم قامت علاقة التناقض بين الجسد والسلطة تأسيسًا على تناقض مبدأ وجود كل منهما الحرية.. مطلق الحرية) ([143]).

ولما كانت المرأة بعيدة أو مستبعدة عن التعبير عن صياغة تلك المفاهيم والرؤى والمواقف التي كانت تجسيدًا للرؤية الفكرية للآخر/ الرجل إلى جسد المرأة وموقفه منه حيث تم اختزال وجودها وكيانها كله في جسدها الذي غدا رمزًا لضعف المرأة ودونيتها وللخطيئة فقد سعت الحركة النقدية النسوية جاهدة قبل كل شيء إلى تكريس حق المرأة في استرداد ملكيتها على جسدها أولاً والعمل على إعلاء قيمته وجعله مصدر ثريًّا لبلاغة الاختلاف ولذكاء المرأة وإبداعها بصورة تسترد المرأة معها ثقتها بذاتها احتل الجسد في النقد النسوي الغربي مكان الصدارة وكان أول ما سعى إلى تحقيقه هو إعادة النظر في سلم القيم الاجتماعية والثقافية السائدة والتي جعلت من المرأة كائنًا ضعيفًا ودونيًا إزاء الرجل فكان التوجه مركزًا على (الانتقال إلى مرحلة اكتشاف الأنوثة بوصفها قيمة خاصة والاحتفاء بالجسد كمكون أساسي من مكونات الهوية الأنثوية) ([144]).

وكسرد اعتبار للخصائص البيولوجية لجسد المرأة التي عمل الفكر الذكوري على تبرير سلطته عليه وإخضاعه لهيمنته عليه من خلال صفات الدونية والضعف التي وسمه بها فقد عمل النقد البيولوجي الغربي الذي يمثل أبرز التيارات النقدية النسوية على رد الاعتبار لجسد الأنثى من خلال إعلاء قيمته باعتباره مصدرًا للتفوق وليس للضعف ويمثل بالنسبة لها ثروتها وملاذها وقيمتها الذاتية الغائبة أو المغيبة. ومن هنا ذهب بعض ممثلات هذا التيار إلى حد تقديس هذا الجسد وتبجيله لقد أصبحت وظيفة الجسد من وجهة نظر النقد البيولوجي هي [قراءات الشفرات أنثويًا وبيان التصنيفات ذات الدلالات المتنوعة التي يمكن للجسد أن ينتجها. وهكذا أصبح الجسد من جهة نصًا يمكن قراءته. ومن جهة أخرى أيقونات يمكن تأويلها إلى معان مختلفة بل هو أيقونة داخل النص يمكن توظيفها أو تأويلها ثقافيًا واجتماعيًا وهناك مسارات متعددة للجسد وعملية إشهاره ثقافيًا] ([145]).ومن جهة أخرى اهتمت جوليا كريستيفا بدراسة مادية الجسد عند الأنثى وما يتصل به من دوافع ورغبات وإفرازات ونبض حيث اعتبرت (الذكورة والأنوثة مواضع معينة للذات تشكلت بفعل عوامل خارجية ولا علاقة لها بالاختلاف البيولوجي) ([146]).

ولذلك رفضت مفهوم الهوية الأنثوية والهوية الذكورية بوصفهما مفهومين متعارضين. أما (هيلين سيكسو) فقد رفضت تلك الثنائية الجنسية عند (وولف) ودعت إلى ثنائية جنسية أخرى تولد الاختلاف بدل أن تلغيه. لقد سعى النقد البيولوجي النسوي بدأب وإصرار على استحضار المعاني المغيبة لبيولوجية المرأة باعتبار أن هذه البيولوجيا هي الأساسي الجسماني لذكاء المرأة([147]).

* فرجينيا وولف: من رائدات حركة النقد النسوي من أصل إنجليزي وهي كاتبة وروائية ماتت منتحرة ومن مؤلفاتها (الغرفة الخسوسية) كناية عن حرية المرأة المفتقدة ذكرت فيه أن أدب النساء لا يمكن عزله عن المقانق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بها.

لقد رأى النقد النسوي في الجسد لغة يمكن قراءتها بوصفه “منظومة علامات كل علامة هي عرض وكل عرض من هذه الأعراض يأخذ صورتين: صورة الدال وصورة المدلول وعندما يتحدان يصبحان صورة أيديولوجية (أيديوم). ويمكننا أن نميز في عرض الجسد وإشهاره كفاءتين الكفاءة السردية والكفاءة الخطابية، فجسد المرأة هو وحدة أيديولوجية تشكل وحدة فصل بين ميدانين: النظام الشكلي القائم على مظهره والنظام التواصلي الذي يمكن للجسد عبر حركات معينة الإبلاغ عنه”([148]).

