مينا ناجي
مرة في خروجة قررنا نلعب لعبة من تطبيق على الموبايل، عاملة زي الفوازير، بيقولك قصة وأنت تحاول تعرف إيه اللي حصل.. والفزورة اللي اتقالت بحسب ما أفتكر “راجل وست في عربية واقفة والدنيا بتمطر، الراجل بينزل وهو خايف وبيقفل العربية على الست، لما بيرجع بيبقا معاه مايه، وبيلاقي شخصين جوه العربية المقفولة ميتين”.
شوية وقت صغيرين ورحت مجاوب “الست كانت حامل وماتت وهي بتولد”. الناس في الأول شكّوا أني عارف الفزورة، وبعدين لما أكّدت أني أول مره أسمعها شافوا أن دا ذكاء مني.
في الحقيقة هي ولا كده ولا كده. اللي حسيته أني متعود على طريقة التفكير دي، ولما فكرت شوية لقيت أنها شبه نوع من القصايد بسميها “القصائد اللغز أو الفزورة”، ومن أشهر شعرائها اليوناني “يانيس ريتسوس”. ريتسوس هو الاسم اللي جه في دماغي وقتها فعلاً. القصايد دي جزء من جمالها هي حل الفزورة، الشاعر بيديك أقل معلومات ممكنة وأنت تكوِّن معنى الموقف بنفسك، ومتعتها هي نفس متعة حل الفوازير. ميزة كمان أن دا بيتيح أكتر من تفسير للقصيدة ودا بيخليها نَص أغنى.
دي بعض أمثلة من قصايد بحبها لريتسوس أشرح بيها قصدي (القصايد من ترجمتي عن الإنجليزي).
****
الليلة نفسها
((حين أشعل نور غرفته، عرف للتو
أنه كان نفسه، في مساحته الخاصة، مقطوعٌ من
لانهائية الليل ومن فروعه الطويلة. وقف
قبالة المرآة ليؤكد نفسه. لكن ماذا عن تلك المفاتيح
المعلقة من رقبته على خيط قذر؟))
إيه الكلام العجيب دا؟!
أول حاجة بتيجي في دماغ الواحد أن غرابة القصيدة غير المفهومة دي بتزيد جدًا بسبب السؤال العجيب اللي في الآخر. ليه التساؤل دا حوالين الخيط اللي متعلق منه المفاتيح؟ وبعدين مين دا اللي مش عارف نفسه ورايح يبص في المراية عشان يتأكد، إحنا هانهزر؟!
أول طريق لحل الفزورة/قراية القصيدة أننا نروح للسؤال العجيب دا ونسأل نفسنا: مين اللي بيعلق مفتاح حوالين رقبته؟ مممممم، يا إما طفل صغير عشان المفتاح مايضعش منه. تمام. أو؟ أو حد بينسى كتير وممكن ينسى المفتاح في أي حتة.
يبقا النسيان! الشخص دا بينسى أو بيجيله فقدان ذاكرة كتير وعامل حسابه على دا. فقدان ذاكرة؟ يعني ممكن بينسى هو مين؟ آه في حاجة زي كده فعلاً.
يبقا دا شخص جاله حالة فقدان ذاكرة مؤقت وعرف بطريقة ما يرجع بيته، ولما فتح النور أفتكر هو مين بسبب ألفة بيته وتفاصيله. و”مقطوع من لا نهائية الليل” يعني اتفصل عن عالم النسيان اللي مالوش نهاية ومن دهاليزه “فروعه” اللي بتأسره جواه ورجع تاني لنفسه!
طيب ليه الراجل استغرب المفاتيح اللي متعلقة حوالين رقبته؟ ببساطة لأنه نسي أنه بينسى. أكيد سأل نفسه لحظتها: “أنا ليه معلق المفاتيح حوالين رقبتي كده زي العبيط؟!”
طيب إيه ممكن يكون معنى العنوان؟ ممممم، ممكن يتقال أنه في الليلة نفسها كان “ضايع في لانهائية الليل” ورجع تاني لنفسه، في الليلة نفسها كان شخصين مختلفين ملهمش علاقة ببعض غير سلسلة مفاتيح حوالين الرقبة.
****
منفية مرتين
((إنها تنسق الزهور في المزهريات، تُرتب، تَميل على،
تحوم حول الرجل. إنه صامت.
