حين تصبح الكتابة وصفة طبية .. قراءة في رواية “وراء الفردوس”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 80
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ترددت كثيرا قبل أن أكتب عن ” وراء الفردوس” , لأنها من الأعمال القليلة التي نالت قدرا جيدا من الكتابة عنها ..قرأت مقالات نقدية تتناولها كرواية أجيال ..رواية ريف ..رواية بحث عن ذات وسط تغيرات اجتماعية ..

لكنني الآن أحب أن أفكر فيها بزاوية أخرى ..  فبطلتنا ” سلمى” الخارجة توا من مصحة نفسية إثر إصابتها بانهيار عصبي عقب وفاة والدها كما تقول الرواية ص  80 , تنصحها طبيبتها النفسية بالكتابة كأحد طرق العلاج.

فكيف تناولت الكاتبة فكرة المرض النفسي وكيف تم نسج أعراضه داخل سياق الرواية ؟

طبيا لا يوجد سبب محدد للمرض النفسي , أحيانا تلعب الجينات دورا , وأحيانا تأتي الظروف المحيطة لتحدد وقت ظهوره أو شدته .. لكننا على أي حال نستطيع إيجاد بعض العناصر التي لعبت دورا في طفولة سلمى كتمهيد لمرضها ..

مثلا شعورها بالخذلان تجاه شقيقها خالد والذي انتظرت منه دعمها بأي شكل حين كانت المعلمة توبخها على ملابسها المكشوفة وتخطط  على ذراعيها وساقيها خطوطا بشعة , بينما هو يتشاغل بحفظ سورة ما ويتجنب مجرد النظر إليها.. ربما كان هذا الموقف هو بداية شعورها المستمر بالذنب  والذي تأصل فيها بعد ذلك بصرف النظر عن اكتشاف هذا الذنب أو حتى حقيقة ارتكابه  .. تقول الرواية ص11 ” إنما شعور السفاح الذي ارتكب جرما بشعا بإتقان ومن دون أن يعلم به أحد وظن انه قوي لدرجة لن يشعر معها أبدا بوخز الضمير , لكن قوته خانته , وتحول لا وعيه إلى عدوه اللدود ”

و يأتي الشعور الدائم بالقلق والذي يصل أحيانا لدرجة الرعب كعامل مؤثر آخر , فتلتصق بأمها بينما يتعمد الآخرون إخافتها ص 187 “يختفي باقي أطفال البيت خلف أبواب الغرف المظلمة وفي بئر السلم , وحين تمر الفارة التي هي سلمى متتبعة خطوات أمها يجذبون ضفيرتها الطويلة بقوة فتصرخ من الرعب وتنطلق الأم في سب الملاعين الذين ينغصون حياة طفلتها الهلعة دوما”

هذه الأم والتي هي منبع الأمان كما هو مفترض , تساهم بدورها في تعميق الشعور بالهلع والضياع داخل الطفلة , بإصرارها على إنهاء الحدوتة المفضلة لها – حدوتة كمونة- بأغنيتها الحزينة ص 155 ” ثم تخبرهم أن هذه نهاية حدوتتها وأنها لا تعرف أبعد من هذه الأغنية الحزينة ,” كأن الحزن هو غاية حدوتها ومنتهاها. عدم الاكتمال هو سر كمونة الطفلة الباكية المخطوفة تحولت إلى روح تسمعها الجدات في أصوات الطيور الحزينة”

ثم نأتي للمؤثر الأعمق والأشد وهو شخصية والدها المركبة بنزواته وطيبته , فشله وإصراره على التميز , وعدم استيعابها لتصرفاته ورفضها الداخلي لرؤية أي نواقص فيه ص 122? كان أحد الأشخاص المؤمنين بأن العالم مدين لهم بالكثير , وبأن الآخرين يجب أن يكفروا لهم عن ذنوب لم يرتكبوها في حقهم” – نلاحظ أن هؤلاء الآخرين يشملون سلمى بالطبع والتي رافقته في مرضه الأخير وكانت وفاته هي الموقف الذي فجر مرضها بتعميقه فكرة شعورها بالذنب حتى وإن لم تكن هي السبب في وفاته إلا إنها لم تحتضنه كما يجب ولم تبكي معه كما يجب ولم تشرح له حقيقة مرضه كما يجب في رأيها –

وتكمل الرواية ” هنا تحديدا تكمن مشكلة سلمى حين تريد أن تكتب عنه . جموحه وعناده هذان اللذان يدفعانه للإقدام على أكثر الأفعال حماقة وتهورا يجعلانها عاجزة تماما عن فهم دوافعه”

وكما نجحت الرواية في وصف تلك المؤثرات التي مهدت لاضطراب نفسية سلمى , نجحت في نثر الأعراض المرضية المختلفة بلطف خفي داخل نسيج الرواية ,

والحقيقة إنني استمتعت على مدى الرواية بالتقاط تلك الأعراض

..مثلا في  ص 34 تقول : “منهكة تماما خرجت سلمى من الحمام بعد أن قضت ما يقرب من الساعة في غسيل يديها , خرجت مستسلمة تماما لإحساس عدم النظافة الذي بدا يلازمها مؤخرا .. وكي تتخلص منه تحاشت النظر إلى كفيها الذين كانتا قد تحولا إلى اللون الأحمر بفعل الدعك المتواصل”

أمامنا هنا حالة من الوسواس القهري .. حالة لا إرادية تجبر البطلة على تكرار فعل ما  رغما عنها لدفع شعور قهري لا تستطيع التغلب عليه .. أحيانا تكون هذه الحالة قائمة بذاتها , وأحيانا تكون جزءا من خلل نفسي أكبر كما هو الحال مع البطلة.

وتتابع الأعراض , فتصف حالة من الانفصال الذهني اللحظي  81 ” أقف أحيانا أمام مرآة الحمام بعد استيقاظي بدقائق قليلة وقد نسيت اسمي , لا أقصد النسيان التام , لكن ذلك الشعور بالانخطاف الذي أعجز معه للحظات عن تذكر كل ما يخصني بصورة واضحة , بحيث أرى وجهي فلا يعني لي أي شيء ..

يستمر هذا الانخطاف لثوان قليلة أعود بعدها لحالتي الطبيعية , لكن هذه الثواني كافية تماما لترك تأثير مرعب بداخلي يجعلني أدرك أني غير آمنة يمكن أن أتلاشى في أية لحظة ”

إذن تظل تدور في دائرة مفرغة , هذا الانفصال اللحظي يصيبها بالرعب , ورعبها الدائم يصيبها برغبة لا إرادية في الانفصال عن العالم المحيط .. يتخلل ذلك معاناتها أحيانا من ظاهرة معروفة وهي الإحساس برؤية الأشياء من قبل Déjà vuوأيضا معاناتها مما يمكن تسميته هلاوس سمعية وبصرية وهي من أعراض مرض الفصام ص 218 ” صارت تغمض عينيها كثيرا , تغمضهما فتغرق في فردوسها الملون بألوان قوس قزح , تظهر الألوان المتعددة في البداية لكنها ومع استمرار الإغماض تتداخل ثم تتحول إلى اللون الوردي ” ص 222 ” تفهم ألا تقتنع إذا حكت لها عن الأصوات التي تسمعها تتردد من حولها تهمس في أذنها بأفكار شريرة وتحاصرها بضحكات شرسة ”

ومع أن الرواية منحتنا وصفا بسيطا وشائعا لحالة البطلة المرضية وهي ” انهيار عصبي ” لكنها أجادت نسج سمات الخلل  بوعي ينم عن اهتمامها بكل تفاصيل شخصياتها , ومنحته أبعادا أكثر عمقا ودراية بفكرة المرض النفسي , لتصل بنا في النهاية إلى ما تريد من أن النفس البشرية كما تحمل مقومات تعاستها تحمل أيضا قدرتها على السعادة فتقول في آخر الرواية ص 220 ” أدركت أن السكينة الحقيقية يجب أن تنبع من داخلها وليس من الواقع المحيط “

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم