كتابة وحوار: أسعد الجبوري
عندما بعثنا له رسالةً تتضمنُ رغبتنا بمقابلته عبر الأيميل،لم يتأخر طويلاً بالرد.أمهلنا ساعة واحدة، بعدها رأيناه ينتظرنا على باب حظيرة الخيول، وهو بالملابس الرياضية،ويحمل بيده سوطاً من الجلد الأسود.أخذتنا فكرةُ أن يكون الشاعر توماس ترانسترومر ضائعاً، ويحاول ترويض أحد الأحصنة،لركوبها والعودة إلى المكان الذي تاه منه.
لكن توقعنا لم يكن بمحله. فالشاعر توماس ترانسترومر (1931-2015) كان مالكاً لتلك الحظيرة ومربياً لخيولها في ذلك المكان المطل على هاوية عظمى،لم نرَ لها شبيهاً على كرة الأرض.أخذنا من أيدينا بحنان زائد،وطاف بنا بين أجمل تلك الخيول،وهو يلبس لبوس سلطان،لا تُشغل رأسه سوى صفات الفروسية التي عادة ما يتم شراؤها من مجلات وقنوات فضائية وجرود صحف رخيصة،وجدت من أجل تضخيم بروستات السيوف والخيول عند مثل هؤلاء.
قهقه الشاعرُ توماس،بمجرد أن قرأ الأفكار التي كانت محشوة ً برأسنا.لذنّا بالصمت قليلاً ونحن ندققُ بوجههِ الأبيض المشرقِ مستفسرين من بطرح السؤال:
■ كيف يصنع توماس زمنه؟
ـــ أنا أصنع زمني عبر المحرار الزئبقي المعلق أمامي على الجدار.
■ تعني أنك تراقبُ حركة الزمن بواسطة الحرارة؟
ـــ لا يمكن لكل حركة أن تستمر بعيداً عن المنشأ الحراري.فالنار لا تصنعُ العدمَ وحدهُ،بل تعيد تكوين الأشياء.
■ هل تنظرُ إلى الشعر كساعةٍ خاصة؟
ـــ أجل.وبعقارب شبيهة بما يملكه الاخطبوط.
■ هل لأنها تلتفُ علينا،وتطبقُ على المخلوقات من أجل انتزاع رحيقها الروحي.أتعتقدُ بذلك؟
ـــ نعم.أنها تكتسبُ المناعةَ ممن يقعون كالقرابين ضحايا لحركتها.فالقصائد طواحين،متى توقفتْ عن الدوران حول نفسها وحول الكون،انتحرتْ،خارجةً عن السياق الطبيعي للغات التي عادةً ما تتفاعل ما بين الشعوب الحيّة،لإنتاج غيوم الحواس.
■ كيف ينظرُ توماس إلى حواسّ البشر.أهي غيومٌ كما تراها فعلاً؟!
ـــ أنها كذلك.فلا يمكن أن تكون الحواسّ عند كل الناس متساوية الأضلاع والمساحات.فقد تجد عندي حواسّ ناقصةً.وعند الآخر حواسّ ميتة.كما توجد لدي البعض حواسّ إضافية.لذلك فالحواس شبيه بالغيوم. منها الممتلئ المُلبدُ بالمطر والبرق والرعد،ومنها الفارغ الذي لا يصلح إلا لالتقاط الصور التذكارية لبعض الأشكال الرومنطيقية التي تبهج النظر.
■ توماس.هل سبق وأن أجلست الزمن على كرسيّكَ الذي تجلسُ عليه؟
ـــ أبداً.لم أفعل ذلك.ولكن الزمن كان عجلاتٍ لذلك الكرسيّ.
■ نريد تعليقاً على هذه الفكرة يا سيد توماس: هل الشاعرُ وحدةُ حالهِ ليس إلا.
ـــ تماماً.فالشاعر وحيدٌ في مكان،ونصّهُ وحيدٌ في مكان آخر.وهما قد يلتقيان على حافة جرف صخري يطلُ على بحرٍ شديدُ الوُعورة.
■ هل تؤثر وحدةُ الشاعر في الآخرين،فتجعل منهم وحداتٍ متباعدة،لا رابطَ بينها إلا بخيوط البؤس والعدم؟
ـــ لا أظنُ بأن الشعرَ غابة لوحيد القرن فقط.
■ يا لها من صورة فاقعة.هل يؤمن الشاعر توماس ترانسترومر بضرورة أن يكون للسوريالية بنك دم،لتزويد أجسام النصوص بتلك الفيروسات المضادّة للمنطق المُتَصحر؟
ـــ ما من شاعرٍ عَظُمت نصوصهُ دون المرور بالمنزل السوريالي المعلق بالهواء.فالسوريالية مطارٌ.والسورياليةُ تحفل بجميع أدوات المطبخ الخيالي.وهي أيضاً المذهب الديني المانع للتعصب والجهالة والقمع الروحي. بعبارة أعظم:السوريالية ضدّ إرهاب الفكر اللغوي.
■ ولكن ليس كل الشعراء يحسنون القراءة والكتابة والتصوير في المطبخ السوريالي.فما الحل برأيك؟
ـــ أن يذهبوا للتنزه في الحقول الأيديولوجية. فهناك سيعثرون على الكثير من الحطب المساعد على إشعال النار بثيابهم وبنصوصهم وبغرف مخيّلاتهم المُظلمة الضيقة.
■ هل يؤمن الشاعر توماس بالقطيعة مع المألوف أو السلفي من الأنظمة الشعرية الماضوية؟
ـــ قد يبدو عدم التفريط بالسلفي،من الأخطاء التي يتحمل مسؤوليتها الشاعر المُحدث. وهنا لا أتحدث عن القطيعة مع اللغة،ولكن مع الأنماط التي استهلكتها اللغةُ،فجعلت منها وسادة في أوتيل للتنابلة. فيما هناك شعر مضادّ للاستقرار والفندقة.
■ هل هذا ما سبق وأن أكدتَ عليه سابقاً،عندما قلت: “أكتبُ دائماً على خط الحدود – الحد الفاصل بين العالم الداخلي والعالم الخارجي،أسّمي ذلك “حاجز الحقيقة” لأنها النقطة الفاصلة ذاتها التي تمكّننا من امتلاك الحقيقة”؟
ـــ ما سبق وأن أكدتُ عليه في سابق الزمان،ليس بالضرورة الاعتماد عليه راهناً.حتى أن الحقائق القديمة،لم تعد هي حقائق الوقت الراهن.الزمنُ يزحف ويسحق.والحقائق مثل الأفاعي،تتخلى عن ثيابها،لتصبح في وضع آخر هي الأخرى. فعالم الباطن سرعان ما امتزج بيولوجياً وفيزيائياً بعوالم الظاهر ومظاهره وظواهره،ليكونا عالماً من الاضطراب العظيم.
■ لنفترض أن هذا الاضطراب العظيم الذي تتحدث عنه،حدث في نفس الشاعر،ولم يحدث في ذهن القارئ أو نفسه،ما العمل بعد مهمة فاشلة من ذلك القبيل؟
ـــ كل فشل باستجلاب القارئ أو الآخر إلى مناطق ذلك الاضطرابات الكبرى،يكرسُّ قوة التكنولوجيا ونفوذها في المجتمعات الجديدة التي ربع عقلها خلايا عصبية،وثلاثة أرباعها خلايا إليكترونية.
■ لكن الشعر لم يغب هو الآخر عن المجال التقني.أليس كذلك يا سيد توماس؟
ـــ أنا لا أريد للشعر عقلاً تقنياً لتدوينه على شرائح إليكترونيات.لا فائدة في شاعر رقمي،لأنه يقتل اللغةَ،ومن ثم ينتحر بتلك الكهربائيات النشطة التي تحاول توسيع نفوذها،لتحتل الرأس وتحرق الجسد اللغوي بشكل عام.
■ هل تخافُ من الفشل باتجاه الآخر إلى هذا الحدّ؟
ـــ نعم.فقد كنتُ محكوماً بذلك الميل.لكن تجاوزي لضعفي فيما بعد ذلك،استطاع أن يولّد في روحي شرارة العزلة،لأشتعل وأفيض شعرياً.
■ كيف تستطيع العزلةُ أن تعقد لترانسترومر ارتباطات مع الآخر؟
ـــ مثلما تفعلُ ذلك الغيومُ بالأرض البوار.العزلة لا تعني قطع الماء عن الكائن الآخر،بقدر تجعله كائناً مغناطيسياً لاستحضار المياه من الطرف الخفي المعتزل.
■ إنه استشراف رؤيوي يحتاج إلى منْ يؤكده.ولكن قل لنا يا سيد ترانسترومر،هل كنت شاعراً صوتياً؟
ـــ أجل. فطالما أجلست الكلماتَ بحنجرتي مثل بيض طير،بعدها لتفقس وترسل أصواتها للضفة الأخرى من النهر.كلّ ذلك كان من أجل أن يصبح الصدى طبعةً شعرية تتردد في الآفاق.
■ أنت جمعت أصواتك في حنجرتك بعيداً الطيور السويدية.كنت تتغزل برموز العالم وبموجوداته،فيما شعراء بلدك –السويد – وكأنهم مستبعدين عن أغلب اهتماماتك! هل ثمة آلام ما من وراء ذلك؟
ـــ لقد حاولت جهد الإمكان الابتعاد عن صورة الفقمة أو البطريق.كان الجليد نوعاً من التعذيب بالنسبة لي،ولذلك حاولت طرده،والابتعاد عما يذكرني به تاريخياً وجغرافياً.فنفسي المتجلدّة،مات قبل موتي الإكلينيكي بقرون كثيرة. كنتُ أحلمُ بالتمارين السويدية واللغوية تحت سقف الشمس التي طالما رغبتُ بأن تكون قبري،بعدما كنتُ هبطتُ قطعة ثلج من ذلك الرحم البارد.
■ ألا ترى أن الحنين إلى الشرق عند أغلب شعراء الغرب وكتّابه،هو انغماسٌ مناخي فقط،ولا علاقة له بموضوع ما يُسمى الاندماج بثقافات تلك الشعوب ودولها؟!
ـــ لا توجد في الغرب ثقافات عابرة للقارات حتى اللحظة.وعندما نتعلق بالشرق،فإنما نفعل ذلك من أجل الانتشار على الحبل الاستواء ليس إلا.لكن حتى إزاحة الجليد عن أجسامنا،لا يعطي الفضل للشرقيين الذين نزلت الشمس منازلهم،بل لله الذي رمى تلك الكرة الملتهبة في الفضاء،فكان الشرق مستقراً لها.
■ هل الشاعر القوي،هو منْ يخفي رغباته تحت جلدهِ،ودون إفصاح عنها حتى وإن بات في قبره؟
ـــ لا أعتقد ذلك.فقوة الشاعر تكمنُ في صونهِ لتلك الرغبات،وإخراجها حيّةً من صندوق الدنيا إلى الفردوس الذي نعيشُ تجاربنا الجديدة بداخله على امتداد هذي السموات العميقة.
■ قرأنا عنك انهماك بالاستراتيجيات الجمالية.فمن كان وراء ذلك التوجه الذي أفرّغ نصوصكَ من الغبار السياسي؟
ـــ الشعرُ السياسي رغيفٌ ساخنٌ،ولكنه بلا طحين.قد يكون صلباً مثل الحديد أو متحجراً،بحيث تقتله قوته التي تنبتُ فيه.لذلك أغلقتُ بوجهه جميع الممرات التي تؤدي إلى تجربتي الشعرية،لأكون بلا هذا المذهب السياسي الذي يعتمد على أحجار الشطرنج الايدولوجي.
■ هل لأن الجماليات،هي غرفة الإنعاش الشعري برأي توماس؟
ـــ هي كذلك بالضبط،على الرغم من صعوبة أن يُصدق المرءُ نجاته من المغطس السياسي إلا في الحالات النادرة،عندما يجد الجمال هو الحارس الروحي لكلّ كتابة تنهض بالوعي من درجة الصفر إلى درجة ما من درجات ريختر.
■ يبدو أن تأثيرات المنطق السيكولوجي على شعرك،قد ترك الكثير من الآثار على أسلوب كتابة نصوصك الشعرية.فهل جاء ذلك من وراء ممارسة مهنتك كمعالج نفساني مختص بإعادة تأهيل المجرمين الشباب في مركز ((روكستا )) السويدي طيلة سنوات من عمرك؟
ـــ لا شكّ بذلك.فقد كنت أُطلقُ كلماتي وراء المجرمين من الشباب،بدلاً من الكلاب.بالإضافة إلى أنني تعلمتُ كيف يمكنني تجاوز بعض محني الداخلي التي عشت مرارتها بفعل انفصال أمي وأبي عن بعضهما يوم كنت طفلاً.
■ أنتَ انتقلتَ من مهنة معالجة الجريمة إلى دراسة الأديان.ما الذي يجمع ما بين الاثنين.الدين والجريمة برأي توماس؟
ـــ طالما اكتشفتُ أن الجرائم،ومنها النفسية على وجه الخصوص،هي من منشأ ديني لاهوتي بفعل الفراغ الذي لا يستطيع الكثيرون من تعبئته بالحقائق،ومنها التحقق من وجود الرب والعزلة والعجز الجنسي والحرمان الاجتماعي والخوف.لذلك فإن (الفارق الفكري بين عهد (إله القبيلة) وعهد العلم،كما يقول –هنري فالون -هو فارق في المستوى أقل مما هو فارق في العُدّة الإيديولوجية والتقنية الإيديولوجية.فالقوى غير المنظورة التي كان يؤمن بها البدائي،هي طبعاً بلا شَبه بالقوى التي يقيسها الفيزيقي،لكنها تلعبـ على غرارها،نفس الدور.إنها متمايزة عن الواقع،لكنها مختلطة به،وتحثهُ،وتجتاحهُ،وتؤلف جزءاً منه).وهكذا تظهر صورة الإنسان المعاصر جليّةً،سواء في دور العبادة أو في غرف مستشفيات الأمراض العصبية.