وبينما عملت الثقافة الأبدية على تكميم جسد المرأة وتشيئته وتحديد وظائفه البيولوجية والاجتماعية فقد طالب الكاتبة (فرجينيا وولف) بضرورة توحد المرأة جسدًا وفكرًا وأن تكون قادرة على التعبير عن كل ما لديها جسدًا وفكرًا الأمر الذي يجعل الكتابة بالنسبة لها بمثابة فعل تحرير للذات ووسيلة لتحقيق وحدة هذه الذات والتعبير عن كامل وجودها وهويتها وبما يحقق علاقة الجمالية مع العالم والأشياء.

إن استئثار الجسد بحضوره في الرواية النسوية العربية في السعودية ينبع من أسباب متعددة بعضها يعود إلى [أسباب متصلة بنظرة المجتمع إلى الجسد عمومًا وما ولده ذلك من إحساس عند المرأة من أنها مرغوبة على مستوى الجسد وليس لشيء غيره وهذا فإن السبب الخاص بشعور المرأة يترتب ضمن نسق ثقافي شامل تفضي هيمنته إلى اختزال الأنوثة إلى مجرد جسد) ([149]).

في حين أن السبب الآخر المناقض للأول فيتأتى من داخل الوعي النسوي الذي يرى أن اتخاذ المرأة من الكتابة [وسيلة لحل متناقضاتها مع الرجل أو المجتمع بشكل عام قد اتسم بتفجر طاقاتها الجسدية الأنثوية أي اتخذ من اختلاف الجسد وطبيعته منطلقًا لعرض قضيتها]([150]).

ومما يلحظ في هذا المستوى أن هذا الوعي المركز بالهوية الأنثوية بدأ مع بداية اكتشاف المرأة لجسدها بوصفه قيمة تستمد منها غناها ويجب استرداد حريته وملكيتها له باعتباره عنوان هويتها الأنثوية وأساس كينونتها ووجودها على خلاف ما كانت تكرسه الثقافة الأبوية من مفاهيم تجعل من المرأة كائنًا ضعيفًا وملحقًا بالرجل. لكن الغريب أن تعرف المرأة إلى عالم جسدها وخباياه ومجاهيله المسكونة بالإثارة واللذة كما تجلى عند العديد من بطلات الرواية النسوية محل الدراسة فمثلاً في رواية بيت الطاعة لمنيرة السبيعي نجد البطلة نورة زوجة إبراهيم وعلاقتها به قائمة على تيمة الجسد والحب. وبطلة رواية سعوديات لسارة العليوي وهي ياسمين عبد الرحمن العنيد مع زوجها خالد الواصل قائمة على الجسد والحب. وفي رواية طريق الحرير لرجاء عالم نجد أن البطلة (هيَّا) شخصية مؤنثة. وفي رواية سري يا رقيب لرجاء عالم نجد البطلة (جواهر) شخصية مؤنثة. وكذلك (خاتم) في رواية خاتم لرجاء عالم. و(حُبِّي) بطلة رواية (حبي) و(مريم) بطلة رواية ستر لرجاء عالم فنجد هنا مناهضة الأنثى لحقيقتها الكامنة في اسمها وغياب التأنيث اللفظية فيه هو تحرك نحو المذكر من أجل الهدم والبناء النوعي.

وفي رواية (مها الفيصل) نجد العنوان يجمع بين المؤنث والمذكر.

توبة (هو) رجل.

سلبيِّ (هي) امرأة.

سفينة (هو) رجل.                    [سفينة وأمرة الظلام]

أميرة الظلام (هي) امرأة.           [مها الفيصل]

فمن خلال العلاقة مع الرجل الذي قادها إلى اكتشاف أغواره وأسراره وجغرافيته الحسية المسكونة بالإثارة ما كشف عن رؤية جديدة ووعي جديد به بعد أن ظل زمنًا طويلاً مناطًا بالوظائف البيولوجية والاجتماعية المرسومة له في مجتمع أبوي اختزل المرأة في صورة جسدها ووظيفته الجنسية الشهوانية والبيولوجية. لقد جعل الوعي الجديد بالجسد عند المرأة على حد تعبير سعيد بنكراد بعدًا بؤريًا تتمظهر فيه الذات الأنثوية وتدور حوله كل الأشياء [الشكل الذي تنطلق منه وتلتقي عنده كل الأشياء. إن الجسد حاضر في كل شيء.. وكل شيء يدور حول الجسد ولا شيء يوجد خارج ما تشير إليه الكلمات والأوضاع أو ترسمه الأمثال من صورة (اللذة)].

كما أن الجسد أصبح مساويًا للهوية الذاتية عند المرأة ما جعله يحتل مساحة واسعة في السرد النسوي المشغول بهموم المرأة وبحثها عن ذاتها ودفاعها عن حريتها ووجودها الذي تحاول تحريره من الاستبداد الذكوري والنظرة الدونية إليه للخروج من الهامش الذي ظل ملحقًا بالمتن الذكوري. أما على صعيد السرد الروائي النسوي فإن [قراءة الفعل الإنساني عبر (مقتضيات الجسد) الحسية، هي التي أدت بهذا الجسد كما سبقت الإشارة إلى ذلك إلى أن يكون مادة السرد الأولى والأخيرة أنه النقطة التي تتولد انطلاقًا منها الموضوعات) ([151]).

حيث أصبحت اللغة والخيال في الكتابة النسوية السعودية وسيلتين للتعبير عن الرغبة النسوية القوية في الانفتاح جسديًا على الحرية والتجديد والعالم والذات وأداة لاكتشاف تلك الذات واستحضار معانيها المادية والرمزية والروحية. وإذا كان انشغال الرواية النسوية المكثف والعميق بموضوع الجسد ومحاولة توحد الكاتبة معه في تلك التجارب قد كشف عن سعي حثيث لرد الاعتبار له وجعله مصدرًا للشعور بالتمايز والاعتزاز بالكينونة الأنثوية.

فإن هذا الانشغال والتمركز حوله عبر ما قُدِّم من تمثيلات سردية له في الروايات النسوية مقترنًا باللذة قد اختزل المراة في صورة أحادية هي صورة الجسد الأنثوي في مواجهة الجسد الذكوري الأمر الذي يجعل السرد النسوي يختزل وجود المرأة في جسدها باعتباره جسدًا مرغوبًا به وموضوعًا لإثارة والشهوة.

ويعيدنا مرة أخرى إلى تلك الثنائية المتقابلة التي رسمتها الثقافة الذكورية للعلاقة بين الرجل والمرأة ولذلك فإن الاستغراق في عالم الجسد بعيدًا عن ارتباطه الوثيقي والحي بقضايا المرأة والواقع على مختلف الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والوجودية والثقافية يجعل وعي المرأة بجسدها ناقصًا ويختزلها فيما حاولت التحرر منه للانفتاح على ذاتها وكيانها الإنساني الشامل وسط محيطه العام الذي تعيش فيه وتتداخل معه دون أن يعي ذلك تجاهل انشغالها به أو الاحتفاء به وتحريره من قيوده التي فرضتها الثقافة الذكورية عليه بوصفه تابعًا ومنعقلاً ليس إلاَّ.

13- الكتابة على الجسد الأنثوي:

تنفتح الكتابة على الجسد على لغتها السردية في السرد النسوي والتي تعد تقنية سردية فأصبح [الوشم بمثابة رموز وشفرات ولغات مرسومة لها حكاياتها المرتبطة بوجودها الأزلي على أجساد لها من القداسة والطهارة ما للكتابة من تفكير بصري مرتبط بثقافة وطقوس المجتمعات والقبائل] ([152]).

ففي لسان العرب: ابن شميل: الوسم والوشوم العلامات ابن سيدة الوشم ما تجعله المرأة على ذراعها بالإبرة ثم تحشوه بالنؤور.

وفي لسان العرب أيضًا، النؤور حصأة مثل الأثمد تدق فتسفها اللثة أي تقمحها وقال الليث النؤور دخان الفتيلة يتخذ كحلاً أو وشمًا.

فالهندسة البصرية للوشم لها أن ترتقي بالشكل المرسوم عبر محيط تتساوى فيه الشفرات السردية مع التأملات الفلسفية للوجود. لتحضر بذلك أشكال الأفاعي والحيوانات والطيور والنماذج التخيلية مما يؤكد عيش هذه الرسوم والوشم بالرسم للأحداث الأسطورية والحكايات السردية. وهذا يجعلنا نقول بعلاقة الرسم بالسرد وهو ارتباط وتداخل لا تفصله قوانين العنصرية بين الفنون والأجناس الأدبية.

والمرأة بطبيعتها الواقعية تكتب هويتها على الجسد، فليس رسم الكحل على العين والحمرة على الشفاه وطلي الأظافر إلا مستويات متنوعة من التفنن والتزيين وإظهار اللون بدرجاته المتفاوتة ذات التعبير الحكائي لخصوصية الأنثى، حيث تجيء عوالم الإغراء ومتعة الناظرين. وهو أمر تعامل معه بعض الروائيين والروائيات.

والتأويل الرمزي الذي تحتضنه ثقافة الحناء هو ما نستطيع أن نراه بمتظهراته الطقوسية عند الروائية رجاء عالم والتي جعلت منه شخصياتها الأنثوية طقسًا تمارس من خلاله غواية السرد.

بحيث يحضر الوشم والرسم بالحناء على أجساد النسوة كمدلول أنثوي له من الطقوس والعادات ما يحتاج إلى الغوص في بنية المقدس ورحلته وتمظهراته على الكائنات.