صباحٌ هادئٌ على النوافذ الأربعة. في يدها،
منفضتها المريشة تطير فوق الأثاث
باهتمام شارد الذهن. يراها
كطائر غني الألوان يتبختر
حول تماثيل البورسلين الصغيرة. تقف
ثابتة، تتردد، أخيرًا تميل عليه: ‘لا، لا’
‘ليس طائراً’، تخبره، وتنتحب.))
إيه الست المجنونة دي!! بتعيط ليه لما بيقولها أن المنفضة زي طائر جميل ملون يعني؟!
طيب إحنا ممكن نبتدي حل اللغز دا منين؟
نجرب العنوان الغريب. “منفية مرتين”. مين اللي منفية؟ غالبًا كده الست منفية عن الراجل. الراجل ساكت. شكلها كده حالة برود زواجي. الست حاسة أنها بره عالم جوزها، منفية. الراجل شكله مثقف وعمال يرزع تشبيهات زي أن ريش المنضة عامل زي طير ملون بيطير حوالين التماثيل (التماثيل هنا بتشير برضو أنه حد مثقف/غني وله ذوق فني).
ترددها أنه تقوله رأيها بيبين أنها في مكانة أقل منه، يا إما مراته المغلوب على أمرها أو ممكن الست اللي بتنضف البيت بس بتحبه من ناحية واحدة (لاحظ الأفعال زي “تميل على، تحوم حول الرجل”) والراجل مش واخد باله منها.
طب إيه اللي حصل؟ هو قالها التشبيه دا راحت اتوجعت وقالتله لأ! عارضته على جملته العَرَضية دي، وبعدين عيطت. طيب ليه التشبيه دا وجعها قوي كده؟
ممممممم، الطير بيستدعي فكرة القفص والحبس. ممكن بتحس أنها محبوسة جوه بيتها زي الطير والتشبيه جه على الجرح: طائر زينة محبوس جوه قفص في حياته وهو مشغول عنه، الطير منفي عن وليفه/حبيبه.
أو ممكن حاسه أن الطير اتدبح عشان يتاخد ريشه ويتعمل بيه منفضة يتنضف بيها، زي حياتها اللي ضاعت عشان تاخد بالها منه وتنضف بيته بالريش اللي اتنتف منها، والتشبيه كان مرعب بالنسبالها لأنه بيوصف حالتها وإحساسها بدقة.
طيب ليه العنوان اسمه منفية “مرتين”؟ يمكن القصد أنها منفية مرة في الحقيقة (في الحياة الواقعية يعني في علاقتهم) ومرة تانية اتنفت بسبب التشبيه المؤلم والمرعب. اتنفت مرة تانية “لغويًا” وهنا مستحملتش وانهارت بقا!
****
دائرة
((الصوتُ نفسه، الآن أجشًا أكثر، يخبره لاهثًا،
‘هنا حيث أنتهي، هنا حيث أبدأ مرة أخرى’ – دائمًا
نفس الأمر،
دائرة تعاد، وفي الدائرة
السرير الشاغر أو الطاولة العارية بمصباح
يضيء يدين تتحركان بلا هدف
ينتزعان قفازين أسودين بلاستيكيين طوال.))
نعم؟ خير حضرتك؟! المفروض نفهم إيه؟!
نجرب نبدأ من الآخر. إيه حكاية الجوانتي الأسود دا؟ نفكر مين اللي بيلبس جوانتي أسود جوه البيت؟ آااه، غالبا حرامي، هجّام خِزَن مثلاً، عشان البصمات وكده.
طيب فين المكان اللي بينتهي فيه هجام الخزن وبيبدأ منه مرة تانية؟ بيته هو شخصيًا طبعًا، لما بينفذ الطلعة بتنتهي بأنه يرجع بيته، وبيبتدي الطلعة الجديدة برضو من بيته.
واضح كده أنه لسه راجع من هجمة. الصوت (صوت ضميره أو دماغه) “بينهج” وبيقوله هنا بينتهي الأمر وهنا بيبتدي مرة تانية. صوت غليظ أجش من التعب غالبًا، وخلاص بيقلع الجوانتي اللي نفذ بيه العملية (السطر الأخير اللي بادينا بيه).
واضح برضو أنه فيه حالة زهق وقنوط كبيرة “دائمًا نفس الأمر، دائرة تعاد”. غالبًا كمان هو مش هجام ناجح قوي، لأنه بيعمل دا بقاله فترة (باين من الزهق والقنوط) ومافيش مظاهر غنى باينه عليه: أوضته بسيطة، سرير فاضي وترابيزه عليها أباجورة.
طيب إيه حكاية “يضيء يدين تتحركان بلا هدف” دي، أي رَزع في النُص؟
أو أنه جوه بيته إيده مش بتتحرك “بهدف” التفتيش أو السرقة. هي بتتحرك بدون هدف جوه بيته لأنها “مش بتشتغل”، مش بتعمل حاجة غير أنها تقلع الجوانتي، بدون أمل وبدون غاية.
طيب إحنا ممكن نفهم القصيدة على مستوى تاني؟
آه ممكن طبعًا، دا ريتسوس يعني! شيل الحرامي وحط بداله شاعر أو كاتب..
الكاتب بيقوم من النوم (السرير فاضي) ويروح يكتب (على الترابيزة بالاباجورة). بيجهز ويلبس الجوانتي الأسود عشان يسرق (يمسك) معنى أو فكرة أو جمال بيسعى وراه، بس غالبًا بيفشل ويقلع الجوانتي في يأس والصوت في دماغه يقوله “هنا حيث أنتهي، هنا حيث أبدأ مرة أخرى”: دايمًا نفس المجهود ونفس الفشل، دايرة بين النوم والنوم وبينهم اليقظة. دايمًا نفس الحاجة: سرير ومكتب وإحباط.
****
مهنة الشاعر
((في الرواق، الشماسي، الأحذية الواقية، المرآة؛
في المرآة، النافذة أهدأ قليلاً؛
في النافذة، بوابة المشفى عبر الشارع. هناك،
طابور طويل من متبرعي الدم المألوفين، نافذي الصبر،
المتقدمين منهم شمّروا أكمامهم بالفعل
بينما في الغرف الداخلية.. المصابون الخمسة ميتون.))
إيه اللي حصل؟
واضح كده أنها حادثة كبيرة، فيه مصابين، وواضح أن قرايبهم وأصحابهم جريوا على المستشفى ولما عرفوا أنه محتاجين دم كانوا عاوزين يتبرعوا بالدم. تمام. بس الخمسة كلهم ماتوا. طيب إيه؟
القصيدة في الأول مش بتبتدي في المستشفى، لكن في بيت على الناحية من الشارع قصاد المستشفى.آه، غالبًا كده من العنوان اللي ساكن البيت دا شاعر.
والشاعر دا قاعد على كرسيه بيكتب وقصاده الناس بتحاول فعلاً تعمل حاجة ملموسة، زي أنها تلحق ناس من الموت بأنها تتبرع بالدم. حاسس يعني أنه معندوش دم وقاعد والعالم بره بيحصل فيه أحداث ومصايب وهو مش بيتحرك. دي مفارقة مهنة الشاعر، بيكتب عن المشاعر وهو مش بيقوم بأي تصرف كأنه معدوم الإحساس.
بس الفزورة دي ممكن تفهم كمان بشكل أعمق وأكثر سوداوية..
الشاعر هنا ممكن نحطه مكان متبرعين الدم المشمرين ومتهلفين يتبرعوا عشان ينقذوا الناس اللي بتموت. الشاعر كمان بينزف “شِعر” عشان يوصف ويشير للكوارث اللي بتحصل في حياتنا المشتركة، لكن دا مش بيغير مسار الكارثة وبيقع المحظور، على غرار كلام هيجل إن بومة منيرفا لا تحلق إلا عند الغسق، يعني الحكمة مابتوصلش غير في نهاية اليوم لما الحاجات تكون حصلت. الإحساس بتاع فوات الوقت والعجز قدام الكوارث موجع جدًا ودا الحكم اللي بيتحكم على الشاعر اللي بيمتهن الشعر، إنه يقدر يشوف ويقدر يصرخ ويعبر بس بدون لزوم ولا فايدة، لأنه الضرر غالبًا بيتم وهو هايكون مشمَّر دراعاته وواقف على الباب على الفاضي، لأن الناس اللي جوه ماتوا خلاص.
**
اللي انبسط من اللعبة ممكن يجرب ويعيش مع قصايد تانية لريتسوس أو لشعرا غيره كتير. غير متعة اللعب وحل الفوازير بالتأكيد هيلاقي أفكار ومشاعر ورؤى هاتغنيه كإنسان أكتر.