“حكايات الحب الأول”.. نص يغوص فى نفوس عذبها غرام ضائع

حكايات الحب الأول
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعيد نصر

يعزف عمار على حسن فى كتاب “حكايات الحب الأول” سيمفونية أدبية شجية على وتر ملتهب بأحاسيس ومشاعر الحب الضائع وذكرياته العصية على كل عوامل النسيان، وذلك من خلال”97 ” أقصوصة ، أشبه بـ”97″ معزوفة موسيقية على لحن الغرام الضائع وذكرياته المستمرة وخواطره الجياشة المتجزرة فى الوجدان والناجمة عن الدهشة الأولى للعقل والارتعاشة الأولى للقلب،و التى تدمى القلب وتأكل الروح أملا فى اللقاء، خاصة أنها تصل فى بعض الحالات إلى  ما يسمى برغبة الفناء فى المحبوب.

 وتتسم الحكايات بأنها مكثفة وشيقة واللغة فيها شاعرية وصفية حريرية متماشية تماما مع الخط العام الرومانسى فى الأقصوصات، وبها كل الفنون البلاغية،والأساليب السردية بما فيها الواقعية السحرية، وكأن الكاتب يتحدى بها الجميع،وتكمن الإثارة فى معظم  تلك الحكايات وهى إثارة خاطفة للقلب والعقل معا،من وجهة نظرى،فى أنها حكايات حوارية تخلط الواقع بالخيال لخطف ذهن وتركيز المتلقى وتحمل فى وجهين أدبيين فى آن واحد، فهى تبدو كما لو كانت حكاية واحدة مكتملة لمن يريد لها ذلك، وتبدو “97” حكاية مختلفة لشخصيات عانت من الغرام الضائع لمن يراها كذلك،وأجمل ما فيها أنها من أولها لآخرها أشبه بمرآة كبيرة أو بشاشة عرض سينمائى يرى فيها كل الناس فى كل زمان وكل مكان أنفسهم  فيها، خاصة من كانوا يوما ضحايا ومعذبين لهذا اللون من الحب الذى لاتخمد نار ذكرياته فى القلوب أبدا، حتى ولو تزوج الإنسان أجمل الجميلات وعاش معها أحلى الأوقات وأروع الذكريات.

وأجمل ما فى الحب الأول عند الكاتب أنه يتسم بمشاعر إيجابية دافعة للحياة ومانحة للسعادة والأمل وملهمة للقلب والروح،كما لو كانت لمسة صوفية أشبه بالعشق الأبدى، فالأحاسيس  يغلب فيها طابع الروح على طابع الجسد،وربما يكون ذلك هو ما أراده الراوى من أقصوصات بعينها ، منها الأقصوصة “47”،ويحكى فيها: “قبيل الحضرة قال لى شيخى :فى عينيك ما لم أعهد انشغالك به. فطفرت من عيني دمعة، وقلت له:هوى لا يغلب هوى، لكل درجته، والله المستعان. ابتسم وربت على كتفى، وقال: الطريق واحد فامض ولا تخف.”،ومنها أيضا الأقصوصة”87″، حيث قال الشيخ للمحب السائل:”وجه لامرأة حسناء،تحيط به هالات نور برقت فى لحظات الصفاء والوجد التى تنتابك فى حضرات الذكر بين الأحباب.”، وقال له أيضا:” ليزيل الظلام الليل  داوم على الذكر، ولا تنس نصيبك من الهوى.” ومنها الأقصوصة “89”،حيث نسى المحب كل أوجاعه وغمرته السعادة وطار إلى أخر السماء وهو قابض على ألمه، عندما قال الشيخ له:”يخلد الحب حين يسكنه الألم.”، ومنها الأقصوصة “69”، حيث قال  القدر للمحب  :” لا يفنى العشق حتى بالرحيل.”