تقول إحدى الشخصيات: “حدثنا عن أخصر الطرق لبلوغ مكة…، عندها حفر في أردانه البيض فأخرج وجه بنت في السابعة، قال: هذه دُرة نسلي…، ثم رفع ذقنها المدببة فانكشف وشم منمنم على هيئة ميزاب من صبة الشفة حتى النحر، على عادة صحراويات المغرب… وأكمل هذه أقصر الطرق منحدرًا على قطرات الوشم ودنونا ببصائرنا، قال مفسرًا غموض نقشته هذه النزلة سكتها جذوري هابطة من أعلى المعلاة…” ([153]).

وفي هذا تتقاطع طقوس الجسد الأنثوي مع المكان المقدس حيث يعتبر المقدس سمة للكائن المنفتح على العالم المتواصل مع لغته الكونية التي يجسدها الرمز في أشكاله المتعددة لتحضر أشكال النجوم والأجرام السماوية والنباتات والحيوانات التي يحيها الإنسان بالحلم وبالخيال وبالطوطم المتعلق بجدلية الحياة والموت وبالرؤى التي أسماها مرسيليا إلياد طقوس العبور.

الأمر الذي يدل على أن للجسد خريطته الأخرى التي من خلالها تسلك القوافل وتتجه الأمكنة، من الجسد الأنثوي تبدأ الحياة معلنة إحرامها التعبدي نحو أصنام البشر، لتصل في نهاية أمرها إلى المعلاة حيث المقابر المكية ونهاية الحياة. بهذه الصورة تتجاذب وتتقاطع الأمكنة المقدسة مع الأجساد الأنثوية عبر لغة رمزية كان الوشم أولها والسير آخرها.

وفي رواية أخرى نجد المرأة العجوز وهي تنصح بناتها بأن لا يتحنين إلا وهن على طهارة، تقول: “حذرتُها البارحة من الخضاب على غير طهارة، فكل جسد البنت يتبدل مع روح الطَّمْث، تصير لجلدها مرارة شيطان تحبس الرغبة، تفصد الأرواح وتمص سوادها الشرير”([154]). ودلالة الجسد الأنثوي في المقطع السابق تكمن في بنيته المقدسة التي أوجدتها لغة التطهر.

وفي مقطع آخر تقول:

“حذرتُكِ من الخضاب حتى تطهري، سيسري الطَّمْثُ في عروق الحناء ولن تطهري حتى يزول هذا السواد والحمرة…”.

وللحناء سحره ولغته السرية لدى الشخصية الأنثوية من وصفها بالعروس، تقول: “داخلة في حجب الحناء وحجاب النشاء فلا يسرِّب ملاحتها لحسد عابر أو فضول كمين، طالعة بطلاسم الحناء…” ([155]).

وطلاسم الحناء هي تلك الرسوم والأشكال التي تنكتب على الجسد بصورة بصرية تقي الجسد الأنثوي من الشر عند بعضهم.

فللحناء حجبه وأغطيته السرية التي تمارس فيها الأنثى لعبتها الجسدية أمام الرجل العريس الذي تنفتح عيناه على تلك الكتابة ونقوش الحناء ليدخل علام تنسج حوله الخيوط والخطوط.

وفي موضع آخر: “هبطت نارة في أثر الصينية فتربعت في الروشن فقسمت كوم الحناء ثلاثة مفارق، مفرق لمن ترغب من الحاضرات، ومفرق لقدميها وكفيها، ومفرق تربعت به أمام جَمُّو وغطت قدميها ورقشت حوافها بالمعجون الأخضر الذي فاحت روائحه فطردت أرواح الدم من المكان، ومن شقوق القلاليب رصدنا حيوانات الحناء الخرافية تتعرَّش ببردها على أجساد النسوة المحظورة على كل حيوان وحي”([156]).

وهذا النوع من الطقوس الأنثوية لدى المكيّات استطاع أن يعطي بعدًا دلاليًا كبيرًا جاء الحناء من خلالها طاردًا للعين والحسد وللأرواح الشريرة، كما أصبح للحناء كائناته وحيواناته الخرافية التي لا يراها سوى هؤلاء النسوة.

وإذا كان الطقوسي هو الأفق الذي تتبين داخله بشكل غني ودقيق كل أنماط ظهور المقدس في أشكالها الرمزية والتخيلية واللغوية والجسدية. فإن تلوّن الجسد الأنثوي بالحناء وكتابته عليه في مراسم الزواج يمثل تلونًا للجسد القرباني لأن كل أضحية تفترض بشكل ملازم لها سيلان الدم. بوصفه فعل تطهير للأضحية القربانية من دمها المدنس.

وعلى مستوى آخر يجيء الرسم على الجسد في رواية (الآخرون) لصبا الحرز معبرًا عن علاقة الجسد بالآخر.

تقول: “خبئيني داريني، هنا، في مكانك السرّي هذا،.. ارسمي على جسدي فوق جلدي مباشرة بلا مسافات ولا عوازل، ارسمي بألوانِك كلها، وكأني آخر لوحاتك على الإطلاق سيمحو رسمكِ عبث سواك، ألا يروقك نطق جسدي…” ([157]).

