فالسينما التي تخلصت من مراهقة جعلت البعض يصفها بفن التسلية لتتقعر، وتضع منظاراً طبياً علي عينيها، وتتشدق بجمل خطابية لتتصنع النضج، وتدعي أنها تحمل رسائل قيمية لهذا العالم، قد تتعارض مع فلسفة الفن الذي لا يجب ان تكون آلياته محددة مسبقاً، ولكن عليه أن يكون مباغتاً بل وصادماً في بعض الأحيان، فالسينما وسيط لا يحمل رسائل sms مباشرة بقدر ما يحمل أفكاراً ليس مهماً ان نثقلها بسيميولوجيا المَعنِي بها المتلقي أكثر من صانع الدراما الذي يتحمل مسئولية حياكة الافكار.
ومن هذا المنطلق يأتي تفرد سينما مصطفي ذكري، الذى درس السينما فأغوته الرواية، وكلاهما وسيط فني يحمل الأفكار بل ويتبني وجهة نظر واحدة تخص مبدعها، فشخصية مصطفي ذكري الروائية تبرز في كتابته للسيناريو، فهو يكره القواعد ويتمرد علي الاشكال الموروثة، وينطلق من حيث لا يتوقع الآخرون ملتزماً بقوانين تخصه، وفي السينما يلتزم بالقانون الذي ينص علي أنه لا قانون في كتابة السيناريو، فلا توجد خريطة يمكن الاهتداء بها لتقديم عمل درامي جيد، فلكل كاتب حرية الانطلاق من بداية حكايته أو منتصفها أو حتي إلقاء الحكاية برمتها في سلة المهملات واستدعاء ما يحتاجه منها وقتما يشاء، فالقانون في كتابة السيناريو معدوم وكثير من المحظورات التي ساقها آباء الدراما خشية الوقوع فيها، كسرتها أعمال عديدة لتثبت أن الفن هو هذا المجرد المتماهي مع الحياة لا الناقل لها.
ففي تجربة “جنة الشياطين” المأخوذة عن نص “الرجل الذي مات مرتين” لجورج أمادو تتجرد الشخصيات من كل القيود المجتمعية، وتحلق في فضاءات الحياة عارية إلا من أرواحها، تبحث عن المتعة وإرضاء الذات، وتسخر من الموروث بداية من وصف الشخصيات الدرامية بالشياطين فهذه الشخصيات تبحث عن جنتها حتي لو كانت جنة للشياطين، وانتهاء بمشهد النهاية التي تخترق فيه سيارة الشياطين نفقاً لا ينتهي رغم مرور الوقت وتعدد الحوارات ليؤكد العمل في النهاية علي مقولة “الحي أبقي من الميت” التي ترددت في كثير من المشاهد التي يحاول الشياطين فيها استغلال “طبل” أو انتزاع شيئاً يملكه حتي “حبه” قبل أن يقلب المشهد رأساً علي عقب وتبتعد السيارة في اتجاه الهوة المعتمه وكأنها تسير علي سقف النفق نحو الظلام وكأن فيه الخلاص الذين يبحثون عنه بمساعدة رجل ميت تنازل عن “حبه” للتو ليمتع احد اصدقائه.
مصطفي ذكري يقول في إحدى قصصه “إن تحديدات الخيال بعد نقطة الانطلاق اليسيرة، تكتسبُ شيئاً فشيئاً صلابة التحديدات الواقعية”، وفي جنة الشياطين ينطلق من نقطة يسيرة لينتهي إلى صنع واقع صلب، لا تلوثه آفات النفاق أو تزيفه أقنعة الحياة، فحتي الشخصيات النمطية التي تمثلها ابنته وباقي الأسرة واضحة ومحددة وقادرة علي طرد ما تحمله من مشاعر سلبية تجاه بعضها البعض، ورغم المجون الذي يعيشه “طبل” الميت الحي وأصدقاؤه احتفاء بالحياة، إلا ان منزل الأسرة والشخصيات المتباهية تبدو أكثر موتاً منه، فحياة الابنة طقس جنائزي حتى قبل عودة جثة الأب التي تحرضها علي التمرد حتي أنها تسمح له بالاختيار والرحيل مع أصدقائه، وتواجه الاسرة بوقاحة في إشارة إلى التحول الذي طرأ علي شخصيتها التي تصالحت أخيراً مع نفسها قبل أن تتصالح مع “طبل” أو والدها “منير رسمي” وتطلب منهم إعادة التابوت أو الإبقاء عليه ليدفن فيه أحد هؤلاء الأموات.
ويتلاقي فيلم “عفاريت الأسفلت” مع جنة الشياطين في نفس المنطقة التي تجرد الشخصيات من أسلحتها المجتمعية وتكشف عوراتها في ثنائيات مختلفة، كما يتفقا في تنازل الكاتب عن دور القاضي الذي يصدر أحكاماً أخلاقية علي شخصياته، ففي كلا العملين لا يصدر الكاتب أحكاماً بإدانة هذا أو إنصاف ذاك، فالبشر متساوون أمام انسانيتهم، ولكن مساحة القهر في “عفاريت الاسفلت” تزيد وتتشعب مع الإشارة إلى ميراث هذا القهر الذي ينتقل من شخصية إلى أخرى مع تصدر مفهوم القوة أو السلطة للمشهد وما ينتج عنه من التفاف يسهم في الخيانات المتوالية التي يتبادل فيها الجميع الأدوار، ولكن داخل نفس البيت الذي يمثل عالمهم الخاص ليعطي البطولة للمكان قبل الشخصيات.
ولا يمكن أن نتعرض لتجربتي مصطفي ذكري في الكتابة بمعزل عن باقي عناصر العمل السينمائي خاصة أن السينما فن التعبير البصري والصورة هي الوسيط الذي يحمل الأفكار بشكل كلي ويسهم الحوار جزئياً في التعبير عن المضمون، وفي “عفاريت الأسفلت” يلتقي سيناريو مصطفي ذكري بكاميرا أسامة فوزي بحيويتها وتأملها وتتنقل بداية علي الطرق وفي مواقف الميكروباصات بنزق يليق بشخصيات العمل قبل أن تستدعي انسانيتهم وتعيد صياغة بداية جديدة تليق بواقع عارٍ لا يجمل قبحه وهو الأمر نفسه الذي نتلاقي معه في “جنة الشياطين” المغرق في التجريب والذي يرفع الحرج عن شخصيات عفاريت الأسفلت التي تجلس في نهاية الفيلم مجتمعين علي أنه لا حاجة لفتح نوافذ الحقيقة المعروفة ضمنياً وكأن كلاً منهم يقول لنفسه: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر” أو يرمي غيره بحجر سبق أن تلقاه من صاحبه.