حينَ صارَ الفَهمُ حَجَراً في الحِذاءِ

marwan yasseen
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مروان ياسين الدليمي

(1)

كنتُ أمدّ يدي

كأنّي أجرّ الستار عن وجه الحقيقة،

لكن الستار كان يتدلّى من الغيم،

والحقيقة،

تُصَفِّرُ في الريح

كأنّها ورقةُ توت

تتهجّى اسمها على خدِّ خريطة قديمة.

 

في طفولتي،

كنت أظنُّ أن الضوء يخرج من عيني،

أن الليل لا يعني سوى تأخر المصباح عن الكلام،

أن الحزن… كائنٌ يعبر من تحت الباب،

يلبس جواربي ويغفو على ركبتي.

 

كنتُ أجلس على عتبة السؤال،

أنتظر الإجابات

كما تنتظر الأشجار المطر

الذي ينسى أسماءه كلما نزل على حجرٍ أصمّ.

 

فهمتُ سريعاً أن المطر لا يطرق الباب،

بل يسرق المفاتيح من جيوب الوقت،

وأن السعادة تشبه قطةً تلعق جرحها حين لا ينظر أحد.

 

الأسئلة تنام في سريري،

وتأكل من صحني،

وحين أجرّها من ذيلها،

تضحك كأنها لا تعني شيئاً.

 

كنتُ أرى الزمن يسعل،

وأسمع الكراسي تتحرك كلما كذبتُ على نفسي.

رائحة الغفران كانت تأتي من المطبخ،

حين تحترق الخبزة الأخيرة،

وتنطفئ النية في عين أمي.

 

كل شيءٍ حاولتُ أن أفهمه،

أصبح لاحقاً أثقل من أن يُحمَل،

أخف من أن يُقال،

كأنّ الفهم حفرةٌ ناعمة،

تغريك بالسقوط بنعومة الحرير.

 

(2)

الآن،

أمشي على أطراف الإدراك،

كأنّ الأرض مصنوعة من زجاجٍ خائف،

وكأنني لا أضع قدمي، بل أعتذر لهما عن الطريق.

 

كلّ ما فهمتُه صار يلاحقني:

الندم يرتدي بدلتي،

الذاكرة تشرب قهوتي،

والحقيقة تضحك على كتفي مثل غرابٍ يدّعي الحكمة.

 

صوتُ الباب القديم لم يعد يُخيفني،

لكنّه يعيد كل الأحاديث التي دفنتُها،

واحدةً تلو أخرى،

كأنّ الماضي لم يكتفِ بالحياة في ذاكرتي،

بل يريد أن يمشي أمامي.

 

الأشياء الجامدة بدأت تحسدني:

المِرآة تنظر إليّ بشفقة،

والساعة تتقيأ الوقت كل صباح،

أما المصباح…

فقد قرر أن يضيء فقط حين لا أحتاجه.

 

صار للظلال أصوات،

تتهامس في الزوايا،

تتهمني بأنني كنتُ أعرف،

وأنّ المعرفة… خدعةٌ رتبتها الحروف كي لا تموت.

 

الأمل،

ذلك الطائر الذي حاولتُ تدريبه على الصمت،

انقضّ عليّ ذات مساء،

وحفر في صدري عشهُ من الأسئلة التي لم أطرحها.

 

كنتُ أظن أن النجاة في الحقيقة،

لكنني كلّما أمسكت بها،

انقسمت في يدي إلى ألغازٍ تفوح منها رائحة احتراق الكلمات.

 

الفهم

كان جدارًا ناعماً،

فيه ثقوب،

تنزّ منها ضحكات الأشياء التي لم أنجُ منها بعد.

 

(3)

اليوم،

لا أسأل كثيراً.

أحمل رأسي كما يحمل الناجون ذكرى الزلزال:

بحذر،

وبعينٍ تنسى الطريق لكنها لا تنسى الشقوق.

 

أجلس إلى جوار المعنى،

لا لأفهمه،

بل لأراقب كيف يتنكر،

كيف يلبس قبعة الطَرفة،

ويختبئ في صدفة ضاحكة على مائدة العدم.

 

قلبي الآن خريطة مشطوبة،

كل سهمٍ فيها يشير إلى عتمة أعرفها،

وكلّ طريقٍ

يبدأ من نافذة وينتهي في مِرآة.

 

الحواس تآمرت عليّ:

رأيتُ الصوت،

شممتُ الضوء،

وذقتُ الخوف وهو يرتب حقائبه في ركن الغرفة.

 

كنتُ أمدّ يدي للريح،

فأشعر بلزوجة الرحيل،

كأنّ الزمن كائنٌ يتعرق،

ويكره أن يُلمَس.

 

أنا الآن أضحك،

لكن ليس كما يضحك الفرح،

بل كما يضحك من عرف اللعبة،

وأدرك أن النهاية ليست في نهاية الطريق،

بل في بداية الفهم.

 

الفهم

لم يكن سلاحًا،

ولا درعًا،

كان بابًا إلى العراء،

وقميصًا واسعًا لا يدفئ،

وقطارًا بلا نوافذ،

يمرّ في داخلك كلما أغمضت عينيك.

 

النجاة

أن تمشي دون أن تُفسّر،

أن تضحك على سؤالك القديم،

أن تغلق النافذة على صخب المعنى،

وتدع الحياة تتكلم وحدها،

بلغةٍ لا تحتاج إلى ترجمة،

ولا تنتظر التصفيق.

 

مقالات من نفس القسم

يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

اعتراف