مريم الشكيلية
الحلم
أتذكر تلك اللحظة التي استيقظت فيها برعب يخطف الأنفاس بنبض مرتعش كعصفور مبتل تحت المطر.. كان حلماً.. كان حلماً.. بشفتين باردتين أتمتم.. كنت أغوص في الحلم، رأيتني وحيدة في صحراء برتقالية وثلاث مرايا تطاردني.
ثلاث مرايا تحاصرني تلحق بي أينما ذهبت، كنت أركض في كل اتجاه، وقدماي تغوصان في الرمال الحريرية. كانت المرايا تشدني إليها تجرني إلى النظر في انعكاس صورة لبقايا وجه طفلة وليس وجهي.
كنت أرى تلك الخدوش العميقة على وجهها وكانت تبتسم لي رغم نزيف الدمع من عينيها، والتشققات التي حفرت على وجنتيها عود نبت يتنفس ويخرج من تلك التشققات العميقة. أحاول أن أختبئ بيدي من صورة المرايا ومن ملامح وجه صغير تستيقظ الضحكات في حدود ثغرها والكحل الأسود يسيل كالنهر على طول خديها.. أحاول أن أشيح بوجهي وفزعي من تلاحق الصور أمامي ذاك الوجه الملائكي الصغير الذي تكاثر فيه الخراب حتى بدأ يتهاوى شيئا فشيئا ولا يستند إلا بتلك الضحكات الباردة على شفاه جافه. أحاول أن أنتشل نفسي من ذاك الحلم وصور المرايا التي حبست ببرواز حديدي أسود كالختم.. أحاول أن أجدف بعداد عمري حتى أطفو فوق سطح الحياة وأنسلخ من تجاعيد حلم..
وجدت قاربا من الورق الأبيض وعليه شراع مثبت بعمود قلم وصعدت عليه على موج هائج أبحث عن مرسى وكلما تمددت المسافات بيني وبين ذاك الحلم أرى اختفاء المرايا الثلاث وتلاشي الصور وتتضاءل ملامح الوجه الصغير.
***
خريف أيلول
أعلم إنك تنتظر مني حرفاً بنكهة القهوة والمطر منذ الرسالة التي وصلتك زحفاً منهكة التعب، كنت أنتظر خريف أيلول عند عتبة السطر بشيء من الهطول الكتابي إلا إنني تعثرت بظل فراغ علق بقلمي..
كأن اصفرار أيلول تشبث بي حتى آخر قطرة حبر.. الآن لا أفعل شيئا سوى إنني أبعثر نظراتي في كل اتجاه.. هل أخبرك إنني تعبت حقاً من هذا الزحام الذي يحيط بي ويعبرني ومن الأشياء التي لا أملك حتى مقاربتها والأصوات التي تزاحمني.. تعبت صدقاً من آلاف الأحرف التي تسير في شوارعي وتفلت يدي عند آخر السطر. أجلس الآن وحدي متوسدة الفراغ الورقي أجمع بعضي لعلني التقط أنفاسي الهاربة مني.. أجلس قابعة تحت ظلال الورق الأصفر مفخخة بالكثير من الأحاديث والأشياء وكذا الشعور.. لا أعلم ما الشيء الذي يسلب مني ربيع حرفي ويتركني مستنزفة من كل شيء.. لا أقوى حتى على مد أصابعي لأفتح نافذتي.
***
رسائل فوق سطح ورق
لأول مرة يتصادف أن أكتب رسالتين في أسبوع واحد وفي توقيت واحد.. أتعجب من غزارة قلمي حين يسرع بي إلى حقول الورق في مواسم الفراغات الملبدة بالضجر..
هل كنت تتصور أن تأتيك أمواج مفرداتي كالمد بعد أن كانت تعتصم في صومعة الاعتكاف اللغوي..
هل كنت لتصطدم بهذا الكم الهائل من الأبجدية وهي تقرع بابك في منتصف فصل وفي الرابعة إلا وجعاً..
أحيانا لا أعرف ماذا أقول في تلك المساحات الكبيرة من الأسطر التي تمتد إلى ما بعد الورق..
أحيانا أردت أن آخذك إلى ذاك الصمت الذي يقول كل شيء ويكتب بكل أحرف الهجاء..
أتخيلك تتساءل الآن كيف لأنثى أن تأتي بي إلى حشائش السطور المكتظة بربيع الكلمات وهي تزهر بثوب الأبجدية لا الألوان.. هل تعلم كيف أثقل الورق بوابل من الكلمات كأنني أسير بسرعة على رصيف ضيق وأتعثر بثوبي الطويل وأسقط على الأرض الصلبة وتتبعثر المفردات من جيوبي وتصطدم بك بسرعة الضوء..
لا تتعجب إن كنت تقرأ عفوية سطري دون إن تجد ما أود قوله لربما كنت فقط أردت أن أتحدث إلى ذلك الوقت الضئيل الفارغ منك..
أردت أن أستحضر حرفك المتمدد على مسند قلمك وكأنك سيد الظل الجالس بوقار صمتك وأبجديتك..
**
خريف وظل حرف
منذ أن عدت من ذاك السهل الخريفي الممطر وأنا أشعر بترف الشعور وكأنني أرتشف الكتابة على مهل وبضجر متعمد..
منذ أن وصلت إلى أول السطر وأنا أحاول أن أنسج نصاً على ناصية ثوب أبيض وأرتديه كشال حريري..
كأنني أفرغت آخر قطرة حبر على ذاك الرصيف المبلل وتركت نفسي أسبح فوق سطح غيمة لا حدود لها..
وكأن قرطاسية الورق تطير كطائر حر على مستوى منخفض حتى يخيل إليك إن جناحيه تلامس رمش عينيك..
هل اختبرت مرة ذاك الشعور بالوهن الكتابي؟! في حين أن الكلمات تصطف كتلاميذ مدرسة على طول شوارع مخيلتك تنتظر أسطرك الخالية من موسيقى الحرف..
إنني أتورط في هذا الترف الكتابي وكأن حروفي أنثى تمشي بأحذية عالية وعلى أنغام وتر وريش..
هل تصورت يوماً إن المفردات ستغفو على راحة قلمك بذاك السكون الخيالي؟! إنني أطلق سرب حمام أبجديتي تغادر أقفاص الورق بعد أن وعدتك بأن ترتشف رسالتي الأولى بعد عودتي من فصل خريفي أخضر..
بعد أن كانت الكلمات تنتظم في ذاكرتي كأنني أكتبها فوق سطح منضدة في حين إنني كنت أجمع تفاصيل أكثر الأشياء جمالاً واستبدلها بتفاصيل أشد تعباً واكتظاظا في دهاليز يومي..
سأعاود الكتابة بعد أن أتحرر من هذا الوهن الذي يبقيني على حافة جرف ضيق.. بعد أن تصلك هذه الرسالة لربما حينها قد استبدلت رخوية قلمي وأخرجني من شراشف الضجر واستطعت أن أزيح بأصابعي المترنحة ستائر ورقي حتى يتسلل ذاك الضوء الشمسي إلى شرايين سطري.