حين يخطفنا الرحيل مرتين

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عائشة المراغي    

قبل ما يدنو من عشر سنوات؛ انسل أبي من الحياة دون فرصة وداع، فصارت ذكراه معلقة. لم أكن مستعدة. من كان مستعدًا للفقد أصلًا؟ أسبوعي حينها كان مشغولًا بمهام يومية لا تنتهي، ولم أفكر للحظة أن الحياة قد تنتهي في منتصف الليل، أن يسبقنا الفقد ونحن نظن أننا نملك المزيد من الوقت. جاء الرحيل سريعًا، بلا مقدمات، وبلا مشهد درامي طويل يتيح لي فرصة الاستيعاب. كان أقرب إلى خطف مفاجئ، كما لو أن يدًا خفية امتدت وانتزعته من عالمي دون أن تمنحني وقتًا للمواجهة أو حتى الإنكار.

كان محمد جبريل امتدادًا لذكرى أبي، فلطالما سمعت اسمه يتردد في بيتنا. وحين رحل أبي صار منزله بيتًا ثانيًا لي، لم ينقطع الاهتمام والدعم، ولا التوبيخ أحيانًا. وعلى مدار سنوات؛ صارت بيني وبين الأستاذ جبريل كثير من التفاصيل والمشاعر، وساعات طويلة من الحكي، لا أظن أن مساحات النشر قد تتسع لها. وإن كان هو نفسه قد سرد قدرًا يسيرًا منها في أحد كتبه الأخيرة «أسرة القط حميدو». تلك الأسرة التي تكوَّنت من قطه «ابن حميدو» وقطتي «بكيزة» صاحبة عيون زهرة العلا – كما رآها دائمًا – وصار عدد أفرادها في وقت ما؛ أكبر من عدد أفراد أسرتينا مجتمعين.

مع وعكته الصحية في 2020 ودخوله إلى المستشفى؛ عادت إلى ذاكرتي المشاهد الأخيرة للرحيل، وتجدد ألم الفقد الذي لا يلتئم. لم يكن مرورها بسلام سوى غفلة كي يكرر القدر نفس المشهد، ونفس المفاجأة الثقيلة، والإحساس بأن عزيزًا انتُزع مني بلا مقدمات. جاء الرحيل بين أيام معرض الكتاب المزدحمة والمنهِكة، كأنما الموت يتقن اختيار اللحظات التي أكون فيها أكثر انشغالًا، فيسرق مني الأحبة دون إنذار.

هذه المرة؛ أعرف كيف يبدو الفقد. لم تكن الصدمة أقل ألمًا، لكنها مألوفة، أعيش معها تكرارًا لحكاية قديمة، ستترك أثرًا مغايرًا، وفراغًا جديدًا، وذكريات لا تموت. ربما الفقد هو امتحان للمحبة، ربما هو الطريقة التي تذكرنا بها الحياة أن كل لحظة ثمينة، وأن الكلمات التي نقولها قد تكون الأخيرة؛ لا شيء مضمون، لا اللقاءات، ولا الوعود، ولا حتى الغد.

ولأن كاتب بحجم محمد جبريل، لا يمكن أن تنطفئ ذكراه سريعًا، خاصة وإن كانت سيرته الأدبية أشبه بحياة داخل أخرى، تختلط فيها الواقعية بالتصوف، والتاريخ بالمتخيل، والمدينة بروحها الشعبية العميقة؛ فإن «أخبار الأدب» تطل على عالمه من خلال الذكريات التي تركها في قلوب من عرفوه، والمرور على محطات حياته التي امتدت لما يقرب من 87 عامًا (17 فبراير 1938 – 29 يناير 2025)، كان فيها صاحب مشروع أدبي متفرد، وروح أدبية ظلت تمنح حتى لحظاتها الأخير، عبر شهادات أصدقائه وتلاميذه والنقاد، رسائل محبة وتأملات في مشروعه الإبداعي، صورٌ من ندوة الخميس في جريدة «المساء» التي احتضنت عشرات الموهوبين، وأصداء رحلته مع الصحافة والكتابة.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم