جهاد الرنتيسي
حيّر تجنيس نص “الخواجاية” لـ “فيموني عكاشة” الصادر عن دار الشروق المصرية أوساط النقاد التي تناولته بالقراءة والتحليل، على مدى الأشهر الماضية، ليعيد طرح أسئلة تصنيف النصوص، ومسار تطور الفن الروائي.
راوغت دار النشر في تعاملها مع الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص بوصفه “سيرة روائية” كما جاء على غلاف الكتاب، لجأ د. محمد المخزنجي في مقاربته التي تضمنتها المقدمة إلى آني ارنو الروائية الفرنسية الحائزة على جائزة نوبل لتبرير إمكانية أن يكون النص رواية متجنبا إعطاء رأي قاطع، وأظهر أكثر من متحدث عن الكتاب ترددا بين ما إذا كان المضمون سيرة ذاتية أو سيرة غيرية.
يطرح النص أكثر من سيرة، هناك سيرة للابنة الكاتبة، أخرى للأم، وسير للأب والعائلة الممتدة بين مصر وهولندا، مما يسقط وصف السيرة الذاتية والسيرة الغيرية ويستدعي تصنيفا آخر، يراعي تطور فنون الكتابة، بما في ذلك فن الرواية، الذي أتاح للقائمين على جائزة نوبل التعامل مع آرنو باعتبارها روائية تستحق التتويج.
يتضمن النص أشكالا مختلفة للسرد، هناك ما ترويه الابنة الكاتبة، أحداث على لسان الأم “الخواجاية” التي يحمل عنوان الكتاب إيحاء واضحا لها، ولم يخل الأمر من مرويات منقولة عن أشخاص آخرين، علاوة على الرسائل، مما يزيد من صعوبة وضع النص في سياق الكتابة السيرية، بشقيها الذاتي أو الغيري.
وللنص حمولته الكبيرة من الدلالات المرتبطة بالواقع، التاريخ، علاقة الأنا بالآخر، واختلاف الثقافات بين الشرق والغرب، مما يضع القارئ أمام ضرورات التوقف للنبش في أعماق مفاهيم سائدة، وغالبا ما تنتهي مثل هذه الوقفات عند التسليم بطغيان الموضوعي على الذاتي في أجزاء مختلفة من الكتاب.
ظل سؤال الأنا والآخر حاضرا في النص، يطل برأسه بين حين وحين، بصيغ مختلفة، تشير الكاتبة في أحد الأجزاء إلى سخريتها من اسم أمها جيردا “كأني أنفي بذلك أن لي هوية مختلفة” مشيرة إلى تشبثها بمصريتها وأبيها رغم صلتها القوية بالأم، تتضح فكرتها مع عرضها لكيفية تعامل أمها مع عالميها “بالرغم من طغيان الثقافة المصرية وعاداتها على حياة أمي وانغماسها في تفاصيل عائلة أبي، حرصت على أن تبقى صلتها بجذورها الهولندية وأن تعرفنا على ثقافتها وتربطنا بعائلتها” وجاء في حديث الكاتبة عن جدتها “لم تكن تلك الجدة الحنون التي نرتمي في أحضانها مثل جدات صديقاتي المصريات” وتضيف في مقطع آخر “عرفت منذ صغري انني معلقة بين عالمين مختلفين وثقافتين تتنازعان، ليس فقط بين عائلتينا هنا وهناك، ولكن داخلي ايضا”، تصف الجمل المتشابكة في خطابات أمها بأنها “المفتاح الذي ربط بين هذين العالمين اللذين عاشت فيهما تلك المرأة وتنقلت بينهما في سهولة ويسر”، تتوقف عند معاقبة شقيقها لأمه بنسيان اللغة الهولندية ليترك الأم جيردا أسيرة لغتها، ومحاولة الخالة إجبار أبناء شقيقتها المصريين على “أشياء مغايرة لثقافتنا بأسلوب حاد” وفي المقابل تحاول الابنة التعرف على ذاتها من خلال الأم.
تتعرض عكاشة في أحد جوانب النص لطائفية الغرب حيث جاء على لسان الأم جيردا “ما عشته في هولندا كان ذلك الصراع الخفي والكره المستتر بين الطائفتين البروتستانتية والكاثوليكية” الذي ترجع أصوله إلى القرون الوسطى، لتخدش في استرسالها التهويلات الغربية للطائفية في بلاد الشرق.
يميل النص إلى أنسنة الجندي الألماني الذي شارك في الحرب العالمية الثانية بعكس ما سعت إليه دعاية الأطراف المنتصرة التي عممت صورة النازية على الألمان، حيث تسقط الأم صفة الفظاظة عن الضابطين اللذين سكنا في بيت عائلتها، وتشير إلى قدوم أحدهما حاملا باقة زهور بعد انتهاء الحرب، وتمر على سنوات لاحقة من الكراهية الأوروبية للألمان.
يتسع النص لتأملات الكاتبة حول غربة الجسد والزمن وتحولات الكائن، تشير الأم المصابة بخرف الشيخوخة في إحدى الرسائل إلى عدم معرفتها سنها، تفترض رقما وترفض الآخر الذي تصر عليه الابنة رغم تجاعيد الوجه وترهلات الجلد “لست أنا التي تسكن هذا الجسد المنهك” فيما تصف الابنة الأم قائلة “رأيت أمامي طفلة صغيرة ترتدي جسدا لا يخصها، أدركت أن أدوارنا قد تبدلت، وأنني حصلت على الطفلة التي طالما تمنيتها” لتسدل الستار على صورة الأم الصديقة، كما ظهرت في مواضع سابقة من الكتاب.
استحضر نص فيموني عكاشة عوالم وتواريخ وحيوات وتفاعلات، تضمن انتصارات وانكسارات، قدمها في أشكال سردية مختلفة، أذاب “السير” و”الرسائل” في قالب فني مختلف، وحافظ على خيط السرد، من الصفحة الاولى حتى الأخيرة، ليضع علامة استفهام كبيرة على التردد في التعامل معه باعتباره رواية.
…………….
- كاتب وروائي من الاردن