محمد الكفراوي
منذ الوهلة الأولى لدخول هذه الرواية تجد نفسك في عالم الأحلام، ومن حلم مفزع أقرب للكابوس، إلى حدث واقعي وكارثة محققة على الأرض تتمثل في انهيار المنزل الذي تعيش فيه أسرة الراوية، المهووسة بالتقاط الحكايات، لتنطلق بعد ذلك في عوالم المنسيين، تقدم لنا حكاية وراء حكاية.
في روايتها الأحدث “حكايات منسية… سيرة ناس عاشوا خارج الزمن” الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، تعرج سعاد سليمان ناحية الصعيد بقسوة، تتقصى حكاياته وقصصه الملهمة وحياة ناسه ومعاناتهم المتواصلة، وصعوبة الحياة في ظروف مغلفة بالقسوة والعنف والعادات والتقاليد التي تجافي المرأة.
بشكل غير تقليدي تبدأ الرواية، وبأسلوب تنساب فيه الحكايات كأنها سلسلة متصلة من الأحداث التي تحكي تاريخا مسكوتا عنه، تظهر حرفية الكتابة وفنية الأسلوب وتلقائية الصور المعشقة بطريقة بالأمثال والمأثورات والسير الشعبية خصوصا السيرة الهلالية.
تتمحور الرواية حول عائلة عالية عامر المهووسة بالحكي، والتي يبدو أنها هي نفسها كاتبة أو مؤلفة روايات، ولكنها حريصة على أن تستمع لحكايات أبيها وأمها التي تكشف لها العديد من جوانب الحياة في الصعيد، ومدى القسوة التي تتسم بها الشخصية الصعيدية، رغم ما هو معروف عنها من شهامة ورجولة وصفات بطولية ومثالية، لكن يتضح من الحكي أن هذه الصفات تتجلى في تعامل الصعيدي مع الغرباء فقط، لكن بين بعضهم البعض، فلا شفقة ولا رحمة. تعبر الكاتبة عن هذا المعنى بمقطع في الرواية تقول فيه “أين الصورة الوردية لشخصية الصعيدي، الشهم الصادق شيال الحمول” ثم تتساءل الرواية عن عميها اللذين ذاقت منهما المرار هي ووالدها وأمها وأخوتها فتقول “هل يحمل عتمان يونس وأولاده أي شهامة؟ هل يحمل أبو زيد الهلالي يونس أي رجولة؟”
ثم تستدعي ذكريات قديمة عن عمها الأصغر القبيح أبي زيد الهلالي يونس، وكيف حاول التحرش بها وهي صغيرة، ولم يراع أنه ضيف لديهم في بيتهم بالإسكندرية ولم يراع أيضا وجود أمها التي كانت مشغولة في تحضير الطعام له، بعد أن فر من بلده إلى الإسكندرية ليعمل شيّالا في الميناء.
بين النجع في الصعيد وبين طهطا وسوهاج والإسكندرية والقاهرة تدور أحداث الرواية ومن عصر المماليك ومن بعدهم محمد علي وحتى عصر عبد الناصر وربما حتى وقت قريب يمتد زمن الأحداث ليعلن عن مسح شبه بانورامي لشخصيات ثرية في تفاصيلها وتاريخها ورؤيتها للعالم ولنفسها.
من الأحداث المهمة التي تتناولها الرواية بطريقة شعبية أو وفق منظور شخصي لصاحب تجربة، حرب الفالوجة، أو ما اصطلح على تسميته النكبة العربية في 1948 حين اجتمعت الجيوش العربية لمواجهة العصابات الصهيونية التي راحت تنهب أرض فلسطين وبدأت عمليات التطهير العرقي فيها، وتأتي أحداث معركة الفالوجة في صحراء النقب كدالة على الحصار والهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية، خصوصا الكتيبة المصرية التي كان من ضمنها جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، ويصادف أن العم أحمد يونس عامر كان من ضمن أفراد هذه الكتيبة وراح يحكي لأهل النجع ما حدث وما جرى في الحرب بعد عودته من الحسار، لتتكشف أشياء بديهية جدا من بينها أسماء القادة المشاركين من الجيش الأردني، ومنهم غلوب باشا، وهو قائد إنجليزي، ومن المعروف أن بريطانيا هي من شجعت ودعمت العصابات الصهيونية في الاستيلاء على أرض فلسطين، ليخرج هذا العسكري الصعيدي البسيط بحقيقة بديهية لا يعرف أحد كيف غابت عن عقل قادة الجيوش وهي أن قيادات بالجيش الأردني قادوا الكتائب المشركة في الجيش العربي، كانوا بريطانيي الأصل، ولاشك أن هذا ينعكس على انتمائهم وعلى دورهم في إدارة دفة الحرب لصالح العصابات الصهيونية.
وفي خضم تلك الحكاية تظهر شخصية عدلي لملوم، وهو شخصية ثرية تصلح لبناء رواية مستقلة، فهو امتداد لأحد المماليك الفارين إلى الصعيد بعد مذبحة القلعة، ومن ثم كان من الطبيعي أن يعلن كراهيته لمحمد علي وأسرته والملك فاروق جهارا نهارا، ولأنه كان نافذا غنيا من القلائل في البلدة الذين يرتدون أحذية، فقد كان يهابه الجميع حتى العمدة نفسه.
ومن حكاية عدلي لملوم لحكاية عائلة الأحمر، ثم حكاية تجنيد والد الراوية في العباسية وما صدفه من أحداث خلال حرب 1956، ولقائه الغرائبي خلال خدمته في حلوان مع عبد الحكيم عامر، وقصة الأميرة عالية المنذر والدة فريد الأطرش التي كانت تسكن قصرا بحلوان، ويزورها علية القوم، وتشفق على العساكر الغلابة، ولهذا السبب قام والد الراوية بتسمية ابنته عالية على اسم الأميرة، ويحكي الأب لابنته قصة بدايات نزوح الصعايدة إلى الإسكندرية، وكيف كان يتم استقبالهم بطريقة هازئة من قبل أهل المدينة.
وتظهر شخصية عتمان يونس عم الراوية كرجل متسلط يفعل أي شيء هو وأبناؤه من أجل الاستحواذ على أرض أخيه وهو ما ينجح فه بالنهاية إلا أن الابنة المتعلمة تبهره بمعلومات عن تاريخ المنطقة ليعتقد الرجل أن في هذه الأرض آثار “مساخيط” ويبدأ في حفرها ولا يجد شيئا ويصبح أضحوكة النجع.
تتوالى الحكايات وتتتابع خصوصا في حارة خشقدم أو حوش آدم التي تسكنها أسرة الراوية، وتظهر أكثر من شخصية وحكاية في هذ المكان الشعبي الكوزموبوليتاني الغريب الذي يجسد حالة خاصة في التركيبة الإثنية، لتصبح الحكايات البسيطة منها والمعقدة، البعيدة في المدى الزمني أو القريبة بمثابة حواديت بالفعل تم نسيانها لأنها تخص بسطاء، لكنها في النهاية تكتب التاريخ بطريقة غير رسمية، تاريخ البشر المهمشين والمنسيين.
لترسم هذه الرواية أفقا جديدا في مسيرة سعاد سليمان التي قدمت من قبل العديد من المجموعات القصصية والروايات اللافتة من بينها “هكذا ببساطة” و”آخر المحظيات” و”شال أحمر يحمل خطيئة” و”الراقص” و”شهوة الملائكة” و”هبات ساخنة”.