تخيلوا مثلاً أنكم في زيارة ميدانية لإحدى مستشفيات الأمراض العقلية، ستضطرب ضربات قلبكم وتتباطئ خطواتكم وتدعو الله سرًا أن تنجو سالمين من هذا المكان، هذا ما تجنبته عائشة فأخذتنا برفق نتجول معها في غُرف “مشفى الله” حيث تحكي المريضات عن أنفسهن للطبيب المعالج. كل فصل من فصول الرواية يحمل رقم غرفة، كل غرفة تختبئ داخل جدرانها امرأة يملؤها الغضب أكثر مما يملؤها الجنون. هل فكرتم –مثلي- من قبل أننا مع الجنون نستبيح ونتقبل أي شيء وكل شيء؟ وأقصد بالجنون تحديدًا هذا المرض الذي يغيب فيه العقل تمامًا.. هذا ما حدث في الرواية بصورة أو بأُخرى حيث فرض عليّ جنون المريضات في ما يحكوه عن حيواتهن أن أتقبله وألا أُشكك فيه وأُجاريهن في مشاعرهن، أتألم لهن وأحزن لما ممرن به وأُصدق في بعض الأحيان خرافات كثيرة حكينها في لحظات الإعتراف للطبيب، وهذا ما بدا لي بالفعل كإعترافات يسردونها لكنهن لا يطلبن المغفرة، إعترافات تستحق وتستوجب أن نعتذر لهن بعد سماعها لأننا رُغمًا عنا تورطنا في الإستماع إليهن وإستسلمنا لإلقاءهن في المشفى للتخلص من نثر حكاياتهن.
تعمدت عائشة البصري في سردها على الغموض الذي لاحقنا في نهايات كل فصل لوثائق مكتوبة بالفرنسية بإمضاء شخصية لا نعرفها، كما تعمدت الغموض أيضًا في الكثير من التفاصيل المروية على لسان المريضات والتي تُلمح بطريقة أو بأُخرى لشيء لا نفهمه عن هذا الطبيب المرتبك قليل الكلام. السرد في الفصول كان في صورة حوارية بين الطبيب وكل مريضة على حدى، لكن عائشة فردت البُساط للمريضات في السرد الطويل لقصصهن والحكايات التي تكشف لنا عن طبيعة المريضات وهن شخصيات مختلفة وكلهن تمردن على واقع قاسٍ ومريض مارس سلطته وقوته عليهن فقط لأنهن نساء مغلوبات على أمرهن في مجتمع عربي شرقي يحكمه التشدد الديني والعادات والتقاليد العمياء فسلبهن أرواحهن قبل أن يسلبهن عقولهن، فنستمع إلى حكاياهن والتي يروونها بثبات شديد ونبرة تخلو تمامًا من الضعف أو الندم، نبرة غاضبة جدًا وعاقلة جدًا، وإن شابها مسٌ من الجنون فهو سيغتفر على كل حال.
بطلات الرواية كلهن نسوة، كلهن عانين من الرجل، المجتمع، الوحدة، الفشل، الخزي، حتى الحياة.. نماذج متعددة جسدتهن عائشة في كاتبة روائية ومناضلة ثورية وأم محبة لأبنائها وسكرتيرة لوزير مهم والعانس التي فشلت في الزواج ونجحت في العمل وزوجه الفقيه التي انتهك الزواج طفولتها والمرأة التي تدعي أنها ليست شخص بل بطلة كاتب معروف خدعها بالحب والخنثى التي إحتارت جسدها مع روحها فلم تجد نفسها في النهاية في ثوب أخر غير المرأة.. تتنقل الفصول بينهن إلى نكتشف في النهاية الأمر الغامض الذي غرسته عائشة في وسط الأحداث وهو الأمر الذي ربما تُخبرنا به أن المتكلم ليس مجنون دائمًا وأن المستمع ليس عاقلاً أبدًا.
ربما أعيب على الكاتبة أنها عرضت كل الحكايات وطرحت كل القضايا التي أرادت طرحها بطريقة مباشرة جدًا ولم تدع للقارئ مجالاً ليلفظ بنفسه ما وراء الحكي من معاني.. هذا بالإضافة لأمر أخر يتعلق بعنوان الرواية والذي كان جاذبًا جدًا وهو بعيد عن أحداث الرواية، البطلات لسن حفيدات الممثلة الشهيرة جريتا جاربو كما سيظن الجميع، لكن لجريتا جاربو حكاية في الأحداث عليكم أن تقرأوها لتعرفوها بنفسكم، كما أن للشاعرة والأديبة الأمريكية سيلفيا بلاث علاقة صداقة وحديث طويل مع إحدى البطلات، وقد لخصت هذه البطلة فيما بعد سيناريو يراوغ العقل والجنون قليلاً، فتقول:
“الحياة رواية مؤلمة والعيش في هذا العالم مهمة صعبة بالنسبة للمرأة.. في الكثير من الأحيان أتساءل والسؤال حق مشروع: ماذا لو لم يكن هذا العالم موجودًا أصلاً، بل كان متخيلاً لعقل كبير. رواية يكتبها أحد ما في زمان ومكان آخرين أو في اللازمان واللامكان. وما نحن سوى شخصيات لا تُحصى.. رواية معقدة تكتب بتقنيات وتمويه عصي على الإدراك، لن يدركها إلا الجيل الأخير للخليقة، حين يقرر الراوي الكبير في الفصل الأخير أن يعلن للبشر عدم أحقيتهم، ويُنهي الرواية بفيضانات وزلازل تصيب الأرض، وهزات تفجر باقي المجرات. يختم الكتاب بجملة واحدة: نهاية العالم.”