حوار: أسعد الجبوري
تاريخ ومكان الميلاد: 20 مارس 1920، القاهرة، مصر
تاريخ ومكان الوفاة: 6 فبراير 2011، باريس، فرنسا
كانت نائمةً على العشب بين جناحي طير «التو»، قريبًا من بحيرة الجمر المغطاة بأشجار الزنزلخت الكثيفة. لم نكن نتخيل أن الشاعرة الفرنسية أندريه شديد تحب النوم في العراء بذلك القدر من الاستغراق. ومع ذلك نهضت المرأة بعد أن ضغطت على زر في جسد ذلك الطائر، لتنفرج جناحاه وتخرج علينا بكامل قامتها، متلألئةً بفستان من الموسلين الأسود، وحذاء أبيض من نوع سكاربيلة مصنوع من الجلد.
تصافحنا وتبادلنا ألواحًا من الشوكولاتة، ثم جلسنا على أريكة بالقرب من خلية نحل تقع في تجويف صخري قريب من المكان.
وما إن انتهت الشاعرة أندريه من الحديث الشيق عن النحل وخلاياه الشبيهة بخلايا الشعر في اللغة، حتى دخلنا العتبة الأولى من الحوار.
قلنا للشاعرة شديد:
س: هل كانت المرآة صديقتك؟
ج: أجل. أنا أتشابه مع الزجاج بالشفافية والبوح.
س: وماذا رأيتِ بنفسك في المرآة يا أندريه شديد؟
ج: مخلوقات تتجاذب إلى مخلوقات متعددة، أي كنت أرى جسدي بأرواح كثيرة.
س: وهل كان ذلك يُسعدك؟
ج: بالتأكيد. كانت سعادتي منوطة بوجود شخصيات تحاور ذاتي.
س: وبماذا كانت تشارككِ تلك المخلوقات؟
ج: بالحساسيات الوجودية التي رغبت أن تنتجها تلك الكتابات التي تخرج من أعماقي، وذلك ما حصل فعلًا.
س: وهل نجحت أندريه شديد في توفير أو خلق ذلك الإنسان الشمولي وصيانته على مستوى العالم؟
ج: لم يكن ذلك بالأمر السهل، أن تخلق كائنًا بلا خلايا دينية وعرقية، إلا أنني حاولت توليده بداخلي وتحصينه كمخلوق حضاري متعدد الهويات، قبل أن أحرّض الآخرين على توفير المناخ والظروف لولادته.
س: كيف كان جسدك كمكان؟
ج: لم أعش بجسد واحد كمساحة، كنت صاحبة أرواح كثيرة لاستعمالاتها في أكثر من جسد.
س: هل الزمن جسد من لحم؟
ج: أعتقد ذلك. فزمني الجسدي كان يتجوهر بالحب، ويتألم ويفرح، مثلما كان يشعرني بتضخم الشهوات، على الرغم من فصول الرماد التي مررتُ فيها.
س: هل سبق وأن رأيتِ جسدكِ مغمورًا بالمطر في النوم؟
ج: لا. ولكنني عادةً ما أجد جسدي مبللًا بالليل.
س: هل الليل صنف من المياه؟
ج: هو كذلك وأكثر. كنت أشعر بأنني أمضي معظم أوقاتي في النوم وأنا مسترخية في مجرى هادئ من المياه.
س: ما علاقة الليل بالنوم بالمياه؟
ج: أعتقد بأن اجتماع الثلاثة يمكن أن يخلق طقسًا شعريًا فاعلًا ومركّزًا.
س: هل سبق وأن كتبتِ قصائد وأنتِ مبللة؟
ج: بالتأكيد نعم. وبالتأكيد كنتُ أتبلل بنوع آخر من المياه.
س: تقصدين مياه الشهوات الخصبة؟
ج: بالضبط. فتلك المياه مشبعة بأنفاس الثعالب وروائح الأرانب.
س: هل لحم الحب يشبه لحم خروف صغير؟
ج: لا أظن ذلك، فإغفال لحوم الثيران ليس في صالح الغرام.
س: الغرام السريري أم غرام الأغاني المحشوة بالذكريات؟
ج: كنت مؤمنة بالحب المحبَّر.
س: تقصدين بالحب العملي الذي عادةً ما ينتهي بالتدوين؟
ج: وهو كذلك، فالحب الشفوي غير قابل للحياة.
س: وماذا عن الحب الجغرافي؟
ج: هو الأكثر فتنة كما أعرف.
س: كيف؟
ج: سبق لي واعتقدت بأن الجغرافيات ليست خرائط وحسب، إنما هي مزيج من اللحوم والتراب، كلاهما يتفاعلان معًا بدمج الفلزات وخلق معادن الأرواح.
س: من أين تأتي خبرة الشاعرة أو الشاعر برأيك؟
ج: من البحث في بواطن الكلمات.
س: وماذا يوجد في تلك البواطن العميقة النائية غير المرئية؟
ج: هناك تمكث اللغة قبل خروجها إلى الظاهر.
س: وهل تخرج اللغة من هناك بمحض إرادتها أم بسبب ما مثلًا؟
ج: ما من لغة تخرج من الباطن قبل أن تخلّف سلسلة من المواليد في قاموس الجسد السرّي.
س: وهل تحافظ النصوص على جودة مخلوقاتها بتلك الطريقة؟
ج: على الأقل تحوّل دون ذبولها على الورق مبكرًا.
س: أتظنين بأنك أنجزت فكرتك تلك في مجموعاتك الشعرية التي توالت: نصوص من أجل وجه (1949)، نصوص من أجل قصيدة (1950)، نصوص من أجل الحي (1953)، نصوص من أجل الأرض الحبيبة (1955)، الأرض المشاهدة (1957)؟
ج: أعتقد بأن لسان الزمن يؤيد ما أوردته قصائدي في تلك المجموعات.
س: ما الذي جذبكِ إلى مفهوم المواطنة العالمية؟
ج: الكتابة. فما إن وقعتُ تحت تأثيرها المغناطيسي، حتى وجدتُ نفسي برأس مفتوح على العالم، دون حدود أو سقوف.
س: إلغاءً للهويات؟
ج: بالضبط. فالشعر ساعة بتوقيت زمني لكلّ العالم.
س: وإذا ما تعرّضت تلك الساعة للكسر أو الخراب، ماذا يحدث للشعر؟
ج: المهم الحفاظ على الزمن من التحطّم أو الكسر كي لا يمتدّ الخرابُ للشعر ونفقد قوة اللغة.
س: كيف يتفاعل الشعر مع الزمن برأيك؟
ج: طالما فكّرتُ أنا بذلك، فوجدتُ أن الاثنين يتبادلان الأدوار أمام مرآة. تارةً يقف الشعر أمام تلك المرآة فيرى الزمن، وتارةً يمرّ الزمن بتلك المرآة، فلا يجد غير الشعر فيها، وهو يشقّ له الطريق في الزجاج ليختفي، تاركًا ظلاله في النصوص.
س: أين رأيتِ الزمن للمرة الأولى؟
ج: رأيته ينمو على صدري ويكبر.
س: وهل كان الزمن عضوًا زوجيًا من ثديين أم ماذا؟
ج: هكذا شعرتُ به آنذاك. وأن يتمركز زمنُ الشعر بالثديين، فمعنى ذلك أن اللغة بدأت تُرضِع.
س: تُرضِع مَنْ؟!
ج: تُرضِع الكلمات كي تبدأ دورتها وصولًا إلى المراهقة، أي مرحلة خصب المخيّلة واللقاح العاطفي.
س: أنتِ تزوّجتِ من عالم أحياء، فكيف كانت المسافة ما بين الرومانسي والبيولوجي؟
ج: أنا اعتبرتُ الزواج مهمة استطلاعية لاكتشاف الكائنات الحيّة في الجسد، أي سبر العاطفي لتراب المغروم فيه وصولًا لنموّ وتطوير الحب في خلايا اللحوم كمصنّفات لعلم الأحياء.
س: هل تعتبرين الشعر شأنًا بيولوجيًا يتبع لعلم الأحياء؟
ج: بالتأكيد نعم.
س: وكيف يحدث ذلك برأيك؟
ج: أنا لا أفصل ما بين علم اللغة وعلم الأحياء. ذلك أن غالبية الكلمات هي من منشأ بيولوجي، محكوم بالنشاط السيكولوجي لحركات الأحرف وما يصدر عنها بعد مخاض الكتابة.
س: هل ينطبق ذلك على الكتابة بالفرانكفونية أيضًا؟
ج: أنا جينوم عربي، وقّعت جميع بيانات خلاياه بولع الفرانكفونية لينمو شعرًا في العالم الحي.
