■ أعمالك تحمل حسا ثوريا وأفكارا سياسية حادة وجريئة وصدامية.. كيف تنظر إليها الآن؟
– أتعامل مع السياسة باعتبارها عنصرا من عناصر الحياة، بكل ما فيها من علاقات وتشابكات بين الرجل والمرأة أو فى بعض الأمور ذات الطابع الدينى، وهناك ثلاثى أساسى فى حياتنا هو ما نسميه الثالوث المحرم أو الأقانيم الثلاثة «الدين والجنس والسياسة » التى قد ترصدها الرواية أو العمل الأدبى بنسب متفاوتة، قد ترجح كفة السياسة أحيانا أو الدين فى أحيان أخرى أو الجنس، لكن يبقى المهم فى العمل الأدبى الشكل الفنى، وهو أن تبنى عملا فنيا جميلا فى النهاية من خلال البنية الأسلوبية واللغة للخروج بعمل جميل وممتع بغض النظر عن المضامين فهى مرمية فى الشوارع مثلما قال الجاحظ، وهنا يكمن الرهان فى العمل الإبداعى، فبالنسبة لى أرى الإنسان كونا قائما بذاته فيه كل المتناقضات الخير والشر، الموت والحياة، وبالتالى يجب النظر إليه بشكل مختلف بعيدا عن الأيديولوجيا.
■ بعد أكثر من أربعين عاما من الإبداع.. هل يمكن القول إن رؤيتك للكتابة تغيرت؟
– بالطبع.. رؤيتى للكتابة الروائية تغيرت، فلم تعد الواقعية الاجتماعية فى نظرى قادرة على التعبير عن قضايا الإنسان، لأنها أحادية الرؤية، هناك أبعاد أخرى كامنة فى النفس البشرية تستحق الرصد والدراسة من خلال الرواية الجديدة التى يمكن تسمية الاتجاه الغالب فيها بالواقعية الجديدة، هناك البعد النفسى والوجودى والتاريخى، يجب أخذها فى الاعتبار وهذا لا يعنى إلغاء البعد الاجتماعى، ولكن يعنى أن تكون الرؤية أشمل وأوسع، وفى رأيى أن اتجاه الواقعية الاجتماعية ولى إلى غير رجعة، فالكتابات التى كنا نقرأها قبل ٤٠ عاما، لم تعد صالحة للعصر الحالى، هناك تطور فى الرواية، مثلما حدث فى الشعر من تطور من القصيدة الكلاسيكية إلى الشعر الحر إلى قصيدة النثر، والكاتب الجيد يجب أن يتمتع بعدة عناصر منها الموهبة وثراء التجربة الذاتية واتساع الثقافة والتأمل والقدرة على الاستبطان كل هذه العناصر هى التى تصنع نصا عميقا وجميلا.
■ تعرضت أعمالك للمنع والمصادرة فى أكثر من دولة عربية على فترات متباعدة كيف تفسر ذلك؟
– منذ قصة «الفهد» التى كتبتها عام ١٩٦٨ ومنعت بأمر الرقيب من التحول لعمل سينمائى وحتى روايتى الأخيرة «هجرة السنونو» ومرورا بروايتى «الزمن الموحش» و«وليمة لأعشاب البحر»، والمنع والمصادرة يلاحقانى، لأننى ببساطة أنتقد المجتمع، وانتقد السلطات السياسية والدينية وما هو مهيمن على حياتنا الاجتماعية بمعنى أنك تهدم لتبنى، تهدم ما هو منحرف ما هو خطأ وخلل، وبالتالى تقول الحقيقة، والحقيقة دائما جارحة، وقد تحدثنا كثيرا عن هيمنة المؤسسات السياسية والدينية والاجتماعية على حياتنا، عندما يأتى الأديب ويسبح ضد التيار ويواجه هذه المؤسسات ويتحدث عن شىء مسكوت عنه، شىء مغطى، يعرى، يكشف الحقيقة فى النهاية، والحقيقة جارحة ولكن.. تجرح من.. السلطة المهيمنة السياسية والدينية الاجتماعية، فمن الطبيعى أن يكون الأديب مضادا ومعاديا أحيانا لهذه السلطات لأنه ينحاز إلى الحقيقة إلى ما هو جوهرى إلى ما ينبغى أن يكون، يفضح المستور والزيف والكذب والبهتان، هذا الشىء غير الحقيقى على الإطلاق وتستتر وراءه هذه المؤسسات،
وبذلك ينحاز الأديب وينضم بشكل عفوى تماما إلى الناس الذين يريدون الحقيقة، ولذلك لابد من الاشتباك مع هذه المؤسسات فى كل مناسبة، طالما أن الكاتب حقيقى مخلص وحر من الداخل، فشىء طبيعى أن يمنع أو يقمع أو يعتقل، أو كما حدث فى «وليمة لأعشاب البحر» مثلا قد يصل الأمر إلى إهدار الدم وهو حكم يتجاوز التكفير، ومن الطبيعى أن يصطدم الكاتب بهذه القوى التى تريد أن تموه الحقائق وتلفقها على الناس، وهذا لا يحدث على مستوى الرواية فقط بل على مستوى الشعر والفن التشكيلى والسينما وكل دروب الثقافة تقريبا.
