فرج مجاهد عبد الوهاب
في أول أعمال عمار علي حسن الروائية “حكاية شمردل” التي صدرت طبعتها الأولى قبل عشرين سنة يحضر ضمير المتكلم كراوٍ مشارك بالأحداث، وأقصاها البطولة التي يكون معها الراوي ذاتي الحكاية والسرد بهذا الضمير، الذي هو ثمرة اختيار جمالي واعٍ، وليس علامة من علامات المطابقة المباشرة، أو الاعتراف أو السيرة الذاتية، ولذلك يري أحد نقاد الغرب أنه خلافاً للمنتظر، فإن الرواية بضمير المتكلم نادراً ما تتوصل إلى الأيام بالحضور والحينية الظرفية.
على آلية ذلك التناول الفني يقدّم الروائي – عمار علي حسن – مشروع روايته “حكاية شمردل” الصادرة عن مركز الحضارة العربية في القاهرة عام 2001 والتي صدرت طبعتها الثانية عن بيت الياسمين عام 2012، إلا أننا سنعتمد على الطبعة الأولى في هذه الدراسة.
وتأتي أهمية الرواية من حيث أنها:
1-من الأعمال الروائية المبكرة لعمار علي حسن الذي بدأ أكثر نضجا ووعياً للنظرية السردية وعوالم الرواية التي أبدع في كتابتها فيما بعد، وبذلك تشكل مؤشراً موضوعياً وبنائيا لمدى التطور الذي وصل المبدع إليه بعد هذه الرواية.
2-تداخلت الرواية مع الحس الإنساني من خلال مرض بطلها “يوسف محمد شمردل” وهو في الوقت نفسه جندي في القوات المسلحة، ومن ثم تتداخل مع تحرير الكويت، إضافة إلى حدوثه لها علاقة بالزي الأميري الرسمي والزي المدني الذي سرق منه بعد دخوله غرفة العمليات مما شكل فصلاً سردياً موازياً فنياً وتقنياً لكل ما سبق من أنساق كانت مقدمات النص السردي ومقوماته فبعد الإهداء الوطني والإنساني الذي رفعه إلى محمد الدرة. الحجر الذي ألقي في مياهنا الراكدة فحرّك ساكنها، يدخل في تفاصيل سيرة حياة شمردل ويروي حكايته من خلال وصف حكائي مسهب للشارع الواقع تحت قدميه “اليوم تضيق وتضيق وأنا أرمي إليك ساقين متعبتين أسير مطأطأ الرأس قابضاً على جرحي” قاصداً مستشفى الحميات الذي رماه طبيب في العنبر رقم 6 وعندما زاره الطبيب وسأله: منذ متى وأنت مريض رفع يده عن خمسة أصابع مفردة عن آخرها، أضاف إليها إصبعين من اليد الأخرى.
فقال الطبيب مندهشاً: سبعة أيام. حملته إلى معسكره في الصحراء الجرداء وزعيق صفارة طابور الصباح وصولجان الصول حسن الجلاد ويشعر بجسده يتثاقل ويحمله صديقه القادم من طين الصعيد على كتفه إلى خيمته ينقل بعدها إلى الوحدة الطبية في سيارة وبرفقة صديقه يفحصه الطبيب ويعطيه دواء وفي طريق العودة صرخ صديقه بالسائق أن يقف لحظة نزل وجلب بضع نباتات من “العاقول/الدواء الذي ينقي من أمراض الجهاز البولي ويفتت الحصيات إلا أن حالة الشمردل ازدادت سوءاً ويتقرر اصطحابه إلى المستشفى العسكري ويطلب الصول الجلاد لقاء جنود لتوديعهم ليشارك ضمن القوات المصرية التي ستشارك في تحرير الكويت وتحين ساعة الرحيل ويصطحبه صديقه إلى القاهرة ويصمم على أن يوصله إلى بيته فيرفض لأنه لا يريد صديقه أن يري عورات قريته يتحامل على نفسه ومضي باتجاه قريته ليسمع بأن قوات التحالف تتجمع لتكون على أهبة الاستعداد لشن هجوم جوي مكثف على العراق، حال رفضه الفرص التي يعطيها له المجتمع الدولي للانسحاب من الكويت. ص21
خطوة بعد خطوة تلوح له بلدته ترفرف من بعيد في ضوء القمر يستقبله أهله ويجلس معهم يسمع إلى تحليلات متواصلة عن القدرات العسكرية التي احتشدت في الخليج العربي، عن إمكانات العراق والكارثة التي تنتظره وخطأ حسابات صدام حسين. ص23
وتتدهور صحته وينتقل إلى المستشفى ويتم تحويل يوسف محمد شمردل إلى مستشفى الحميات ويرفض أن يصحبه أبوه ورموه على سرير مات طفل عليه ويدخل طبيب نوبة الليل وبعد أن يفحصه قرر أن يكون مكانه المستشفى الأميري وفيه يستعد لدخول غرفة العمليات ويطلبون منه أن يخلع ملابسه ويشعر بظمأ شديد فيأتيه طفل صغير ويقدم له الماء ما اسمك يا حبيبي: سعيد.
-أنا يا سعيد عاوز أروح دورة المياه لكن لا أقدر ويذهب الطفل ويعود حاملاً علبة صفيح وبعد أن انتهى أخذها الطفل ليفرغها كان ابناً لممرضة التي أخذت منه ملابسه يسرع عليها ويسألها عن ملابسه فتنكرها، لقد سرقت ملابسه سرق الطقم الوحيد الذي جاء به إلى المستشفى طاقم مكوّن من أربع قطع كل واحدة منها لها وقع في نفسه ولها معه حكايات مليئة بالشجن.
يروي حكاية الحذاء، والجورب، ويتوافد الأهل والأصدقاء كان أبوه بينهم لمحته الممرضة وقالت له:
-اخرج يا عم شمردل.
-ابني
-لو رآك المدير سيعاقبني؟
-لكنني لن أترك ابني.
قلت له: اذهب يا أبي أنا بخير. ص36
ويسمع في التلفاز أن اسرائيل أعلنت أنها تحتفظ لنفسها بحق الرد على الهجمات الصاروخية التي شنها عليها العراق فجر اليوم. ص36
وتلوح له ذاكرة الماحي أطياف جدته.. وجريانه إلى الحقل، وسقوط حذائه في الترعة.
وتنجح عمليته الجراحية وتأخذه أحلام اليقظة إلى الفتاة التي حلم بها واعترافه لها إلا أن حذاءه الممزق كان يحول دون ذلك ويشعر أن حذاءه أنقذه من فتاة كانت تنسج خيوطها حول ولد غني سقطت في شباكها كل أمواله التي ورثها عن أبيه “لقد أدرك حذائي ما لم أكن أحيط به” علماً، وها أنا أحبه لأنه انتشلني من الغرق في موقف بائس تعيس، لكنه الآن أحزنني حين اختفي .. ترى .. أين هو الآن. ص43
ويدرك والده أن أرضه في خطر، حيث كانت الحكومة ستبيع أراضي الإصلاح الزراعي وعلينا أن ندبر نقوداً بأية طريقة فأرسله إلى عمه في المدينة ويستقبله ويروي له سبب زيارته
-ياه يا ابن أخي، ذكرتني بالذي مضى.
-ما الذي مضي يا عمي؟
-الأرض يا يوسف .. الأرض ولن تضيع أبداً ويروي لهم قصته مع الماضي وثيابه المحترقة التي يحتفظ بها. ص49-50.
ويقول له صديقه خالد أنه يريد السفر إلى القاهرة ولا يملكان ثمن التذاكر فيأخذه إلى قارب عمه ويصطادان به سمكاً وفيراً باعاه وودعا الدلتا الخضراء فابتلعتنا وكان ركاب القطار ينزلون إلى حقول التين ويخطفونه ويرتدون سريعاً إلى مقاعدهم كنت وخالد من بين الجوعى فغامرا وقفزا من القطار وهاجما شجرتين ورصاص أصحاب التين يفرقع فوق رؤوسنا وتلسع إحداها ساعده فيسعفه ركاب القطار وفي الصباح خرج خالد ليعمل مع عمال التراحيل ويمضي شهر دون عمل بسبب إصابته، وفي مساحة الفراغ الطويلة صرخ خالد ورائي.
