د.جمال فودة
المقصود بحركية النظام الصوتي هو “نقصان الدلالة أو زيادتها، تجددها وتفاعلها نتيجة للنظام الفزيولوجي الذي يتم بفعل الاستبدال، حيث يحل صوت أو أكثر محل الآخر، سواء أكان هذا الصوت “فونيماً” أم علامة دالة، فيتغير بذلك المعنى إيجاباً وسلباً”. (1)
وتبرز ظاهرة التتابعات الصوتية في الشعر العربي المعاصر بشكل لافت، حيث يتولد الفعل الشعري من تضافر الفونيمات أو تنافرها في مطابقة بين الحسي والمعنوي، أو بين المجهور والمهموس، ومن ذلك قول الشاعر حسن فتح الباب:
وملت غناها المجاريح
تحت حصاد الهزيع الأخير من الناى
والتعب المشتهى والرعاة النعاه البغاه
تدللنا في الجحيم المنافي تراودنا بالنعيم
إن الطريق الحريق الرحيل عن النيل (2)
في الفقرة السابقة تم الاستبدال في أكثر من موضع مثل (الرعاة والنعاة) حيث تم الاستبدال بين حرفي الراء والنون، وفي (الطريق والحريق) حلت ” الحاء ” محل ” الطاء “، وفي (الرحيل والنيل)، و(الجحيم والنعيم) واستبدال الحرف يعني استبعاد الصفات الملازمة لهذا الصوت من الكلمة، كما يعني إثباتها في الكلمة الأخرى، فقد صار الرعاة (نعاة) وانقلب غناؤهم (بكاءً)، وأضحى النعيم (جحيماً)، حتى الطريق (اشتعل حريقاً)، فلم يعد إلا الرحيل عن (النيل).
إن وقوع الاستبدال أكثر من مرة على مستوى الفقرة يجسد وظيفة إيقاعية دلالية في عملية الخلق الشعري ؛ لأنه “عندما يعمد الشاعر إلى استغلال إمكانات الأصوات وقدرتها على الإيحاء ومحاكاته، فالملاحظ أن المعنى دائما يعظم شأنه، ويرقى إذا ما صاحبته المؤثرات الصوتية التوقيعية الخالصة”. (3)
وهكذا نلاحظ أن حركية النظام الصوتي تقوم على الاحتمالات اللغوية لتستخلص منها تجانساً صوتياً من خلال تشابه الحروف بين الكلمات داخل السطر الواحد، مما يضفي جواً موسيقياً، ويشيع ترابطاً في الأداء النغمي، كما يُظهر بجلاء ما يود الشاعر أن يفصح عنه بأسلوب أشد تأثيراً في نفس المتلقي.
تكرار الألفاظ والعبارات:
تعد العلاقة بين أصوات الكلمات والمعاني التي ترمي إليها من أهم العناصر الموسيقية التي تشد المتلقي، لأن هذا الانسجام هو أكبر عامل في الإيحاء بذلك الجزء من العاطفة، حيث لا تنفصل التأثيرات الصوتية عن الدلالة العامة للقصيدة.
ومن هنا يرتبط البديع اللفظي بموسيقى الكلمات من خلال ترديد الأصوات التي تجذب المتلقي لاستكناه دلالتها، ومدى إسهامها في إبداعية النص وإثراء التجربة.
” إن الشاعر موجه بإيقاع مسيطر يطلب تشكيله، وعليه أن يلبي بإخضاع الكلمات لمطالب هذا التشكيل، الذى يستدعي الكلمات ويكسبها قيمتها في أنظمة لغوية تحقق بنية القصيدة ودلالتها الرمزية “. (4)
واختيار الشاعر للألفاظ يتم في ضوء إحساسه بمعانيها وإيحاءاتها، من خلال فهمه للغته وعدة فنه، وطبيعة العلاقة التجاورية للألفاظ بعضها ببعض، مما يؤدي ـ في نهاية الأمر ـ إلى كشف الجوانب الكامنة في اللغة الشعرية، كما يكشف عن عوامل الربط بين هذه الظواهر التكرارية وبين البناء الشكلي للعمل الفني.
هذا، ويمثل تكرار الألفاظ والعبارات ملمحاً أسلوبياً مميزاً في الشعر العربي المعاصر، يعتمد عليه كثير من الشعراء كأسلوب فني يحتوي على إمكانيات تعبيرية متعددة بواسطة الإلحاح على إعادة هيئة التعبير لاستثارة المخزون والمكبوت النفسي من المشاعر والأحاسيس.
وتختلف العناصر المكررة ما بين كلمات وعبارات، وتتخذ هذه العناصر أشكالاً متفاوتة، تؤكد كلها على أهمية التكرار واعتماد الشاعر عليه في بناء النص الشعري إيقاعياً ودلالياً، ومن نماذج التكرار في الشعر المعاصر قول ” نزار قباني ” :
خبئني في خلجان يديك.. فإن الريح شماليهْ
خبئني.. في أصدافِ البحر
وفي الأعشابِ المائيهْ
خبئني.. في يدك اليمنى
خبئني في يدك اليسرى
لن أطلب منك الحريهْ (5)
إن لتكرار الفعل ميزة خاصة إذ يتحول إلى طاقة حيوية وإيحائية خصبة تسهم في رفد الدلالات، وتحريكها داخل النص، اعتماداً على الدور الذي تقوم به مفارقات ” الوسط ” في تحريك بنية الدلالة، فقد جاءت نهاية المقطع ” لن اطلب منك الحرية ” لتأكيد النفي المطلق ودفع شبح الخوف من الهروب والاختفاء ؛ ففي قربه كل الأمن والأمان، ويتميز التكرار في هذا النوع بثبات الدلالة، إذ يأتي المكرر الثاني مؤكداً لدلالة المكرر الأول.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
(1) مصطفى السعدني : البنيات الأسلوبية في لغة الشعر الحديث. منشأة المعارف.الإسكندرية.1987م.ص / 22
(2) حسن فتح الباب : الأعمال الشعرية الكاملة. المجلد الثاني. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة. 1998م. ص26، 27
(3) أوستيفين أولمان : دور الكلمة في اللغة. ترجمة : كمال محمد بشر.مكتبة الشباب.القاهرة.1975 م. ص 77
(4) عبد المنعم تليمة : مدخل إلى علم الجمال الأدبي. الطبعة الأولى. دار الثقافة.القاهرة. 1978 م. ص 111، 112
(5) نزار قباني : قصائد متوحشة. د.م.1970م. ص 10