■ صدامك مع هذه المؤسسات ألا يمكن أن يؤدى فى النهاية إلى اصطدامك بالمجتمع؟
– المجتمعات المتزمتة والناس المتزمتين هم الذين يمكن أن يصطدم معهم المثقف، الناس الذين لديهم ثوابت فى الحياة، ثوابت حول الحياة، حول الدين أو السياسة أو النظرة للمجتمع، هؤلاء يمكن أن يصيبك منهم رزازا، ولذلك نضيف إلى السلطتين الرئيسيتين السلطة الاجتماعية، وهى سلطة ليست سهلة أبدا، ويمكن أن تنضم أو تتعاون لا شعوريا مع السلطات السياسية أو الدينية، لأن درجة الوعى فى مجتمعاتنا محدودة، ليس الناس جميعا مثقفين، لم يصلوا بعد إلى إمكانية رؤية التصور المستقبلى الذى ينشده الكاتب أو المبدع ويسعى لتحقيقه، هم ثابتون وأنت متحول، وأستعير ذلك من أدونيس هناك شىء اسمه التحول، ومجتمعاتنا العربية مع الأسف الشديد متخلفة، وعيها وعقلها لم يصلا إلى مستوى المثقف الذى يعبر عن المستقبل.
■ ولماذا لم يرتق المثقف بفكر المجتمع على مر السنوات أليس هذا جزءاً من رسالته؟
– كانت هناك مؤسسات وأحزاب وقوى تقدمية سعت إلى هذا الأمر، ولكن النظام السياسى القمعى فى البلاد العربية هو أحد أسباب الانهيار الذى أعاق هذه المؤسسات عن تأدية عملها سواء كانت أحزابا تقدمية أو ماركسية فى الوصول للشعب والارتقاء به، وهذا طبعا لا يعفيها من المسؤولية ، إلا أن النظام السياسى القمعى المعادى للشعب، خلق نوعاً من التلفيق مع المؤسسات الأخرى الدينية والاجتماعية، والمشكلة الأساسية أن الأحزاب والتيارات التقدمية، انسحبت من الشارع وتركته للأصوليين يسيطرون عليه، مع العلم أننى أنتمى للتيار التقدمى ولكن يجب أن يكون هناك نوع من النقد الذاتى، لنعرف ماذا فعلنا عندما كنا فى الأحزاب، لماذا استطاع الأصوليون والظلاميون أن يأخذوا الناس ويتحول المجتمع بشكل عام إلى مجتمع دينى، أين مهمة التيارات التقدمية فى التنوير فى النزول إلى أوساط الشعب، وتغير من تفكير المجتمع فهى عليها مسؤولية أيضا وليست مسؤولية المثقف وحده.
■ فى رأيك.. ما الدور الذى يجب أن يقوم به المثقف حيال هذا الأمر؟
– نحن مجرد أفراد عزل فى مواجهة مؤسسات قمعية تمتلك أدوات وأسلحة كثيرة، ولذلك تجد المثقفين دائما فى حالة دفاع عن النفس، والمؤسسة السياسية فى حالة هجوم دائم، لأن من مصلحتها أن تظل عقلية المجتمع ثابتة وغير متطورة، وترفض نشر الأفكار التنويرية، تؤازرها فى ذلك المؤسسة الدينية ولديها أدواتها وأسلحتها أيضا.
■ فى ضوء تجربتك كيف ساهمت حركة النشر والترجمة فى تشكيل وعيك الروائى وتطوره؟
– اطلعت على أعمال كثيرة، وبدأت الكتابة منذ السابعة عشرة من عمرى، وكنت أنتمى إلى مدرسة الواقعية الاجتماعية وهو ما يظهر جليا فى أعمالى الأولى، إلا أننى مع الوقت اطلعت على أعمال فى مجالات متعددة فى التاريخ وعلم النفس والكتب التراثية وكذلك الروايات المترجمة، كل هذه الأشياء ساهمت فى تطورى، وبدأت أنظر إلى الكتابة الروائية عموما بطريقة أكثر شمولية، وأرى أن نشر الأدب المترجم الذى شهد طفرة مؤخرا ساهم كثيرا فى فتح عوالم جديدة أمام المبدعين، ولا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين كتابات إبراهيم أصلان وإدوار الخراط وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم، وبين الجيل الذى اشتهر فى الخمسينيات مثل محمد عبد الحليم عبدالله ويوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس وغيرهم، هناك فرق فى اللغة فى البنية الأسلوبية والفنية للرواية هناك طفرة حدثت فى النشر والترجمات صبت فى صالح الرواية الجديدة، كما أن التطور التكنولوجى فى عصر الفضائيات والإنترنت ساهم فى تلك الطفرة وهذا التطور.
■ هل انعكس هذا التطور على المجتمع؟
– لنكن صريحين.. الشعب لا يقرأ، وهو ليس مطالب بذلك، فكل فئة اجتماعية لها دورها، هناك نخب تقرأ ودورها أن تحول ما تقرأه إلى ثقافة مجتمعية، فالفلاح لا يقرأ والعامل لا يقرأ وكذلك أرباب الحرف والصنائع، من يقرأ الأدب شرائح من الطبقة الوسطى وما فوقها، ولذلك يجب الانتباه إلى أن دور المثقف تنويرى وليس تثويرياً، الثورة مهمة الأحزاب والتيارات السياسية، أما المثقفون فدورهم ينحصر فى التنوير فقط.
■ حرية الإبداع والنشر وتداول الكتب بين الدول العربية.. هل تسمح بتحقق الدور التنويرى للمثقف؟
– إطلاقا.. فسيف الرقيب يطارد المبدعين فى كل مكان بالوطن العربى، هناك قمع ومصادرة تمنع المبدع من تأدية رسالته، والمؤسسات السياسية والدينية تقمع أى محاولات تنويرية، وتعتبرها محاولات للنيل من سلطاتها التى تعتبرها سلطات مطلقة، لأنهم يزعمون امتلاك الحقيقة متمثلة فى ثوابتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم