حقيبة مدرسة غزاوية شاركت في الهدنة

ناجي العلي فلسطين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

دينا الحمامي

(جماد مع إيقاف التنفيذ)

في أوائل صيف العام 2023 وتحديداً بالعشرين من حزيران استقرت في مكانٍ مؤقت أعلى ريون خشبي مرتفع  وعريض، بين عدد من مثيلاتها من الحقائب المدرسية باهظة الثمن. احتلت موقعاً بارزًا في واجهة محل pens and pins  بكابيتال مول في قطاع غزة، مكثت لأسابيع في مكانها لا تتحرك منه إلا من قبل صاحب المكان بغرض اختبار متانتها واستعراض فخامة المواد الخام التي صُنعت منها، يتم تنظيفها بعناية بواسطة فرشاة عملاقة تداعب ريشاتها الملساء سطحها الناعم، ولطبيعتها الشيئية لا يمكنها مقاومة شعورها بالدغدغة أو التحكم في قشعريرتها الناتجة عن  تمريرات الريشة، تتلقى عمليات التنظيف الدؤوبة في صبر لتتم إعادتها إلى موضعها المعتاد كمنتج مخصص للعرض.

ارتاحت لصحبة المقالم وقوارير المياه  شد ما تمنت الونس بأي شكل مختلف عن الحقائب المدرسية، استأنست لصوت الشيخ محمد عمران صباحاً وهو ينساب في موجات حالمة آتية من سماعات مركزية تلفها من كل اتجاه فتصنع أجواء صوفية رغماً عن مدنية المجمع التجاري، ووجدت ضالتها في صوت أم كلثوم الفخيم ذي الألف طبقة، قضت عشرات الليالي في معية حنجرتها التي تطلق عشرات النغمات الذهبية ومنعتها كينونتها كجماد من أن تنساب راقصة على ألحان أغنياتها، في أحد الأيام غادر صاحب المكتبة بعدما نسي أن يغلق تطبيق الأغاني من على حاسوب المكان، سهرت ليلتها متنقلة بسمعها مع قائمة الأغاني التي تضم عشرات القصائد العربية  حتى حل دويتو غنائي لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، أنصتت  في جلال إلى أن  نطق كلاهما بعبارة: عشرين عاماً وأنا أبحث عن وطن وعن هوية!

انتهى الليل وجاء النهار حاملاً معه صخبه ولم تفارقها الجملة بجلالها وجديتها، فمن ذا الذي يمكنه أن يظل صامداً في رحلة بحث عن وطن أو هوية لعشرين عاماً! ودت أن تتساءل بملء حيرتها لتكتشف بأنها بلا فم وكل ما تمتلكه من إمكانيات صوتية ينتج عن عمليات نقلها أو إزالة الغبار عنها، أو في أكثر اللحظات تشويقاً أثناء ارتطامها بالأرض سهواً عندما تسقط من يد عامل عديم الحيلة مثلها تمامًا. بعد هذه الليلة ولسبب خفي انهالت عروض شرائها وكادت أن تباع عدة مرات لولا اعتراض بعض الأمهات على ألوانها المتنافرة؛ ففي الوقت الذي انجذب به الصغار إلى تدرجاتها المتباينة وأثنى الآباء على متانتها، لم توفق غالبا في اجتياز التصفيات النهائية التي تكون للأمهات الكلمة الأولى والأخيرة بها، فمنهن من لم تألف ألوانها بينما اعترضت أخريات على ثقل حجمها مقارنة بأوزان أطفالهن فمكثت بضعة أسابيع إضافية حتى واتتها فرصة للخروج إلى العالم.

(يا لفرحتها بفرح)

كان صباحا أيلولياً قائظاً حين التقطتها يد حنونة من مكانها لتتفحصها بشكل حميمي، فحين أعادت إغلاق جميع فتحاتها بعدما تأكدت من سلامة المزلاج والمقبض، نادت على والدتها التي كانت تتجول في قسم أدوات الرسم، احتضنتها بعاطفة أمومية مما سهل عليها عناء شرح أنها قد وقع اختيارها على هذه الحقيبة بالذات ولن تفلتها،  رفضت تغليفها وقامت بارتدائها بعدما افتتحتها بوضع ملابس تمرين السباحة بالداخل، حظيت الحقيبة بنزهة في كامل أرجاء المركز التجاري وهي على ظهرها كطفلة تمارس سلطة الدلال على أبويها، التحمت بدفء جسدها لساعات تمنت خلالها أن يتردد اسمها لتحتفظ به، تبادلت الفتاة والأم  الكثير من  الأحاديث نُطقت في ثناياها  عشرات الأسماء إلاها، فتحلت الحقيبة بصبر إضافي. عندما بلغن الحي السكني الذي تسكنه الأسرة ، تناولتا وجبتين سريعتين من أشهر مطعم للبورجر في حي الرمال، ثم توجه الجميع إلى البيت الذي استشعرت الحقيبة أنه مكانها منذ الأزل، استقرت في غرفة الفتاة التي تتحلى بجرعة إضافية من الدفء، أحبت مكانها بها وشد ما تمنيت أن تحتفظ به للأبد متناسية عن عمد ماهيتها كجماد لا يمكنه الصمود الأبدي أمام عوامل الزمن

اصطحبتها مالكتها إلى دروسها الخصوصية قبل العام الدراسي مما أعطاها فرصة أكبر للتقرب منها والتعرف على عاداتها اليومية، فكانتا تبدأن اليوم بتمشية في شارع عمر المختار لتنعطفا بعدها على بيت صديقة الفتاة والتي تمتلك  اسما مشابها؛ وشتان بين “فرح” وبسمة”، فمالكة الحقيبة كانت شديدة البشاشة وتتحين الفرص للضحك، فيما جاءت بسمة  باسم على غير مسمى، لم  تبتسم ولو لمرة حتى عندما تأتي بالدرجات النهائية في الاختبار الأسبوعي، تكتفي بتحريك رأسها بشكل آلي لا ينم عن شيء، حكي فيما بعد أنها فقدت أباها وأخاها في غارة إسرائيلية على القطاع خلفتها يتيمة بصحبة أم  صبوحة أجادت تنشئتها، لكنها لم تفلح في غرس ابتسامتها على وجه ابنتها حتى مع إعطائها اسما فرحا؛ وذات اختبار أسبوعي لدى معلم اللغة العربية كتبت الابنة موضوعاً تعبيرياً حول كونها فتاة لا تليق بأم متفائلة حد التفاني وكان الأحرى بصديقتها ذات الوجه البشوش أن تصير هي الابنة المثالية لتلك الأم.

ذات نهار صحو بتشرين الأول للعام 2023  انطلق صوت  “فرح” سعيدا بأن شاعراً مشهوراً سيحضر خلال دقائق لإلقاء قصائده على طالبات المدرسة، وبعد أن استقبلته مديرة المدرسة بحفاوة، صعد إلى الطابق الذي يأوي فصول الفتيات، قام بتقديم نفسه بعدها خلعت فرح الحفيبة من على ظهرها وقامت بضمها ناحية صدرها مما جعلها في مواجهة الشاعر مباشرة.

“أنا سليم النفار، لاجيء من يافا، شاعر وابن شهيد”

بهذه الكلمات قدم الضيف نفسه، ألقى ست قصائد وتساقطت دموعه في منتصف تلاوة القصيدة الرابعة، وبكى الجميع معه حتى الحقيبة  شعرنا بنحيبها بلا دموع،  وكأنما كانت تنشج  للداخل، ثم حظيت بتربيتة من فرح هدأتها وأعادت لها توازنها الذي فقد تحت التأثير السحري للقصيدة الرابعة. بعد الانتهاء من فعاليات اليوم التقطت الفتيات المئات من الصور  مع  الشاعر الذي يفخرن بحفظهن لقصائده المقررة في المنهاج المدرسي، كافأت والدة فرح الابنة وحقيبتها  بجولة على شاطيء غزة في عصر اليوم ذاته احتفالا بحصول الفتاة على الدرجات النهائية في امتحان نصف الفصل الدراسي، لم تنتظر ليعدن إلى البيت حتى تغير فرح ملابسها على الأقل؛  أذهلت الجميع بقرارها المفاجيء وهي تغير مسيرة السيارة المعتادة كل يوم. هشت فرح لهذه المفاجأة، وراحت تعطي الفرصة لحقيبتها لتتلقى لفحات الهواء بداخلها،  واحتفظت الأخيرة برائحة النسيم بداخلها  كتعويض عن أعوام قضتها في كنف الجدران المصمتة.