ويؤكد الكاتب فى حكاياته عن الحب الأول ، أنه حب متبادل ، وليس من طرف واحد، وإن التزم فيه الطرفان الصمت وتحليا فيه فقط بسمة الاستشعار عن بعد، وكل الأقاصيص التى يحكيها تكشف ذلك، وتشعرك أن الاثنين، فى كل أقصوصة، يتذكران بعضهما فى وقت واحد، ويعيشان نفس المشاعر والأحاسيس، وهذه لمسة إبداعية تضفى على الحكايات طابع الجمال والإثارة،خاصة أن تلك المشاعر يتخيلها المحب الحاكى فى الحبيب الأول المحكى عنه، بشكل يزين الواقع ويجعله أكثر جمالا فى عيون ونفسية المحبين، ففى الأقصوصة “15” تشير الحبيبة إلى أنف حبيبها الأول وتقول له “أنا ضحية الكبرياء”، وفى هذا اعتراف صريح منها بأنها تعانى من آلام الغرام الضائع، وفى الأقصوصة “14”، تعترف لحبيبها الأول السجين فى شجرة ذكراها بلوعة الفراق وأثره الشديد عليها،وذلك بقولها له: “بعدك لم أر سوى فسائل هشة يقلعها حتى النسيم، ويترك وراءها الجدب والفراغ.” ، وفى الأقصوصة “19”،تشعر الحبيبة بحال حبيبها الأول،حيث تقول له فى أسى عن شربات العرس الذى تخيله فى المقهى على صينية بيديها :”تذوقه غيرك، ولك شراب الروح الذى لا ينفد.”، وفى الأقصوصة “29”، يرى الحبيب المألوم من عذاب الفراق حبيبته الأولى  ترقص فوق حقل من البنفسج ، فيظن أنها سعيدة فى حياتها، ويتمنى لها أن تظل على هذا الحال، فترد عليه وهى لا تكف عن التمايل: “أرقص من فرط الألم حتى تتساقط أزهار البنفسج الساكنة فى روحى من سنين.”، وفى الأقصوصة “41”، يكشف الحبيب لحبيبته عن تردده فى الاعتراف لها بحبه، فتكشف هى إلى أى مدى كانت تتمنى الارتباط به،حيث زفرت فى ألم وقالت له:” لمحة واحدة فى خط مستقيم كان بوسعها أن تفتح باب المجهول.”،وفى الأقصوصة “44”،تتمسك الحبيبة بأمل اللقاء،مثلما يتمسك به حبيبها الهائم بها،حيث يرى صورتها مرسومة على الرمل والحجر، فيندهش ويسألها:”حتى هنا فى الخلاء الأصم؟، فتبتسم وتقول له:” لا سبيل لك إلى هروب أبدًا، ولا مفر أمامك سوى أن تسعى فى اللقاء أكثر من سعيك إلى الفراق.”، وفى الأقصوصة “86”، تبتسم الحبيبة الأولى وتقول لحبيبها الأول بعد أن تعرف أنه يشعر برغبة الفناء فى المحبوب:” هذا حالى دوما ولا أعرف غيره.”،و فى الأقصوصة “93”،  تعاتبه بقولها له: “كان عليك أن تبادر”،وفى الأقصوصة “75”، يبتسم ويقول لها:” كيف غاب النهر وجاء القحل والأحراش؟” ، فتقول له فى امتنان وفرح :”حبست لك النهر فى أوردتى لأهديه لك، وما الأحراش إلا مرعى للغزلان، فأمعن النظر لتراها، ولتمتع عينيك بالأزهار التى ستصعد من بين تلافيفها، وتراقص النسيم.” 

ويضع  الكاتب فى إحدى أقصوصاته خطا فاصلا بين الحب والتعود، فالأول حرية والثانى سجن، والتوقان للحرية  يتبدى بكل المعانى والدلائل فى الحب الأول، فى الأقأصيص الثلاثة من 20 إلى 21، فكل أبطال الحكايات الثلاثة تواقون للحب المتجدد وليس الروتينى ، من خلال توقانهم  للحرية ولنجاح ثورة 25 يناير، وتشتمل هذه الأقاصيص على  مشاهد عديدة تؤكد ذلك، منها وصف الكاتب مقابلة حبيب لحبيبته الأولى بالصدفة فى ميدان التحرير بعد 37 عاما من الفراق، بأنه من “كرامات الثورة”، وشعور ذلك الحبيب بأنه على يقين من النصر المبين عقب رؤيته لحبيبته الأولى، وذهاب الكاتب فى اليوم التالى بمفرده للميدان ولديه شعور جارف بإمكانية انتصار الثورة ، وذوبان الخاص فى العام والتقائهما معا فى نقطة واحدة، بدخول الكاتب فى إغفاءة سريعة ورؤيته لحبيبته الأولى واقفة عند طرف الميدان تبشره بالنصر وتنصحه بعدم الانكسار وتحثه على مواصلة المسيرة ، وتؤكد له أن النصر أقرب مما يعتقد الثوار، وهو المشهد الذى كان له أثرا كبيرا على الثوار والثورة، حيث يقول الكاتب:”  قمت متنفضًا، وجريت إلى الحشد الصاخب، وصرخت بأعلى صوتى:”ثورة ثورة حتى النصر.، ويكمل:وأطلقت الحناجر هديرًا عارمًا اهتزت له كل البنايات القريبة من ميدان التحرير، وهى تردد بثقة متناهية:”ثورة فى كل شوارع مصر. “

