حنين

ياسمين الغمري
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسمين الغمري

الرابعة فجرًا، يرن جرس الهاتف الأرضي.

  • ألو.. منْ معي؟

جاء صوت نسائي يغلب عليه الرعشة وعدم الاتزان.

  • مرحبًا أنا آمال.

يفرك عينيه ويعدل موضع نظارته الطبية على عيناه.

  • عفوًا.. آمال منْ؟

جاء الصوت أقل توترًا.

  • أنا آمال.. زوجتك السابقة.

عدل سماعة الهاتف في راحة يده.

  • نعم.. نعم… تذكرتك، اعذريني هذا الاسم لم أسمعه منذ سنين.
  • أعلم، زواجنا كان قصيرا جدًا وسنوات الفراق كانت أطول.
  • نعم سنوات الفراق هي الأطول، لكن هل حدث شيء جلل لتتصلي بي في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
  • لا.. مجرد حنين لا أكثر.

صمت ساد الحديث إلى أن استأنفته هي.

  • حنين لعمر ولى، لزمن كانت الحياة لديها متسع من الوقت لتضحكني لكنها لم تفعل، هل تذكر أول لمسه يد عندما حاولت مساعدتي للنزول من على رصيف المحطة العالي؟ ربما لا، فأنت لم تتذكر اسمي، فطبيعي ألا تتذكر مثل هذه التفاهات.

يأخذ نفسًا عميقًا، محاولًا السيطرة على رعشة صوته

  • آسف، ربما أسأت التعبير بسؤالي آمال منْ؟ كل ما في الأمر أني استيقظت على رنة جرس الهاتف في وقت متأخر من الليل، ولم يكن ذهني حاضرًا بكل طاقته.
  • لا عليك.. كما قلت لك مجرد حنين، لا يهمني إن كنت تتذكرني أم لا، يكفيني أني اتذكرك. محمود هل تتذكر شعورك عندما قلت لي أحبك أول مرة؟ هل تتذكر وأنت تقول لي آمال أنتِ طالق؟

أمسك سماعة التليفون بإحكام ثم جلس على كرسيه واعتدل في جلسته مرجعًا ظهره للخلف. ابتسم مسترجعًا الزمن البعيد

  • لا.. أتذكر فقط حينما قلت لكِ أحبك يا آمال.. تقبلي أن تكونِ زوجة لي؟
  • وهل ما زلت تذكر رده فعلي؟
  • نعم، أتذكر جيدًا، لمعت عيناكِ ثم سكتِّ، فقمت بإعادة السؤال عليكِ مرة أخرى، لا أدرى لماذا اختفت اللمعة عندما أعدت السؤال وكأنك انتبهتِ لشيء داخلك حجب عنك الفرحة.. حاولت تخطي ما رأيت وانتظرت إجابتك ثم قلتِ “نعم” فاترة، لماذا كانت إجابتك فاترة يا آمال؟
  • أتدري يا محمود كم مر على فراقنا؟
  • لا، لم أعد السنين.. أعلم أنها كثيرة لكني سئمت الزمن وأيامه.
  • لقد مر ثلاثون عامًا يا محمود، ربما تكون قد أصبحت جداً الآن ولديك الكثير من الأحفاد.
  • لا، ليس عندي حفيد واحد حتى، أنا في هذا الزمن أعيش على ما ادخرته من فرح الصبا والشباب، اعتقد أنتِ من لديه الأحفاد والأبناء فطالما حلمتِ بالأولاد وتكوين العائلة.
  • لا، ليس لدي أطفال أنا أيضًا ولا أحفاد.. عشت مثلك بلا أنيس، حتى زوجي تركني ورحل منذ عشر سنوات وكأنه مكتوب عليّ أن أحيا بين زوجين؛ الأول سئم الحياة الزوجية وفضل العزوبية من جديد والثاني منحني هدوءا وسكينه لم تدم طويلًا، رحل وترك خلفه امرأة في الخمسين من عمرها بلا هدف في الحياة.

ـ محمود اتركنا من هذه الذكريات، أنا أهاتفك لأن لدي كلام كثير أرغب في قوله لك، فاسمح لي بالكلام وتفضل عليَّ بالإنصات.

أجاوبك أولاً على سؤالك الذي لم تسأله منذ ثلاثين عامًا واليوم تريد معرفة الجواب، لقد اختفت لمعة عيني في المرة الثانية لأني انتبهت لحقيقة أنك لم تكن تحبني لذاتي، كنت فقط تحاول أن تنسي بي حبيبة سابقة خطفها الموت منك، ولكني قبلت بالزواج من فرط تعلقي بك.

محمود أنا اليوم في الستين من عمري، ربما أموت اليوم أو غدا أو بعد غد.. وهذا لا يهم فهذا قدر وهو قادم لا محالة، ما يهم حقًا أني أحبك يا محمود رغم عدم حبك لي، أتعرف.. حلمت بك أكثر من مرة في منامي، كنت أستيقظ بعدها فرحة نشطة أريد أن أحضن الدنيا كلها.

أتعرف لا أستطيع أن ألومك لماذا لم تحبني؟ فالقلب له أحكام وسلطان هو من يحكمنا.

لقد أرسلت لك على عنوان بيتك مظروفًا فيه نسخة من صور جمعتنا أيام زواجنا الأولى، كلما هزمني الزمن، اذهب إليها، أنظر إليك وأحدثك بالساعات حتى أهدأ وتستكين نفسي. أتعرف، حتى اليوم أفعل ذلك.

ضحكت ضحكة ناعمة وأكملت:

أسفة، لقد تحدثت كثيرًا، فأنا ثرثارة كما تعلم، وأعلم أن هذا كان يزعجك مني، يكفي هذا اليوم، غدًا نستكمل حديثنا، تصبح على خير، وآسفة على الإزعاج.

أغُلقت الهاتف.

ألو، ألو، ألو.. آمال، لا لم تزعجني ثرثرتك تكلمي أنا أسمعك.

لكن لا أحد يجيب، فقط صفارة سماعة الهاتف المسموعة. أغلق محمود الخط ووضع السماعة فوق الهاتف الأحمر.

انتظر محمود يوم واثنين وثلاثة وشهر وسنة ولم تتصل آمال مرة أخرى. 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال