عُرف عن جبور دويهي قدرته علي السرد والوصف الدقيق، إلا أنه في روايته “حي الأميركان” كانت للروائح دور قوي وبارز، تنقلنا ما بين الحياة والموت، الماضي والحاضر، المادي والروحي، بين بهجة الحياة وملذاتها التي تثير الحنين لأزمنة ما قبل الحرب، وبين ما يخلفه الموت من بصمة ذات رائحة كريهة منفرة تُجهد معها الروح لاستيعابها، ليتجلى دور الروائح المختلفة في تغيير مصائر الأبطال بصورة سحرية تتقاطع خلالها ذكرياتهم المشتركة المرتبطة بالروائح.
كانت رحلة شخصيات الرواية من وإلي “حي الأميركان” تُظهر مدي اختلاف هذا الحي البائس الذي يقع بالقرب من ضفة نهر عن المنطقة الواقعة في الضفة الأخرى، يصف دويهي الروائح بدقة والتي تعكس هذه الاختلاف ويقول “مياه العاصفة لا تزال تسيل علي الأدراج رغم انفراج السماء، تجرف نفايات الأحياء العليا وتبعثرها في أرجاء “حي الأميركان” بالتساوي. رائحة البوريك الطالعة من المصبنة لا يعبأ بها الرجل العجوز الجالس في بابها، إلي رائحة السمك الأبو شوكة من سلة البائع المنادي” هكذا تصحبنا الروائح من حيث تقطن انتصار بطلة الرواية لـ “دارة عبدالله العزام” علي الضفة الأخرى حيث تعمل.
انتصار
تُجبر الروائح الأبطال علي ممارسة سلوكيات يومية، حيث تبدء انتصار عملها في دار سيدها بفتح الشبابيك لتُخرج روائح الليل من نبيذ ودخان سجائر وغيرها، تبدد العتمة وتتطاير ذرات الغبار في خطوط مستقيمة تطاردها أشعة الشمس وندرك حينها كيف يعيش عبد الكريم في وحدة مطلقة، حيث يمارس طقوسه من السكر طوال الليل يناجي محبوبته الغائبة.
تكشف لنا الروائح أيضا علاقة عبد الكريم بمخدومته انتصار حيث اعتادا سويا تقطير ماء الزهر، وعجن حلاوة الأرز، فتعود في نهاية اليوم إلي “حي الأميركان” ورائحة “عطر الليمون” في ثيابها، إلا أن هذه العلاقة تغيرت بعد أن ارتدت انتصار “الجزدان” بناء علي طلب ابنها البكر إسماعيل، فامتنع عبد الكريم عن مجالستها في المطبخ مثلما اعتاد، ولم تعد رائحة الليمون تزور حي الأميركان متعلقة في ثياب انتصار.
تنقلنا الروائح بخفة لتلك التغيرات التي تطرأ فجأة علي “حي الأميركان” وظهور الموت متجلياً في لحظة ظهور جثثي شابين جرفتهما المياه في النهر، ثم وقوع الفجيعة الكبرى بعد سقوط عشرات القتلى التي لم يحصيهم الكاتب، بل ترك مدير المستشفى حائراً ماذا يفعل بهؤلاء القتلى الذين وصلت “رائحتهم” إلي كل مكان.
تختفي رائحة الليمون والأطايب تدريجياً لتحل محلها رائحة البارود والسجائر والدم حيث يسهر المقاتلون ليلاً للتدخين والتخطيط لعمليات جديدة تهدر أرواح كثيرة، ونري بلال محسن زوج انتصار تجحظ عيناه بعد أن انطفأت رائحة الرصاص وعبقترائحة الدم وحدها الغرفة كما يقول الكاتب.
عبد الكريم
رائحة الموت التي تدفع والد عبد الكريم لاتخاذ قرار بترك نجله للبنان خوفا عليه من المصير الذي يلقاه الشباب نتيجة الحرب الأهلية ويجعله يسافر إلي فرنسا، تمر السنوات ويعود مرة أخري إلي بلدته وما أن وصل داره حتى أغمض عينيه عميقا وأنتظر أن تصله رائحة البحر، وكلما بذل مجهود أكثر لا يصله من الروائح المبعثرة سوي مازوت السيارات العمومية العابرة.
تصحبنا الذكريات لاعتياد عبد الكريم خلال فترة اقامته في فرنسا علي الافتخار برائحه “زهر الليمون” التي تعبق داره في لبنان وتستغل عتمة الليل كل بداية ربيع، لإغراق سوق المدينة القديمة إذا ما كان الهواء مؤاتيا، وكان يبالغ في وصفه بأن العطريصل إلى التكية المولوية في اعالي النهر، يسكر منه الدراويش الدوارون.