وتكشف الأقصوصة 23  بطريقة أدبية رائعة وبديعة عن حقيقة عاطفية مفادها أن ذكريات الحب الأول عصية على كل عوامل النسيان ،بما فيها الزمن والتجارب الحياتية والصدمات النفسية، فهذا شاب استشهدت حبيبته الأولى داخل ميدان التحرير، فراح يقاوم فراقها بكتابة شعارات غامضة، ويستغل الكاتب هذه الصورة فى عمل إسقاطة عميقة الدلالة على الوضع القائم، وذلك بقوله:” هذا ضحية الثورة، وغيره كان ضحية الزمن الذى يأكل كل الثورات.”، وتكتمل الحقيقة العاطفية المشار إليها، من خلال حوار بين الكاتب وصديق له عن ذلك الشاب، جاء على النحو التالى:  

” وقلت:

ـ يريد أن ينسى أو ينتقم.

ضحك صديقى وقال:

ـ إنها حبه الأول، هيهات أن يسقط من ذاكرته.

فشددت على يده وقلت:

ـ هذه حالات عصية على النسيان، وإن أردت أن تدرك ما أقول تدبر حالى، ولا تسأل غيرى.”

ويثير الكاتب الدهشة فى ذهن القارىء ويجذبه لقراءة الحكايات من خلال حوارات عميقة المعانى والدلالات مع النفس والقلب والروح والجنية وطبيب العيون والشيخ  وصديق الحجرة وصديق القرية وصديقة الحبيبة والفتاة الشبيهة والطفلة الشبيهة والموجة الشاردة، وينجح من خلال السرد السحرى والوصفى فى إظهار مدى تعلق المحب بالحب الأول، وفى تبيان إلى أى مدى يرى الفتاة التى ضاعت منه أجمل نساء العالم كله، وفى جلب تعاطف القارىء مع المحب وكأنه يحاكى أحاسيس مماثلة بداخله، فبعيدا عن رؤية المحب لحبيبته فى كل مكان وفى الجريدة وعين الشمس وقاعة المحاضرات، وسماعه لصرير قلمها الرصاص وسماعه لصوتها فى الهاتف ، فقد تضمنت الحكايات أقاصيص كثيرة للتأكيد على هذا وذاك، ففى أقصوصة “3” زاره طيفها فى المنام وتحدثا معا،وفى “9” تأخرت الشمس عن المغيب لأن وجه حبيبته الوضاء فى قرصها،  وفى “12” استحى القمر منها فغاب من مياه النيل، لتحل هى مكانه، وفى “29” حلم بها تتمايل  فوق حقل البنفسج، وترقص من فرط الألم، وفى “32” رأى شبحين يتعانقان فى هسيس كهديل الحمام،أحدهما هو والأخر هى، وفى”43″ يجلس وحيدا يراقب الشمس ويبتسم لغائبة لايراها غيره، وفى “50” تخرج من هالات الدخان جنية هيفاء وتسأله بغتة:”ألم يئن لك أن تحط رحالك يا غريب؟”، وفى”55″ يرى نفسه وحبيبته عصفورين فى حالة لذة عاطفية يقولان فى صوت واحد “يزول الدفء فى قسوة الهجران.”، وفى”57″ تبكى فتسقط دموعها على روحه فتثقبها فيظهر طائر الحزن ويسد بمنقاره كل الثقوب،وفى”59” يتخيلها قمرا بفستان العرس وفى عينيها وجع و تستنجد به لينقذها، وتقول له”خذنى”،  وفى “75” يغيب النهر ويأتى القحل والأحراش،فيسألها عن السبب، فتقول له فى امتنان وفرح  له:” حبست لك النهر فى أوردتى لأهديه لك.”وفى “90” يراها تمد إصبعها إلى كبد السماء المرصع بالنجوم، وتقول له”شايف القمر” ، فيغرس مقلتيه فى وجهها تائها ويقول:” آراه الآن، ويمكن أن أمد يدى وألمس خده السابح فى الضياء.”

