سوسن الشريف
في شارع جانبي هادئ على بُعد أمتار من ميدان رمسيس، يقع “مسرح الرواد” متدثرًا ببعض أشجار تحتضنه برفق. صعدت إلى المدخل، قابلني رجل ذو هيئة وقورة وملامح طيبة، سألته عن التذاكر، أخبرني ببشاشة وترحيب أن العرض مجانًا، وأن المسرح بالطابق الأعلى.
صعدتُ أبحث عن المكان، وجدت فتاة ترتدي جلبابا صعيديا، وتعلو وجهها ابتسامة تشبه شروق الشمس، ابتسامة تجبرك على الابتسام من فرط صفائها، سألتني إذا جئت لمشاهدة العرض، أجبت بنعم وأنني لا أعرف المكان. فأشارت إلى مدخل ضيق وسوف تصحبني منه إلى المسرح، سألتها “هل هذا هو المدخل؟”، ضحكت قائلة إن هذه الكواليس، شعرت بسعادة لهذه التجربة، جذبني نفس الصوت الهادئ الذي قابلته منذ دقائق، ليخبرني بدماثة خلق بأن باب دخول المتفرجين بالجانب الآخر.
من خلف الستائر تصاعد صوت الممثلات يتلون سورة “الفاتحة”، مما بعث براحة وسكينة في الجمهور، وجلعنا ندعو لهن بالتوفيق. صعد على المسرح الرجل الذي قابلته، وإذا به هو مخرج العرض “أشرف عز الدين”، وكانت مفاجأة أخرى سارة لهذه الليلة المتميزة. عرفنا بفريق التمثيل، وبالمسرحية وأنها مستوحاة من مسرحية (بيت برنارد إلبا) للشاعر الأسباني غارسيا لوركا، ونقلها إلى العربية الكاتب “شاذلي فرح” مؤلف وممثل مصري ولد في مدينة أسوان.
بدأ العرض بظهور جميع البطلات في احتفال، ثم تلاه مشهد جنازة، لتنفرد إحداهن بالمشهد بعد انصراف الجميع، وهي الممثلة المتميزة “آية عبد المجيد” في دور محوري وهو “الخالة وردانة”. راحت تملأ خشبة المسرح بحضور طاغي، وكوميدية راقية دون مبالغة أو افتعال، فتجاوب معها الجمهور، بل صرنا نفتقد وجودها إذا غابت قليلًا. توالى ظهور الفريق إلى أن طلت علينا “فتحية شلجم”، وتقوم بدورها الفنانة “إيمان شاهين”، وقد شاهدت لها عروضا من قبل، ولكن إبداعها في هذا العمل تخطى الحدود، فرضت سيطرتها على الحضور، وفرضت سطوة وجبروتا الشخصية التي تؤديها. تقدم إيمان شاهين أداء يتمتع بالهدوء والصدق والعمق، تتجاوب مع الانفعالات بيسر وسلاسة، فنرى هذه المرأة الجبارة المتسلطة مع بناتها، وقد لانت وخفضت جناحها إلى “الخالة وردانة” الشخصية الوحيدة التي تحاورها وتراجعها في تصرفاتها، وكذلك تنقل لها أخبار بناتها، وتخبرنا نظرات “فتحية شلجم” أنها تقرأ وردانة جيدًا وتعرف أنها لا تكن لها المحبة والخنوع الذي تظهره لها. وفي مشهد متفرد تروي لنا حكايتها، وقد بلغت حد الثمالة، ولا تدري هل من فرط ألمها أم من تناولها مشربا أذهب بعقلها هذه اللحظات. تطل علينا بين الحين والآخر ممثلة أبدعت في الأداء، الفنانة “رنا المنياوي”، في دور “روح محبات”، شخصية تتمتع بشر وبخبث، تنقلها لنا “رنا” بكل بساطة وإشراق، لحد يجعلنا نقاوم تصديق أن هذه الشخصية شريرة، ويتوالى ظهور الممثلات في تناغم وبساطة، وأداء يتسم بالصدق، مما مد جسر من التواصل الروحي والوجداني مع الجمهور.
يقدم لنا المخرج “أشرف عز الدين” تابلوهات متفردة في الحوارات بين البطلات، فيسبحن بحرية في سرد حكاياتهن، ورغبتهن في التخلص من سطوة الأم، التي بدورها تعرضت للقهر، ونقلت آلامها إلى بناتها، فصارت تئد أحلامهن، ممنية إياهن بآمال كاذبة عن الزواج المنتظر واللائق بمكانتهن ونسبهن العريق، إلى أن تتمرد إحداهن عليها وتخرج عن كل التقاليد.
كان استخدام اللون الأخضر ليعبر عن حالة السعادة التي تنتاب الفتيات موفقًا للغاية، حيث ينبت الأخضر المعبر عن الحياة من وسط الأرض السوداء القاحلة الجافة التي تفرضها عليهن الأم. ومساحة التعبير بالأخضر أشارت إلى حجم السعادة والحرية التي تعيشها كل منهن، فجأة مع الفتاة “رسمية” في شكل شال ترقص بها كطير ينتظر تحرره قريبًا، وهي التي حظيت بثروة، وارتباط رسمي ومعلن بأحمد علي. بينما ترتدي الفتاة “قوت القلوب” فستانا من الأخضر وهي من تعيش حالة كاملة من التحرر والحب مع أحمد علي، وإن كانت في الخفاء وبشكل غير رسمي، مما يعرضها للقتل بحكم التقاليد في البلد. بل وتتحدى الأم “فتحية شلجم”، وتأخذ منها العصا التي ترمز إلى قوتها وسطوتها، وسلاحها أحيانًا في تأديب بناتها وضربهن، لتزلزل الأرض تحت قدمها معلنة العصيان والتمرد. وفي نهاية المسرحية تموت مرتدية ذات الفستان الأخضر، مما يرمز إلى موت الحياة في المنزل وبداخل كل منهن، والعودة إلى الحياة القاتمة الحزينة الخالية من أي ألوان إلا الأسود القاتم.
تأتي نهاية العرض المسرحي بمشهد متميز “لفتحية شلجم”، وهي تعيد نفس الحوار الذي قالته في البداية عن قائمة الممنوعات المصاحبة لحالة الحداد الدائمة التي تفرضها عليهن، فتمنع الهواء والطعام والحلوى. لتذكرنا بقائمة ممنوعات الجدات أوقات الحداد، ممنوع الحلوى، ممنوع المحشي، ممنوع طهي الملوخية، ممنوع طهو أي طعام يشير من قريب أو بعيد إلى أي مظاهر للفرحة ولو كانت مختبئة في الصدور.
جاء توظيف أغنية “أحمد علي” من فيلم “عرق البلح” موفقة للغاية ومناسبة لأحلام الفتيات، وإن كان أحمد علي في المسرحية لا يتمتع بطيبة ونقاء مثيله في الفيلم، بل استغل حالة الحرمان والكبت الدائمة التي تعيشها الفتيات. وفي مشهد متميز تقف الثلاث أخوات، كل منهن تمسك جلباب أبيض، وتغني لأحمد علي، في غياب ممثل يؤدي شخصيته، فتنتفي الصفة الشخصية لأحمد علي، لتحل محلها صفته كرجل، فرغبتهن ليست فيه لذاته بل لصفته.
بدا اختيار الملابس والأكسسوارات مناسبًا للغاية، فارتدت كل فتاة “كردان كبير من الذهب”، بينما الوحيدة التي لا ترتدي شيء سوى جلباب أسود بسيط ولا ترتدي حتى حذاء هي “الخالة وردانة” الخادمة.
تأتي مسرحية “حريم النار” بهذا الأداء المُعبر للفنانات، والإخراج المتميز لأشرف عز الدين، وبجهد واضح، وعمل جاد، كإضافة جديدة للفن الراقي بلا صخب أو افتعال، ورغم محدودية الإمكانيات، يقدمون هذه الوجبة الفنية مجانًا للجمهور، مما يجعلهم يستحقون كل الدعم والتقدير.
“مسرحية حريم النار”
أداء فرقة “الجيل الجديد المسرحية”، نقلها عن النص الأصلي وأعاد كتابتها “شاذلى فرح”، رؤية وإخراج “أشرف عز الدين”.
بطولة :إيمان شاهين في “دور فتحية شلقم”، آية عبد المجيد في دور “وردانة”، داليا مصطفى في “دور قوت القلوب”، رنا المنياوي في دور “روح محبات”، رضوى عادل في دور “رئيسة”، جيهان نصر في دور “رسمية”، سوزان محمد في دور “طير البر”، أمنية طارق في دور “سرباية”، أليس جورج في دور “جليلة”، منة على في دور “منة الله”.