“حين رأيتك أخطأت فى النحو”.. روح تتبخر من سخونة الألم
جمال فتحى
كلما زادت قسوة الواقع ومرارته ، وكلما كان ثقيلا كلما خفت روح الشاعر وشبت إلى الأعلى متبخرة من سخونة الألم ، فالشاعر دائما يهرب من جحيم الأرض إلى جنة الخيال عبر قصائده التى يرفض فيها ذلك الواقع بكل مفرداته وعناصره وأشكاله ويعيد ترتيبه من جديد وفق رؤيته الخاصة جدا ومنطقه الجمالى ، تاركا روحه تطير بحرية كبالونة تصعد إلى أعلى من فرط خفتها وهذا ما تحقق بقوة فى ديوان الشاعر العراقى قاسم سعودى والذى صدر مؤخرا عن دار العين بعنوان "حين رأيتك أخطأت فى النحو".
يقول سعودى:
(فى هذه المدينة الثقيلة / روحى خفيفة / خفيفة جدا / مثل بالون أضاعه ولد صغير) وهكذا يضع الشاعر يده على وجعه ويشخصه كمريض يدرك مرضه قبل أن يكشف له الطبيب عنه ، فالروح تتبخر إلى أعلى من فرط خفتها هروبا من ثقل الواقع ، وربما تتبادل مع ذلك الواقع الأماكن فتحمل ثقله ويحمل خفتها يقول : )أخف من القبلة / أثقل من الأرض) لكنها فى النهاية ومن فرط رهافتها ونقائها تبدو كما يقول: (روحى خطأ أبيض / على جدار الخيبة)
بحث قاسم فى ديوانه بدأب عن الحب والحرية وعن اليقين والحكمة والإنثى والوطن وتساءل كثيرا عن جوهر تلك المعانى وحقيقتها ، وأعاد فى كثير من قصائده اكتشافها وتفسيرها، (اليقين تفاحة فاسدة / الجهل يقين فاسد / ونحن نعدو بينهما) ، فيما ألقت المآسى التى تعرض لها وطنه العراق ولا يزال يعيش فيها بظلالها على تجربته فى الديوان لكنه نجا بموهبة كبيرة من التعاطى مع الألم فيما يحدث لبلاده بشكل مباشر أو صريح ؛ وإنما نجح بأصالة أن يخضع حزنه ومرارته لقواعد التنظيم الجمالى فى قصيدته مراعيا حقوق الشعر أولا ؛ فكان مروره على الألم مرورا شفيفا مدركا أن بلاغة التلميح أكثر متعة للنفس وأطول بقاءا من بلاغة التصريح لاسيما أن نشرات الأخبار ووسائل الميديا المختلفة لم تترك لأحد مجالا فى تخيل ما يحدث هناك ، فهو يقول مثلا: (سأنتظر يوم لا ينفع رصاص ولا ذقون)، ومن قلب المأساة تنبت الحياة وتقاوم (كيف تبنى عشا صغيرا فى منزل الحرب / حسنا الأمر بسيط جدا / خذ دبابة ميتة واصنع منها مدفأة كبيرة / خذ بنادق هرمة واعمل منها تلفازا صغيرا) هكذا الأمر بسيط على حد تعبير سعودى فأدوات القتل والهلاك تتحول لوسائل بقاء وحياة وهنا إعادة تركيب الواقع كما ذكرنا بلا ضجيج ولا ثرثرة شعرية مفتعلة . قصائد الديوان جاءت مقسمة إلى فقرات مرقمة كأنها مشاهد سردية فى رواية طويلة فيما لعب التكثيف دورا كبيرا فى تقديم دفقات مركزة ومكتنزة – بعضها لم يزد عن سطرين - تنطوى على الكثير جدا من المعانى والظلال اقتنصها الشاعر بعبقرية وتمكن من اللغة وخبرة بدروبها كقوله: (الثياب واسعة / ونحن عراة فى هذه المدينة)، وكذلك قوله: (الشارع فارغ / وأنا ضائع فى الزحام)، وكما لايميل الشاعر للثرثرة الشعرية كثيرا ، وقصائده أنفاس متقطعة لكنها منتظمه ذات إيقاع نفسى خاص جدا سربه الشاعر إلى سطور القصائد عبر نفق الصدق الذى تمر القصائد فوقه ، فيما جمعت تجربة الديوان بين العام والخاص ومزجت بينهما بذكاء شعرى كبير فأنت كقارىء لا تستطيع أن تحدد الخط الفاصل بينهما
كما لعب التكثيف دوره فى قصيدة سعودى لعبت المفارقة دورها فى تأكيد شاعرية سغودى وسيطرته على أدواته أنظر قوله مثلا: (لاتحرجى إلى الشرفة كثيرا / ستسقط عليك النجوم) هكذا وببساطة تحقق المفارقة دهشة لا حدود لها مقرونة بمتعة فنية وشعرية لها مذاقها الخاص ، أما عن الصورة التى أسهمت فى معمار الديوان بشكل لافت فمنها الكثير مثل: (مثل طفل يقبض على ذيل المدينة / وهو يركض خلفها / روحى)، هكذا تؤكد الصورة فى ديوان قاسم ماسبق وقاله عيزرا باوند: "أنه من الأفضل للكاتب ان ينتج صورة واحدة طيلة حياته من أن يخلف كثيرا من المجلدات الضخمة "