-استر يا رب.
وحين أنهينا اليومية، قال:
-نذهب إلى الغرفة أم إلى البحر؟
-سأذهب مرة أخرى إلى مسجد الحاج مستور
-لكنك منهك .. وتحتاج إلى راحة.
-راحتي الحقيقية لن تتحقق إلا إذا جمعت كل ما يلبي طلبات العيال
استدارت الشهور ووجدت ما يشتري كسوة إخوتي. ص57-58
وفي الصيف كان يخرج مع الأنفار في الصباح ويعود عند الظهيرة وفي جيبه ما يتقوت به، كان أبي يقول دائماً:
-يا بني أنت متعلم، وبعد سنة واحدة ستتخرج في الجامعة، فلا تشتغل عند أحد.
وكنت أقول له دائماً الشغل ليس عيياً .. أعمل ولا أهان وهذا لن يوفره لي سوى العمل في حقول الفقراء. ص60
وتقابله الخالة بخيتة وتقول له لما اشتغل البلوفر سأبيعه وتأخذ أجرتك في اليوم التالي صادفها قالت له: فرجت سأبيع البلوفر وتأخذ أجرتك في المساء كان بابها موصداً فلقد بكت الخالة بخيتة لفشلها في بيع بضاعتها.. البلوفر به عيوب كثيرة ويطلب منها أن يشتري البلوفر وقال في نفسه: بعض الناس يلبسون المظاهر ونحن نلبس السترة ، فهو سيمنحني الدفء في الشتاء وعيوبه بسيطة ولن تظهر إلا لمن يدقق فيه النظر، وهؤلاء تافهون لأهتم بآرائهم. ص64
في ذلك الشتاء تحلقوا حول الموقد عادة قديمة متوارثة.
وفي هذا الوقت ليس أفضل من حديث أبي عن أبيه قال وعيناه تطالبان البوص المتدلي من سقف الحجرة:
-قتله الصقيع.
-كيف؟
-ماء الترع ووحل الأرض.
-هي البلهارسيا إذن.
-بل هو البرد.
-وهل يموت الإنسان من البرد؟
-لا يكسر الرجل سوى الصقيع.
-والهم.
-البرد من هموم الغلابة.
يضع يده على كتفي ويقول:
-كان جدك يحبك فرح بك قبل أن يموت وحمد الله أنه رأى حفيده، يضحك أبي ويقول: كان جدك أول من أدخل الجوارب إلى عائلتنا. ص67-68
وكنت أنا الثاني، قال وهو يعض على بقايا أسنان سوداء.
-تشتري حذاء يا بني؟
-كم ثمنه؟
-عشرة جنيهات.
-ليس معي سوي جنيهين.
– إذن اشتري الجورب.
-بكم تبيعه؟
-بجنيهين.
– ليس معي إلا هما، وأريد ثمن تذكرة العودة إلى قريتي ولقمة أسد بها جوعي.
-هات جنيهاً ونصف.
-لكن الجورب لا يساوي هذا المبلغ أبداً.
لدي عرض ولا تردني حالياً: تأخذ الجورب مقابل أن أتناول سمك الغداء، وكوباً من الشاي، فأنا جائع جداً، ومنذ أمس لم يدخل جوفي أي طعام، ولم أبع شيئاً منذ ثلاث أيام، توكأ الرجل على كتفي وتناولنا الطعام في مطعم بالاس. ص71
يعود إلى معسكره فقد انتهت خدمته العسكرية وسهر الجنود يصفقون ويصدحون بالأناشيد ولكن .. ماذا سأفعل أنا وليس لدي لباس مدني، الطقم الوحيد الذي كنت أملكه ضاع في المستشفى، يوم تلو يوم دون أن يظهر الطفل سعيد ابن الممرضة صرخت فيها.
-أين ملابسي؟
-ملابسك!
-نعم.. ملابسي التي خلعتها خارج غرفة العمليات منذ عشرة أيام.
-أنت متأكد أنني أنا التي أخذتها.
-نعم.
-أنت كنت مخدراً لا تعي.
شكوت للأطباء، فكانوا دائماً يقولون: هذا شغل العاملات. ص76
كل الجنود يفرحون يوم انتهاء خدمتهم العسكرية وخارج هذا المكان هناك عشرات الصحاب.
-أتبكي؟
-ليت البكاء ينفع.
-الحقيقة إن مهماتي ناقصة.
-ماذا تحتاج سأعطيك من مهماتي هناك ستة أشهر حتى يحين وقتها وفي المدة أدبر نفسي ألم نتفق على إننا إخوة. ص79
-تحيا أخوة الغلابة المحرومين.
وقال مصطفى الجمل بعد أن تقرسني ملياً.
-رب ضارة نافعة.
-لولا المرض ربما كنت ذهبت إلى هناك.
-طبعاً فمن العار أن يقاتل المسلم المسلم بل أن يقاتل الإنسان أخاه الإنسان.
-الذين ذهبوا للخليج يتقاضون رواتبهم بالدولار
-نعم فأنت تريد أن تقاتل بأجر.
-لكنهم سيحررون الكويت. ص81
وتهجم أمريكا على العراق.
في الصباح رتب مهماته في المخلاة وانطلق مع زملائه إلى صول المهمات.
حين وصلت إليه ولمح الزي العسكري على جسدي قال:
-هذا ليس من حقك.
-مهماتي كاملة والمخلاة أمامك.
-هي ما ترتديه هو من ممتلكات الجيش.
-والجيش، جيش بلدنا وأنا مواطن في هذا البلد.
-إذن اخلع ملابسك ولن أوقع على إخلاء الطرف اذهب إلى قائد الكتيبة. يصل القائد يؤدي له التحية العسكرية.
-نحمد الله على سلامتكم يا أفندم.
-ألا تزالون في الكتيبة.
-بل غادر كل الجنود ما عداني وشرحت له فابتسم ووقع على إخلاء الطرف وقال: أتمني لك حياة مدنية سعيدة فأنت وحيد يا شمردل تحارب الطريق الوعرة المعبدة، فوله حزنك وظمأك وشوقك لعالم لم يولد بعد، الطريق المؤدية إلى الضفة الأولى من القناة، التي دفنوا جدك حياً تحت ترابها يترنح بين ضربات المعاول والفؤوس التي شقت الحياة في الموت وفتحت طريقاً يعبر فيه الأمريكان إلى الخليج الطريق المنتهي عند الضفة الثانية من القناة التي صنعت من دماء ابن عمك التي سألت في حرب الاستنزاف خمراً في اللصوص الجدد الذين تاجروا بالوطن. ص87
ساعات وتجد نفسك نقطة ضائعة في زحام القاهرة حظاً باهتاً في سماء الصعيد الباردة.
-لنعد كما كنا قبل الظلم وكما سنحشر يوم الدين، ربما يهجم على صول المهمات فيوسعه ضرباً أو يتسلل إلى الليل البهيم، إلى المخزن ويأخذ ما يستر عورته وعورات رفاقه المكدودين. ص89
إنها الرواية المتقدمة لمبدع جاد ومجتهد قدّم أنموذجاً لنص روائي يدعم الرأي السائد بأن الرواية ابنة الملحمة التي حاول المبدع من خلال “حكاية شمردل” أن يبدأ البداية الأصح في التعامل مع الصيغة الخاصة بمقولتي المسافة الوثيقة الصلة بمفهوم المحاكاة ويتعلق بدرجة حضور الراوي في ما يروي وهذا ما يؤكده ما اشتغل عليه عندما كان الراوي في سياقات سرده صاحب حضور كثيف كانت المسافة بين المروي والمروي له مكثفة مشكلة من المنظور السردي الأساليب التي انتقلت من خلاله أقوال الشخصيات من قبيل ما نجده في الخطاب المباشر، لتتفاعل هذه الأنساق وتندمج في بؤرة الصياغة الفنية لنص روائي على الرّغم من قصره فإنه أشار إلى راوٍ يضع يده على أولى علامات التمايز في النص الذي تحوّل مع الأيام إلى مشروع روائي حمل كثيراً من التصور الدلالي الذي رأيناه في معظم ما أبدعه يراع الروائي المجد عمار علي حسن.