بالجسد تغيب الشخصية وتتماهى في جسد الآخر مولدة بذلك نصًا تشكيليًا واحدًا.

وتقول في موضع آخر معلنة شهوة الرسم وخربشة الذات:

“كنتُ أكثر طواعية هذا العام… وتحولتُ إلى حائط للخربشة. كان هناك الكثير من الكتابات غير المفهومة وأخرى جيدة، وبعض النحت، وكذلك كان هناك خربشات بذيئة وكلمات محرمة”([158]).

وليس إحساس الشخصية الأنثوية بالكتابة الجسدية إلا نوعًا من إظهار هويتها المنزوعة منها، فالمرأة تبحث عن جسدها في جسد أنثوي آخر، كنوع من التمرد على سلطة الخطاب الذكوري الذي مازالت تعيش قمعه ووأده.

وشخصية دارين الفنانة التشكيلية هي التي أعطت جسدها الأنثوي نوعًا من الجنون العبثي لممارسة الرسم وذلك باعتبار الجسد الآخر مساحة بيضاء للكتابة والارتواء.

الأمر الذي يدل أن ثمة خطيئة يكتبها الآخرون بمستوياتهم المختلفة، لتنطلق بعد ذلك في بحثها عن الحرية والجرأة والحب التي سرعان ما تطغى عليها هموم الذات وأزمة الوجود وفلسفة الخلاص.

الخاتمة

لم يكن من السهل على أن أتناول خصائص السرد النسوي في الرواية النسوية السعودية في ضوء نظرية النقد النسوي الغير قارة  بمنهج تحليلي وانظر إلى إمكانية ما هو جديد في الرواية النسوية العربية في السعودية التي ظهرت مع ظهور الذكورية (المكتوبة بيد الرجل) في رواية ودعت آمالي لسميرة خاشقجي بنت الجزيرة عام 1959م كأول رواية بالمعنى الفني وكذلك رواية ثمن التضحية لحامد دمنهوري والصادرة عام 1959م

  • كشف لي البحث عن تتداخل الأجناس الأدبية في الرواية النسوية العربية في السعودية من قصة قصيرة، شعر فصيح، وأغنية شعبية، وفن تشكيلي، وتداخل لوني وهذا يدل دلالة واضحة على سيطرة الجنس الأدبي أقصد الرواية على كل الفنون.
  • تبين لي أيضًا أن الرواية النسوية العربية في السعودية سطرت ملحمة الوجود الأنثوي كبطلة في كل الأحداث الروائية في مواجهة الرجل من أجل التخلص من  هيمنة السلطة الذكورية عليها لتعيش بحرية مسئولية أمام أعراف وتقاليد المجتمع..
  • لاحظت من خلال الدراسة أن الرواية النسوية العربية في السعودية تفاوتت في توظيف الزمن الروائي فمنهن من حرصن على تبطئ الزمن للوقوف على المكان كما في رواية توبة وسليى لمها الفيصل والبحريات لأميمة الخميس ومنهن من أهمل الوصف واهتمت بتلخيص الأحداث وتسريع الزمن من أجل تبين لي استخدام تقنيات السرد النسوي من خلال الهدم والبناء والصدام الثقافي والتمرد الفردي للأنثى وعبورها للجماعية والنسبية في السرد والتقطيع الزمني والسرد الشبكي.كما اعتمدت الرواية النسوية في تشكيل البنية السردية على سرد الاسترجاع و أن هناك روايات بنت شكلها على السرد التصاعدي كما ظهر سرد الاستشراف في الرواية الحديثة في توظيف التقنيات الحديثة للولوج في البنية السردية للحدث الرئيس مباشرة عن طريق الاستدعاءات المباشرة وحديث النفس.والطاقة التكرارية وتناسل السرد والتوتر والإضمار سمات تميز بها السرد النسوي.
  • لقد تبين لي علاقة البطلة في الرواية النسوية بالمكان لتأنثه وخاصة المكان الخارجي هي علاقة تمرد على المكان المحلي (السعودية) للتعبير عن الحرية للمرأة  ضد القهر الذكوري والعرفي المفروض عليها من قبل المجتمع.
  • اتضح لي أن هناك أسلوبين من الكتابة النسوية مختلفين في طريقة استخدام اللغة وصفًا وحوارا وسردا فكان الجيل الأول والثاني يتمتع بلغة تراثية ومعجمية تقليدية إخبارية ووصفية وإيحائية وتقريرية  أما الجيل الثالث فكان لغته متحررة من قيود الشكلية والتقليدية ودخلت اللهجة المحلية ولغة الفيس بوك والشات المتداولة في وسائل الاتصالات الحديثة مما أضفى عليها ضعفًا ملحوظًا في اللغة والتراكيب الأسلوبية  
  • تم رصد اللغة السرية في أغلب روايات الدارسة فرأيت أنها جاءت بضمير الغائب على لسان البطلة مما شهد على حالة القلق والتوتر التي تعيشه الأنثى في ظل المكان المحلي.
  • تتبعت الطرق السردية للرواية النسوية السعودية فظهر لي أن بداية الرواية النسوية العربية في السعودية حاكت الرواية بشكل عام في بلاد الشام ومصر والعالم الغربي ومرجع ذلك إلى استخدام وسائل الاتصالات الحديثة وثورة التقنية  في استخدام التقنيات الحديثة في السرد من مونولوج داخلي مباشر وغير مباشر والهدم والبناء،  والتمرد الأنثوي، على قهر الرجل لها، واستخدامها للسر الشبكي وأبجدية الجسد الأنثوي في الكتابة والوشم لإثبات الهوية لها والسعي للحرية في الحياة العامة.
  • وأخيرًا فإن الرواية النسوية العربية في السعودية لا تزال ميدانًا خصبًا للعديد من الأبحاث والدراسات النقدية الحديثة مثل ظاهرة اللغة واللون والرائحة والرسم والفن التشكيلي واستدعاء السير الشعبية وتوظيف المثل الشعبي والأسطورة والحكاية الخرافية. وفق نظرية النقد النسوي الحديث.
  • ………………………

([1]) حنان مصطفى كتوعة، (عندما ينطبق الصمت)، جدة، دار العلم، 2003م، ص15.

([2]) نفسه، ص12.

([3]) حنان مصطفي كتوعة، عندما ينطق الصمت، (م.س)، ص18.

([4]) نفسه، ص35.

([5]) نفسه، ص54.

([6]) نفسه، ص54.

([7]) نفسه، ص57.

([8]) نفسه، ص201.

([9]) رشا ناصر العلي، ثقافة النسق قراءة في السرد النسوي المعاصر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2010م، ص428.

([10]) قماشة العليان، عيون قذرة (م. س)، ص119.

([11]) نفسه، ص161-162.

([12]) عيون قذرة (م. س)، ص198.

([13]) عيون قذرة (م. س)، ص311-312.

([14]) رشا ناصر العلي، ثقافة النسق (م. س)، ص429.

([15]) سميرة خاشفجي، قطرات من الدموع، منشورات المكتب التجاري، بيروت، لبنان، 1973، ص19.

([16])نفسه، ص52.

([17]) نفسه، ص57.

([18]) نفسه، ص56.

([19]) نفسه، ص63.

([20]) أرزويل، العابرة المكسورة الجناح، شهر زاد ترحل إلى الغرب، ترجمة فاطمة الزهراء، ط1، المركز الثقافي العربي، 2002م،، ص42.

([21]) سميرة خاشفجي، قطرات من الدموع، ص71.

([22])  نفسه، ص72.

([23])  نفسه، ص85.

([24])  نفسه، ص87.

([25])  سميرة خاشفجي، قطرات من الدموع، ص95.

([26])  نفسه، ص97.

([27])  نفسه، ص100.

([28])  سميرة خاشفجي، ودعت آمالي، ص5

([29])  نفسه، ص5.

([30])  نفسه، ص85.

([31]) رشا العلي، ثقافة النسق (م. س)، ص431.

([32]) يمني العيد: في معرفة النص، دار الآداب – بيروت، لبنان، 1999م، ط4،  ص13-15.

([33]) عبد الله الغذامي: المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1996، ص 79.

([34]) بثينة شعبان: 100 عام من الرواية النسائية العربية، منشورات دار الآداب، بيروت، 1999م، ص25.

([35]) رفيق صيداوي: الكاتبة وخطاب الذات، ص13.

([36]) محمد نور الدين أفاية: الهوية والاختلاف، دار إفريقيا الشرق الدار البيضاء، 1998م، ص59.

([37]) الغذامي: المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1996م، ص153.

([38]) إلهام منصور:  رواية (حين كنت رجلاً)، رياض الريس للكتب والنشر، 2002م،  ص200.

([39]) فوزية أبو خالد: موقع كتابة المرأة، مجلة النص الجديد، 1998، ص299.

([40]) مريم كوك: الكاتبات العربيات، ترجمة أبو بكر باقادر، نادي أدبي جدة، 2002م، ص649.

([41]) جابر عصفور: زمن الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م، القاهرة، ص124-125.

([42]) حسن النعيمي: رجع البص، قراءات في الرواية السعودية، نادي أدبي جدة، 2004م،  ص34.

([43]) ر. م. ألبيريس: تاريخ الرواية الحديثة، عويدات للنشر والطباعة، 1982م،  ص7.

([44]) جوليا كريستيفا: علم النص، ترجمة، فريد زاهي، مراجعة عبد الجليل ناظم، دار طويقال، المغرب، ط2، 1997م، ص9.