لا يهتم عبد الكريم سوي بعدد من الأشجار التي عاد بها من فرنسا من بينهم شجرة “البونزاي” التي كلما اشتم رائحتها اشتعل داخله الأمل من جديد في عودة محبوبته راقصة البالية فاليريا التي هجرته دون سابق إنذار وتركت له هذه الشجرة يرعاها كما طلبت منه في رسالة.
كان اختفاء رائحة الليمون في رواية “حي الأميركان” كفيلة لإدراك التغيرات التي طرأت علي البلدة وذلك بعد أن سأل عبد الكريم عمته التي استضافته بعد عودته من باريس حول اختفاء الزنار الأخضر الغامق الذي يؤطر البلدة، فأوضحت له أن الأشجار تم قطعها بقسوة وبيعها حطب ولم يبال أحد بالليمون بل بأسعار الأراضي التي ارتفعت.
إسماعيل
رائحة “الزعرور البري”التي تنقذ حياة عشرات الأبرياء من تفجير كاد أن يقوم به هذا الشاب الذي تحول من حياة الصعلكة لإرهابي يخرج من لبنان من أجل الجهاد في العراق كما أقنعه ياسين الشامي صاحب المخبز الذي يعمل فيه والمسئول عن تجنيد الشباب في خلايا إرهابية تقوم بعملياتها في البلدان العربية، وتبدأ رحلته من أجل الجهاد _كما يظن_ في حاوية تضم عدد أخر من الشباب من جنسيات مختلفة كلهم مشاريع إرهابيون سيقومون بتنفيذ عمليات إرهابية في بلدان مختلفة، وسيظل إسماعيل يتذكر رائحة الحاوية العطنة التي اختلطت برائحة أجساد من رافقوه للجهاد في العراق.
تلاحظ انتصار والدته التغيرات التي طرأت عليه حيث أطلق لحيته وتخلي عن أصدقائه، وانضم للعمل في هذه المخبز، لتختفي مع عمله رائحة الخمر والسجائر، لتحل محلها رائحة معجون الأسنان والمعجنات والمناقيش واللبنة وزيت الزيتون وأرغفة الخبز.
مشروع الإرهابي الذي لم يتم بعد أن عاد إلي رشده قبل الضغط علي زناد المتفجرات مستنجدا بذاكرته ورائحة شجر “الزعرور البري” تلك الشجرة التي طلب من عبد الكريم الذي تعمل عنده والدته انتصار أن يعطيها له ليرعاها وذلك في تلك المرحلة التي سبقت اعداده لإرهابي.
ياسين الشامي
بينما تنبعث من مخبزه رائحة المعجنات الطيبة الخيرة، نجده يعد الشباب بأفكاره المسمومة والتي تحمل رائحة الموت في مخزنه خلف المخبز، رغم ظهوره القليل في الرواية إلا أنه واحد من الشخصيات المحورية، واستطاع دويهي أن يرسم حدود هذه الشخصية بإتقان تلك التي تتخذ من الورع والتقوي الظاهري أسلوب حياة، وتقديم يد العون لأبناء المسلمين من خلال الأعمال الخيرية، بينما دوره الحقيقي هو إعداد الإرهابين وإرسالهم لتفجير أنفسهم بين الأبرياء في دول مختلفة تحت ما يسمي بـ “الجهاد”.
بعد انتشار فيديو عن إسماعيل يتحدث فيه عن إقدامه علي عمل إرهابي تنقلب الدنيا في “جي الأميركان” بحثا عنه، تعود الرائحة مرة أخري لربط أحداث الرواية ويصف دويهي شعور ياسين الشامي بعد أن هاجمته روائح العذاب التي يقول عنها “أتاه الألم موجات متلاحقة وعادت إليه روائح السجون، لكل سجن جرجروه فيه رائحة في ذاكرته”.
عن الروائح
نجح جبور دويهي في هذه الرواية اتقان المقارنات من خلال وصف الروائح المتعددة والمختلفة دون تكرار لنقل رؤي واختلاف الحياة ما قبل سيطرة المادة والتيارات المتشددة وغيرها من التغيرات السياسية التي عاني منها لبنان، وخاصة روائح الدم والدخان والقتل في “حي الأميركان” وذلك من خلال اختزاله للوطن في هذا الحي.
ونري رمزية شخصية انتصار بطلة الرواية التي تعكس لبنان الذي يتغير ولكن يظل جميل، وثقتها في ولدها الذي لم يقم بتفجير نفسه، وخلعها للأسود متحدية الجميع الذين لا يعرفون أنه مازال علي قيد الحياة، والقائها بالجزدان وعودتها لارتداء سروالها الجينز الضيق، والعمل عند سيدها عبد الكريم، ربما اعادتهم الحياة لرائحة الخبيز مرة أخري، تغلبت فيها فرحة الحياة مثلما تغلبت في ولدها رائحة الحياة.
تنتظر انتصار الربيع القريب وزهر الليمون لتصنع منه ماء تُبقي رائحته في جسدها أياما.
…………………….
*كاتبة وصحافية مصرية