ويرسم الكاتب بالخيالات والمشاعر والأحاسيس فى كل الحكايات صور تعبيرية غاية فى الجمال والروعة لأحوال المحبين مع الحب الضائع،حيث يتخيل الكاتب صوتها فى رنة الهاتف، يكلمها وتكلمه، وتخبر أنها بداخل نفسه، ويراها وردة حمراء معلقة بين الأرض و السماء،ويشكو لطيفها فى المنام من عذاب الانتظار ، ويشعر بنبضه يرمح كالخيل كلما مر طيفها من أمام شرفته كل ليلة، ويسمع رنين قلمها الرصاص و أساورها الرقيقة عندما كانت تكتب أفكار المحاضرات منذ 20 سنة،ويخاف من العمى فقط لأنه يعوق حلمه الوحيد برؤيتها  فى اليوم المنتظر،ويرى حكايتها معه فى فتاة تعانى مثله من ضياع الحب الأول وتحتاج عشرين عاما لتكتمل عندها الإجابة على سر هذا العشق المحير، ويرى أثار حذائها كما هو على التراب رغم مرور عشرين عاما،ويبحث عنها فى أعماق الروح بعد أن بحث عنها فى العالمين الواقعى والافتراضى ولم يجدها، ويراها من فوق المنصة جسدا وروحا تجلس أمامه فى قاعة محاضرات،ويسمع صوتها فى كلمات كان قد كتبها لها فى ورقات صارت شبه بالية،ويسمع قلبه يمتن له لأنه تمسك بحبه لها فأنقذه من أقسى أصناف الموت المتمثل فى إماتة الواقع للخيال، ويشعر بالسعادة على لحن عذاب الحب الأبدى وامتلاكها روحه حتى الممات، ويسمع بالصدفة أنها “خطبت”،فينفجر بركان الحزن فى روحه، ويرى حبيبته فى طفلة تحمل اسمها، فيعطيها قطعة شيكولاتة فتعطيها برتقالة، فيجففها ويجعل منها تذكارا يعوضه عن الحب الضائع،ويرى نفسه صورا تتكرر فى آخرين يفقدون أحبائهم ويبدأون رحلة عذاب الذكرى مع لحظة الدهشة الأولى والحب الأول، ويحدثها وتحدثه فيشعر  بلذة عجيبة من مطارة نورها لظله، ويشعر بالبرودة ويفتقد للدفء بسبب ضياع الحب الأول.

ويستطرد الكاتب فى الرسم بالمشاعر والأحاسيس لتحقيق ذات الغرض،حيث يتخيلها عروسا بفستان الفرح تستغيث به لينقذها وسط أشباح تطارده وتحرمه من نشوة اللقاء،وتدور فى رأسه آلاف الأسئلة عن الحب الأول ولايجد لها إجابة، ويتخيلها داخل صندوق يحمله على ظهره ويمضى به راضيا بألم وعذاب الحب، ويسأل رجلا عن أجمل النساء فى الدنيا فيرسم صورة حبيبته بالكلمات كما هى بادية له من عينيه، ويرى حجرة مظلمة تشع نورا بسبب شعاع نافذ من قصاصات ورق سجل فيها لحظات اللقاءات العابرة الخاطفة مع حبيبته،ويشعر بأن نبض حياته يقتات من عذاب الحب الضائع ،وتستجدى روح الحبيب حبيبته بأن لا تحرمه من عبورها الآسر الذى يخفف عذاب رأسه المشنوق من فرط الأسى والأحزان ،ويرى أن عشقه لها لن يفنى أبدا حتى بالرحيل، ويرى وجهها يغطى كل الحروف عندما شرع فى قراءة كتاب كان قد اشتراه من سور الأزبكية، ويتلذذ المحب باختلاط الألحان والأحزان فى حبه الضائع، ويراها جميلة كما كانت فى صباها عندما رآها فى قريته تتوكأ على العصا، ويراها تجلس إلى جانبه تحاكيه وتهدهده وتسمح دموعه، عندما يرى صورة لها فى جريدة قديمة،وتشير له حبيبته إلى البدر فى السماء فيراه هو فى وجهها الوضاء، ويتخيل نفسه معها فى هيئة عصفور وعصفورة ،ينهل من شفتيها العسل المصفى، ويتحدث مع حبيبته عن سبب ضياع الحب وسط حجج القدر والكبرياء وقلة الحال بسبب الجيوب الخاوية، ويسمع هاتفا من داخل أعماقه يقول له” ليس لك إلا الطيف والظل والرائحة وقبض الريح.”، ويراها تجلس بفستانها الأبيض فوق سحابة فيناديها بكل قوته ولكنها لا ترد عليه.

ويغلب على معظم الحكايات أنها حوارية ويختلط فيها الواقعى بالخيالى،وهو ما يزيد من قوة تأثيرها على المتلقى، ويضع بعضها تعريفات لأحاسيس وتصرفات فى الحب ، ربما تغيب عن ذهن البعض منا، فالصمت مثلا فى حوار الأستاذ والتلميذ له تعريف مختلف كما لو كان بحرا من الكلمات لاينفد، حيث يسأل الأستاذ تلميذه الغارق فى عذاب الغرام الضائع :”ما هو الصمت؟ ، فيجيبه بعد ابتسام وشرود:هو ملايين الكلمات التى حبستها فى أحشائى، فكادت تمزق كل جوارحى، وجعلتنى أرتجف وأتوجع دون أن تتحرك شفتاى أبدًا، بينما عيناى تتابعان محبوبتى فى غدوها ورواحها، وموسيقى صوتها تملأ أذنى.”

ويوجد بالأقصوصة “85” ، حوار تخيلى ساخن بين الراوى وحبيبته التى ضاعت منه منذ 20 عاما، أقل ما يوصف به أنه حوار المواجهة والمكاشفة والمصارحة، وهو حوار يشعرك بفارق المسافة الشاسعة بين الصمت و البوح فى دنيا الحب الأول، ويزيد من قيمته الأدبية والشاعرية أنه يحكى فى ذهنية طرف واحد ما كان يجب أن يفعله الطرفان للحفاظ على الحب من الضياع، تحت وطأة السكوت والشك والكبرياء، وذلك بطريقة تشعرك كما لو كان الحوار يدور فى ذهنية الطرفين فى توقيت واحد، على الرغم من أن لكل منهما حياته االخاصة به، ويحمل هذا الحوار طابع العتاب والندم بعد فوات الأوان، حيث يحكى الكاتب:

 قالت:

ـ انتظرتها عشرين سنة ويزيد فلما ضننت بها؟

فغرقت فى بحار من الندم، وقلت لها بصوت خفيض مكسور:

ـ ساورتنى شكوك فى أنك لا تميلين إليَّ، وكرامتى عزيزة عليَّ.

ابتسمت، ثم وجمت، وتاهت وهي ترسل عينيها إلى قاع الشارع البعيد، وقالت:

ـ كم من أحلام عظيمة تذروها ريح الوهم والشك والكبرياء.

– هزت رأسها، وسألت من جديد:

ـ أليست هذه هى رغبة الفناء فى المحبوب؟

قلت لها على الفور:

ـ إنها كذلك ولا شىء غيرها.

ابتسمت وقالت:

ـ هذا حالى دوما ولا أعرف غيره. “

وتشتمل  الأقصوصة”94″ على حوار عميق الدلالة يصب فى خانة الحوارين السابقين، حيث يؤكد على حقيقة أن الصمت والإحجام يقتلان الحب الأول، ويحث الناس على الجرأة فى التعبير عن الأحاسيس والمشاعر، وكأن الرسالة المراد توصيلها  هنا، هى أن البوح أفضل ألف مرة من الكتمان ، مهما كانت طبيعة عواقبه وتداعياته ، حيث يقول الراوى:

“تنهدت، وهى تحبس دموعها، وقالت:

ــ تبادلنا الحب فى صمت، وظن كلا منا أن حبيبه لا يبادله المشاعر نفسها، فتمنع وراء جدران الكبرياء، وتخوف من أن يبوح فيجد صدًا فينكسر قلبه، وافترقنا على هذا الإحساس، وكل منا لا يجمع في رأسه سوى مشاهد قليلة يصنع منها دليلًا على أنه كان محبوبًا، ثم لا يراها أحيانًا سوى أوهام لذيذة تصبره على وجع البعاد والحرمان.

نظرت إليها طويلًا، ثم زفرت قائلًا:

ـ هذا ما كان. طالما ضيع الإحجام فرصًا سانحة للتنعم بالمسرات.

غلبت دموعها، واستجمعت شتات نفسها من على أفاريز الأيام وقالت لى معاتبة:

ـ كان عليك أنت أن تبادر.

هززت رأسى وقلت:

ـ كان الغيم يملأ عينى، وجيوبى خاوية، وخفت عليك من وعورة الطريق.

وضعت يدها على المنضدة، ثم أبعدت عينيها عن مسار النور المنكسر الذي ينطلق من عيني إليها وقالت:

ـ كان يمكن أن نجتاز الغيب والغيم معًا، وتتجاور أقدامنا لتدك الحصباء والشوك فيتسع الدرب، ويمضى الركب.”

مقالات من نفس القسم