([45]) رولان بارت: الكتابة في درجة الصفر، ترجمة تحقيق محمد نديم خشقة، مركز الإنماء الحضاري، دار المحبة، القاهرة، 2009م، ص25.

([46]) عادل الخضر: يحكى أن، مقالات في التأويل القصصي، دار المعرفة للنشر، تونس، 2006م ص93.

([47]) عبد الله إبراهيم: السردية العربية الحديثة، ص73.

([48]) إبراهيم نصر الله: الرواية وعولمة الذاكرة، ضمن كتاب: أفق التحولات في الرواية العربية، ص8.

([49]) يحكى أن، ص96.

([50]) محمد اليوسفي: استكشاف الذات وابتناء ذاكرة المستقبل، ضمن كتاب: أفق التحولات في الرواية العربية، ص91.

([51]) نقلاً عن رفيف صيداوي: الكاتبة وخطاب الذات، حوارات مع روائيات عربيات، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005م, ص11-12.

([52]) رضا الظاهر: غرفة فرجينيا وولف، دراسة في كتابة النساء، دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع، 2001م، ص10-11.

([53]) انظر: عبد الله الغذامي: حكاية الحداثة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2004، ص 60.

([54]) عبارة لأنطونيو غرامشي، نقلاً عن سليم دولة: الثقافة الجنسوية الثقافية، 1997م، تونس (الذكر والأنثى ولعبة المهد)، ص107.

([55]) نورة الغامدي، وجهة البوصلة، ص10.

([56])  انظر أميمة الخميس، البحريات، ص85 – الآخرون، ص95.

([57])  نفسه، ص96.

([58])  أميمة الخميس، البحريات، ص103.

([59])  هيفاء البيطار، امرأة من طابقين، مكتبة الميرا اللاذقية، سوريا، ط1، 1999م.

([60])  أميمة الخميس، البحريات، ص113.

([61]) ثقافة النسق (م.س)، ص432.

([62]) تيار الوعي في الرواية الحديثة، روبرت همفري، ترجمة: محمود الربيعي، القاهرة، دار غريب، 2000، ص84-85.

([63]) أميمة الخميس، الوارفة، دار المدى، ط2008م، ص290.

([64])  نفسه، ص24

([65])  نفسه، ص143.

([66]) نفسه، ص16.

([67]) الوارفة، أميمة الخميس، دار المدى للثقافة والنشر، سوريا، 2008م، ص28.

([68]) نفسه، ص57.

([69]) نفسه، ص104.

([70]) نفسه، ص153.

([71]) نفسه، ص154.

([72]) رشا العلي، ثقافة النسق (م. س)، ص432.

([73]) محمد نور الدين أفاية: “المتخيل والتواصل”، (مفارقات العرب والغرب)، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1، 1999، ص9.

([74]) الحسين الحايل: “الخيال أداة للإبداع”، مكتبة المعارف، ط1، 1988، ص25.

([75]) محمد نور الدين أفاية: “المتخيل والتواصل”، مرجع مذكور، ص8-9.

([76]) عبد النبي ذاكر: “الواقعي والمتخيل في الرحلة الأوروبية إلى المغرب”، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أغادير، 1997، ص26.

([77]) محمد برادة: “المرأة والإبداع في مواجهة الدونية والسيطرة الذكورية”، مجلة “العربي”، الكويت، عدد 543، 2003، ص86.

([78]) محمد نور الدين أفاية: “المتخيل والتواصل”، ص7-8.

([79]) رشيدة بن مسعود: “المرأة والكتابة: سؤال الخصوصية، بلاغة الاختلاف”، أفريقيا الشرق، ط1، 1994، ص43.

([80]) حميد لحمداني: “كتابة المرأة من المونولوج إلى الحوار”، الدار العالمية للكتاب، ط1، 1993، ص24.

([81]) جورج طرابيشي: “رمزية المرأة في الرواية العربية”، دار الطليعة، بيروت، ط11، أيلول (سبتمبر)، 1985، ص65-66.

([82]) سوسن ناجي، “المرأة في المرآة”، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1989، ص11.

([83]) سميرة خاشقجي: “بريق عينيك”، 1979م، منشورات زهير بعلبكي، ص159.

([84]) محمد غنيمي هلال: “الرومانتيكية”، ص186.

([85]) سميرة خاشقجي: “بريق عينيك”، ص30-31.

([86]) محمد غنيمي هلال: “الرومانتيكية”، دار العودة، بيروت، 1986م، ص178.

([87]) سميرة خاشقجي: “بريق عينيك”، ص197، 199.

([88]) محمد هلال:  “الرومانتيكية”، ص87.

([89]) أمل محمد شطا: “غدًا أنسى”، الكتاب العربي السعودي، ط1، 1400هـ/ 1980م، ص21.