■ هل كنت مؤمناً يا توماس؟
ـــ بلا شكّ.فأنا مؤمن بالتناقض بين النهار والليل.أي ما ((كارل ياسبرس)) بالنهار الآمر وبالليل كنزوة.النهار الذي يخضع للعقل لفكرة الوضوح انسجاماً وأمانةً فيما يخص تحقيق الواقع الإنساني،والليل كعلبة للنزوات ((تخترق جميع الأوامر.وتهوي في هاوية الفناء الأزلية التي تجتذب كل شئ في أعاصيرها)).
■ وأين ترى وجود الشعر من كلّ هذا التحرك في أزلية العدم؟
ـــ الشعر برأيي هو جزء من الانقلاب المتحد الذي يحرك النهار نحو الليل،ويجعل من الليل مجرى لشمس النهار.
■ تعني إن الشعر بمثابة لغم زمني؟
ـــ هو هكذا بالضبط.ويمتازُ بالنزوة المراهقة التي لا تنضج إلا بتقلص نفوذ العقل على النصّ.
■ كأنك لا تريد أن تعطي الموت دوراً في ترتيب هذا الفناء المستمر؟!!
ـــ الموتُ هو المقطع الشعري الوحيد الذي دُمِغت به جباه الآلهة،ليبقى متداولاً ومقروءاً على مرّ الزمن.
■ هل سبق وأن مررّتَ بمرحلة الشبحية الشعرية يا سيد توماس؟
ـــ نعم.حدث لي ذلك بعد يوم الثامن والعشرين من نوفمبر 1990،عندما نزلت في رأسي تلك الجلطة دماغية. لتشُلّ الجهة اليمنى من جسدي،وتُفقدني القدرة على النطق.
■ هل تَعُدّ تلك الجلطة جزءاً من تجربتك الشعرية؟
ـــ نعم.فكانت صدّمةً شعرية،استطاعت الاحتفاظ بمسار الشعر الطبيعي،أي من الداخل إلى الداخل،وملغية بناء النصوص خارج النفس.فالجسد بتلك الجلطة،نال للشعر الأحقية بالنمو داخلياً،وبعيداً عن الأعين وسكان العشوائيات الأدبية في العالم.
■ هل كنت متمتعاً بشعرك الباطني؟ومن كان في الداخل الجسدي،ليكتبَ لك تلك النصوص؟
ـــ كانت متعي شديدة لا توصف.شعرت،بأن الشعر،وكلما فرّ من الباطن نحو الظاهر،سرعان ما تفسدُ لغتهُ،وتتشرد كلماته على نحو مرعب،كما يمكن أن أشير إلى ذلك. إما من كان يُدوّن لي تلك النصوص،فلا أحد.ذلك أن الشعر مناطق الذات في الباطن،إنما ينمو نمو السَحاب في أعالي طبقات الجو.
لذلك..وكلما تشكلتْ غيمةٌ منه،سرعان ما تسقطُ أشبه بسبيكة الذهب،لتـأخذ طريقها إلى خزائن بنك اللغة المحفور في الأعماق.
■ بعد ذلك المرض اللعين،سرعان ما تعلمت الكتابة باليسرى مع العزف. كيف تصبح الموسيقى علاجاً للآلام؟
ـــ ما كتبته من نصوص باليد اليسرى،لا يعادل شيئاً من تلك السحائب_ السبائك التي سبق وأن أخبرتك عنها قبل قليل.شعرتُ بأن أغلبَ ما كتبتهُ اليسرى،كان منغمساً بحركة القلب،وكلمات النبض.فيما يدي اليمنى،فقد كانت أكثر اشتباكاً بالصور التي كانت تنأى عن المشاعر والحواس.
■ وتيار الموسيقى الذي فتحت باباً له في يدك اليسرى،هل كان تحدياً أم تسليه لمواجهة سيمفونية الموت بموسيقى خراب الجسد؟
ـــ الموسيقي ينتصر،عندما يكون مسلحاً بأصابع قادرة على بروح الآلة الموسيقية.وأنا بالكاد فعلت ذلك،قناعةً مني بأن الموت ليس هو آخر لحن للوجود. وكذلك فنحن لسنا آخر الكتل اللحنية التي تمنح الكون طاقة الحياة بالدوران على العمود الموسيقي.
■ ألا تعتقد بأن ((الموسيقى تظهر اليوم للباحثين الشجعان كبحث علمي أكثر من كونها فناً تعبيرياً )) كما قال بيير شيفير؟
ـــ أن يستمع المرء للموسيقى شئ،وأن يفتح لها بوابات جسده،شئ آخر.أنا بدأت بملامستها منذ صغري،وذلك بدافع التعويض عن الحرمان الذي ضربني من وراء انفصال الوالدين،ونموي عقلي في فراغهما. منذ ذلك الوقت،تعودت على الاستعانة بالأنغام،طرداً لمشاعر القلق والكآبة.ونجحتُ إلى حدّ ما بالتعبير عن عواصف الباطن التي كانت تستوطن الروح.
إما موسيقى التكنولوجيا اليوم،فهي الأخرى تشق طريقها نحو الجسد،ولكن بضربات الآلات فقط.
■ هل يمكن برأي توماس المساواة ما بين الشعر والمرض؟
ـــ لا أعتقد بذلك.فالشعرُ جائحة من الفيروسات الدائمة التي تحاول السيطرة على أوسع المساحات من حقول الأرواح الإنسانية على الأرض،فيما المرضُ شأن يخصُ الوضع الجسدي بيولوجياً. ولكن،لا يمكن نسيان أن المرض بحدّ ذاته،إنما هو نصٌّ من النصوص العظمى لما تكتبهُ الآلام على الألواح العميقة من اللحوم الآدمي.
■ ماذا تعمل الآن في السموات يا توماس؟
ـــ مربي خيول.أنه توق قديم إلى تلك المهنة التي ووجدتها مدفونةً في داخلي،واكتشفتها بعد الانتقال إلى هنا.
■ هل تعمل من أجل المراهنات؟
ـــ بالضبط،فالمراهنات على خيول السبق،عملٌ فيه الكثير من الشعر والموسيقى والقلق.
■ ولكنك لم تكن على تلك الأرض مغامراً إلا بحدود اللغة وتصاوير اللغة.فما الذي حدث لك،لتنخرط في مهنة كهذه؟
ـــ أريد اتقان هذه المهنة،لتربية جيش من الخيول،وكلّ ذلك من أجل استقبال زوجتي مونيكا،عندما ترتقي سلالّم الغيب قادمة من ستوكهولم إلى هذا الفردوس الذي عثرنا عليه في هذه المنطقة الشبيهة بمدينة فيستبروس السويدية،حيث كنا نقيم آنذاك،قبل الانتقال إلى العاصمة.
■ هل تتزاور مع بعض الشعراء أو الفنانين؟
ـــ دائماً.بالأمس أخذني الممثل والمغني إيف مونتان بجولة على حقول الاكتئاب،حيث رقصنا على إيقاعات أغاني إيف ووردة الجزائرية التي شاركته بأغنية ((بتونس بيك)) التي سرعان ما أعطت ثمارها،وذلك عندما انفرجت الغيوم عن وجوه المكتئبين دون الاستعانة سيغموند فرويد أو ممرضات ((الشماعية)) بعدما قامت حركة داعش بتلغيم أجساد المجانين من مرضى تلك المستشفى بالديناميت،ودفعهم إلى شوارع بغداد للانفجار بين الناس.
■ وهل تأثر توماس ترانسترومر بمنظر أهل الكآبة؟
ـــ قليلاً.فقد لا يجد الشاعر ميلاً للسكينة والهدوء في الفردوس،لأن ذلك يُعطلُ من قدرات الشِعر على النمو أو الظهور.الشاعر يحتاج للخلخلة،وليس إلى وسادة من الحرير والإستبرق.
■ تعني إن الشيطلائكيين هم الأكثر استيعاباً لروح الشاعر في العالم العلوي،كما كانت في العالم السفلي؟
ـــ أجل. وهكذا أفكر أنا لأن – الشيطان وعي صافٍ ومطلق لذات أُجبرت على عقد قرانها مع التعمية.حالة الشيطان إذن هي وعي مستمر للازدواجية،وعي الوقوع في فخّ المحدود،ليس في المكان (الجسد) فحسب،وإنما أيضاً في الزمن الذي تقيسهُ الساعة- وما زلت أتدرّب على كلّ ذلك.