س: هل مضى ذلك الجينوم في نموّه دون أن يمرض أو يصاب بالإحباط مثلًا؟
ج: لا يخلو الأمر من بعض الأمراض، ولكنها أمراض لا تجعل القصائد متعثّرة وتموت على السرير إكلينيكيًا.
س: هل ترجمة الشعر تجعل منه رمادًا برأي أندريه شديد؟
ج: يحدث ذلك في أغلب الأحوال. الشعر يتحصّن بلغته الأم ويرفض الانزياح عن الرحم الأوّلي.
س: هل كانت الجوائز التي حصلتِ عليها: (جائزة لويز لابيه عام 1966، وجائزة النسر الذهبي للشعر 1972، والجائزة الكبرى للأدب الفرنسي من الأكاديمية الملكية ببلجيكا عام 1975، وجائزة أفريقيا المتوسّطة عام 1976) دافعًا للتشبّث باللغة الفرنسية مثلًا؟
ج: ليست الجوائز وحدها، بل الحرية التي تبدأ بالعقل الذي يقوم بإفراز منتجات المخيّلة، وإلى الأصابع التي تدوّن النصوص.
س: ما الذي كنتِ تريدينه من الشعر؟
ج: ثيابي الداخلية.
س: الملابس الورقية تقصدين؟!
ج: لا. لم يكن الورق غير غسّالة أقمشة، وثياب الشعر ليست من تلك الصنوف بالتأكيد.
س: هل كتبتِ رواياتك البيت بلا جذور، ودرجات الرمل، ونفرتيتي، وحلم أخناتون تعويضًا عن خسارة في الشعر؟
ج: لا أظن ذلك أبدًا. لقد بحثتُ في رواياتي عن الجذور الإنسانية.
س: على غرار ما بحث عنه أليكس هالي في روايته الشهيرة الجذور؟
ج: كلّ كاتب يبحث عن جذوره بالطريقة التي يراها تناسب زمانه ومكانه، خاصة أنني بحثتُ عن مصير لبنان الهش تحت ركام الحرب الأهلية.
س: كيف كنتِ تنظرين إلى الفلسفة في الشعر؟
ج: رائحة تفاح.
س: تفاحة آدم تقصدين؟!
ج: خلوّ وجودنا من تلك التفاحة ورائحتها، عادةً ما يثير الجدل، فتصبح حياتنا الشعرية معقّدة بالفراغ.
س: هل كان القلق دائم الحضور برأس أندريه شديد؟
ج: يمكن الإجابة بنعم بالتأكيد. فالقلق إنجاز العقل الأهم، ودون ذلك تضمحلّ النصوص مثلما الأيام.
س: وما علاقة الصوفية بكلّ ذلك؟
ج: أنا أرى الصوفية بمثابة السيروم المعلّق بالوريد الشعري، كلاهما يختلطان بالدم لإتمام خلق النصوص العميقة.
س: ألا تعتقدين بأن في باطن الصوفية أكسدة مركّزة لا تحمي القصائد من الملوّثات اللغوية الضارّة؟
ج: ربما. فبعض مضادات الأكسدة فاسدة بمعتقداتها الدينية وبتربية التصاوير الخاصة بالمخيّلة.
س: ما المسافة الفاصلة ما بين الشعر والرواية؟
ج: أنا حاولت بناء عالم روائي من جحيم قيعان البلدان حول العالم، فكان الإنسان هو ليالي رواياتي ونهاراتها. فكّكتُ الظلام في الرؤوس ووجّهتُ أشعة الشمس نحو الزوايا الغامضة في الجسد البشري.
س: هل تتمتّعين بنوم هادئ الآن؟
ج: لا. ما زلتُ أطوف حول العالم وأنا على دراجتي الهوائية.
س: وتشربين الكولا؟
ج: لا. الشمبانيا أفضل للقلب.
س: لأنها تفتح نوافذ القلب نحو المحبوب أم ماذا؟
ج: نعم، هي تفعل ذلك بالتأكيد. وبالإضافة إلى ذلك، أدركتُ أن الشغف وليد احتكاك عجلات دراجتي بالصخور كما عرفت. فكلّ احتكاكٍ لا يولّد نارًا، لا يُعوّل على حرارته في الجسد أو على الورق.