(طوفان نوح يعصف من جديد)

 استيقظ أهل غزة ذات نهار تشريني فارق   على أجواء صخب، ولم نلبث أن  عرف الناس  أن طوفان الأقصى قد ابتدأ من غزة؛  اختلطت  الاحتفالات بالهرج والمرج حتى  صعبت التفرقة  بين ذرات الغبار المتصاعدة إن كانت من وقع الرياح الخريفية أم على إثر الانبعاثات الطوفانية، انتهت الأيام الأولى وكل حبة حصى في القطاع تنتظر مصيرها، تجمعت أسرة فرح مع باقي فروع العائلة في منزل كبير قرب جنوب القطاع خوفا من بطش ردات الفعل التي طالت حي الرمال مبكرا جدا، وقبلها استمسكت فرح بوجود حقيبتها في حوزتهم عندما ودعوا الدار للمرة الأخيرة، ألقت نظرة وداع  على مدخل البرج، تضرجت دمعتين حارتين من مقلتيها أحرقتا نسيج الحقيبة الذي تبدل لونه على إثرهما ولم يعد بعدها كما كان. عرف من نشرات الأخبار نسف الحي الفاخر عن بكرة أبيه وتناثرت بعض محتويات غرفة  فرح وحقيبتها  أرضا، تابعت الأسرة التطورات بحذر بعدما أدركت أن الكلام لم يعد يفيد وأن أبلغ ما يمكننا إصداره هو الصمت ولا شيء دونه، ثم صدرت الأوامر بالمزيد من النزوح جنوبا فما كان منهم إلا الامتثال، تحركوا في جماعات وكانت الحقيبة في المقدمة مع “فرح” و”بسمة” وتنام في داخلها قطة  الأخيرة، ساروا لساعات عدة قبل أن يصلوا إلى مكان أخبروهم أنه سيكون جاهزا خلال ساعات للمبيت فيه، انتظروا ريثما ينتهي الرجال من أعمالهم، بالنهاية استقروا داخل خيمة متوسطة الحجم بعدما أملأت والدة فرح الحقيبة بالكثير من الأطعمة الجافة علاوة على حمولتها الطبيعية من ممتلكات ابنتها، بدت الحقيبة شامخة  بعد هذا الملء وكأنها  فخورة بدورها الهزيل في هذه المحنة، إذ اعتبرت حمولتها الإضافية عملا نبيلا ومساهمة بسيطة في معاناة أسرة عاشت مرفهة برفقتها.

مكثت الأسرة ما يخامر أربعة عشر شهرا متنقلة بين المخيمات واختلفت استخدامات حقيبتهم وفقا للمناخ فصيفا كانت دوما بديلا للثلاجة نظرا لاحتفاظها بدرجة برودة الأشياء نسبيا وشتاء احتفظت بوظيفة المبرد مع مهمتها الأساسية كحمولة لأدوات  فرح، قبيل شهر  تشرين  الثاني الفائت فقدت بسمة بقية أسرتها خلال قصف عشوائي على إحدى المخيمات فانتقلت للعيش مع أسرة فرح، مما جعل الحقيبة تقبل برحابة صدر استضافة أدواتها هي الأخرى. ومع الوقت توحد لونها وصار رماديا بفضل عوامل المناخ وانعدام سبل تنظيفها.

(هدنة انتظرناها كثيرا)

 بحلول كانون الأول الماضي كثرت الأحاديث عن الهدنة التي انتظرها الجميع بشيء من التعقل إذ تملك الناس الخوف من مجرد شعور التمني، وبالخامس عشر من كانون الثاني الجاري أصبحت الحقيبة على يد فرح وهي تنتزعها بحماسة لم، أفرغتها مما بها ثم أمسكت بقطعة قماش جديدة لتقوم بتنظيفها، استسلمت الحقيبة لشعور البلل الذي اعتراها وتركت نفسها ليديها الناعمتين اللتين طمأنتها من إحساس الخطر الداهم الذي يحدق بكل من يقطنون هذه البقعة المستهدفة، انتهت من مهمة التنظيف لتناولها لبسمة التي ملأتها بأكياس متنوعة من الحلوى وعلب العصائر ثم خرجتا لتلحقا بالاحتفالات التي تغشى كل نقطة في القطاع، تلقفتها أياد عدة لتملأها  بالحلوى وفي كل مرة كانت تعود أخف من سابقتها وكأن بقرار وقف إطلاق النار قد فرغت من أثقالها، بحلول العشاء استعارها أحد جيران فرح بغرض استخدامها في جلب كميات من علب الدخان  وأحجار المعسل  والتعميرات بالقرب من معبر رفح، وبذلك تكون أول حقيبة مدرسية في العالم قد غيرت من نشاطها لتشارك رسميا في فعاليات الهدنة.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

المدفأة