([90]) محمد هلال: “الرومانتيكية”، دار العودة، بيروت، 1986.

([91]) أمل شطا: “غدًا أنسى”، ص21.

([92]) نفسه: ص122، 123.

([93]) نفسه: ص7.

([94]) محمد هلال: “الرومانتيكية”، ص202.

([95]) من هؤلاء النقاد الذين أخذوا على الكاتبة هذا المأخذ د. محمد الشنطي في كتابه “فن الرواية” في الأدب السعودي المعاصر، ج2، 2003م، دار الأندلس للنشر والتوزيع، حائل، المملكة العربية السعودية.

([96]) انظر على سبيل المثال: رواية (لا عاش قلبي) لأمل شطا، ورباط الولايا، هند باغفار.

([97]) رشا العلي، ثقافة النسق (م. س)، ص434.

([98]) رجاء الصانع، بنات الرياض، 2005م، ص13.

([99]) رجاء عبد الله الصانع، “بنات الرياض” صدرت عن دار الساقي في بيروت، 2005م.

([100]) نفسه، ص26.

([101])  نفسه، ص26.

([102])  نفسه، ص73.

([103])  نفسه، ص149.

([104])  نفسه، ص161.

([105])  نفسه، ص268.

([106])  نفسه، ص15.

([107])  نفسه، ص166

([108])  نفسه، ص191.

([109])  نفسه، ص234

([110])  نفسه، ص103.

([111])  نفسه، ص16.

([112])  رشا العلي، ثقافة النسق، 2010م، ص434.

([113]) الرجاء الصانع، بنات الرياض، ص28.

([114]) الرجاء الصانع، بنات الرياض، ص5.

([115]) نفسه، ص77.

([116]) نفسه، ص77.

([117]) نفسه، ص32-33.

([118])  نفسه، ص53.

([119])  نفسه، ص87.

([120])  نفسه، ص92.

([121])  نفسه، ص94.

([122])  نفسه، ص203.

([123])  نفسه، ص136.

([124])  نفسه، ص141.

([125]) نفسه، ص141.

([126]) نفسه، ص66.

([127]) نفسه، ص171.

([128]) نفسه، ص94.

([129])  نفسه، ص191.

([130]) نبيلة محجوب، محور الشر، الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2006، ط1، ص39-40.

([131])  قماشة العليان، عيون قذرة، ص40.

([132]) نفسه، ص7.

([133]) نفسه، ص318.

([134]) سعوديات، سارة العلوي، فراديس للنشر والتوزيع، البحرين، ط1، 2006، ص170.

([135])  نفسه، ص102.

([136])  نفسه، ص68-69.

([137]) رشا ناصر العلي، ثقافة النسق قراءة في السرد النسوي المعاصر، م. س، ص440.

([138]) أميمة الخميس، البحريات، ص178-179.

([139]) نفسه، ص76.

([140])شيرين أبو النجا، نسائي أم نسوي، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2002م، ص127.

([141])بيار يورديو، الهيمنة الذكورية، ترجمة: سلمان قعقراني، المنظمة العربية للتربية للترجمة، بيروت، 2009م، ص28.

([142]) محمد فكري الجزار،العنوان سيميوطيقيا الاتصال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998م، ص74.

([143]) نفسه، ص75.

([144])عبد الله إبراهيم، السرد النسوي، المؤسسة العربية للنشر، بيروت، 2011م، ص217.

([145]) مجلة تايكي، عمان، الأردن، عدد خاص بالكتابة النسوية، العدد الثامن عشر، عام 2004م.

([146]) سارة كامبل، النسوية وما بعد النسوية، ترجمة: أحمد الشامي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002م، ص254.

([147])  هيلين سيكسو: هي كاتبة وناقدة فرنسية عاشت في الجزائر من كتبها (أحلام المرأة الوحشية).

([148]) مجلة تايكي، العدد الثامن عشر، عمان، الأردن، 2004م (م.س).

([149]) عبد الله إبراهيم، مجلة عمان، الأردن، العدد 38، السنة الرابعة، 2005.

([150]) مجلة تايكي العدد الثامن عشر، 2004م، ص27.

([151]) سعيد بنكراد، النص السردي، نحو سيميائيات للأيديولوجيات، دار الأمان، الرباط، 1996م، ص111.

([152]) عبد الفتاح أبو مدين، الرواية وتحولات الحياة في المملكة العربية السعودية، النادي الأدبي بالباحة، 1422هـ، ص255، ملتقى الباحة الثقافي الثاني، 1428هـ.

([153]) رجاء عالم، طريق الحرير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 1995م، ص63.

([154]) رجاء عالم، سيدي وحدانه، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 1998م، ص26.

([155]) نفسه، ص28.

([156]) نفسه، ص166.

([157]) صبا الحرز، الآخرون، دار الساقي، لندن، 2006م، ص212.

([158]) نفسه، ص254.

مقالات من نفس القسم