آمال فلاح
في صائفة 1961، اهتزت أركان شقة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر لمرتين متتاليتين. بعدها بأيام انفجرت قنبلة في مقر جريدة” الأزمنة المعاصرة”، لقد أصبحت الأسماء الثقافية المعروفة وكذا المؤسسات الإعلامية الكبرى مثل”لوموند” وماسبيرو في واجهة المعركة.
كتبت سيمون دي بوفوار في “قوة الأشياء”، بعد أن كانت حرب الجزائر التحريرية قد وضعت أوزارها:
“لم يكن من الهين علي أن أترك تلك الحرب تحتل أفكاري وتتسلل إلى نومي وتتحكم في مزاجي”..
-فهل شكلت ثورة الجزائر حقا هاجسا لدى جيل كامل من المثقفين من مختلف المشارب؟
-وهل تحولوا فعلا إلى فاعلين في حرب استنزفت طاقاتهم ـ هم أيضا- طيلة ثماني سنوات؟
لقد شكلت ثورة الجزائر منعطفا هاما في التاريخ الحديث لمثقفي فرنسا.. مثقفون لطالما تجاهلوا احتلال بلدهم للجزائر، إن لم يشجعوه (ابتداء من فكتور هوجو المدافع عن الحقوق وعن “البؤساء”)، وكان لابد من انتظار خريف 1955 –أي بعد عام من اندلاع الثورة- لكي تحتل الجزائر صفحات الجرائد ومساحات النقاش في فرنسا.
فالحرب أصبحت هنا، في عقر دارهم، ومفاهيمهم الكبرى التي صدروها للعالم أجمع من حرية والتزام، منذ الثورة الفرنسية ونظريات الوجودية بعد الحرب العالمية الثانية، غدت في المحك.
حرب العرائض
لأول مرة مند زمن احتلت عريضة جماعية صفحات جريدة لوموند العريقة تحت إمضاء “لجنة العمل ضد مواصلة الحرب في إفريقيا الشمالية”. نشرت العريضة كاملة، وتفاجأ القراء بالأسماء.. سارتر، كوكتو، جون لوي بارو، مارتين دي غار، رونيه جوليار، الأسقف بيار وغيرهم كثير. ونحت جريدة “الاكسبريس” منحى “لوموند” تحت عنوان عريض: “مثقفون يجتمعون من أجل السلم في الجزائر لوضع حد للقمع الحاصل”.
حدث لم يتكرر في فرنسا منذ لجان اليقظة ضد الفاشية (1935): إدانة فرنسا التي أصبحت تعيد إنتاج أدوات التعذيب والقمع التي تفننت ألمانيا هتلر في استعمالها، والتي حاربتها أوروبا وأمريكا بأكملها.
لكن العريضة لم تكن تحمل اقتراحات سياسية واضحة، ورجل مثل فرانسوا مورياك لم يكن ليتصور أنه بالإمكان”التخلي عن المغرب والجزائر”، إلا أن أعضاء في نفس اللجنة اجتمعوا بعد شهرين من إصدار العريضة في قاعة مكتظة بحشد، ثلاثة أرباعه من الجزائريين، ليعلنوا مساندتهم للمقاومة حيث صرح سارتر بأن: “الاستعمار يهدم نفسه بنفسه ودورنا أن نساعده على الانقراض”.
واجتمعت اللجنة من جديد بعد أيام من الانتخابات في حكومة غي مولي مطالبة السلطات بـ:“وقف القتال مع المحاربين الجزائريين”.
بدأ الحديث عن القضية الجزائرية ينتشر على صفحات بقية الجرائد باحتشام، إلى أن تصدرت عناوينها الكبرى واحتلت مساحات في تحقيقاتها الميدانية ومراسلاتها: “صحفي فرنسي في بلد الخارجين على القانون”لروبير بار في جريدة فرانس أوبسرفاتوار(1955)، وفي أعمدتها الهامة حيث أكد مورياك على أن:“عظمة فرنسا تكمن أساسا في خطابها الإنساني”، كما شرح ألبير كامو لماذا عليه كمثقف أن يهتم بالمسألة الجزائرية.
نفس الاهتمام شاطرته دور النشر، رغم الحظر والمصادرة، إذ تصدت لنشر عدة كتب من أهمها
“الجزائر الخارجة عن القانون”، لفرانسيس وكوليت جونس، الذي أثار ضجة وجدلا كبيرين.
أمي قبل العدالة
من ستوكهولم، حيث ذهب ألبير كامو-صاحب رواية الغريب والطاعون- لتسلم جائزة نوبل في الآداب، وردا على أسئلة الطلبة السويديين صرح الكاتب بأنه يدين: “الإرهاب الأعمى الذي يمارس في شوارع الجزائر العاصمة والذي يمكن أن يطال أمي وعائلتي المقيمة في قلب العاصمة. إنني أؤمن بشدة بالعدالة ولكنني مستعد للدفاع عن أمي قبل العدالة”.
كان لتلك الجملة وقع الفضيحة على اليسار الفرنسي. جملة عبرت-رغم صدقها الشديد- عن الفاجعة وعن مدى الشك الذي كان كامو(ابن الجزائر) يعيشه في الوقت الذي اختار فيه باقي المثقفين مواقعهم بكل شجاعة ووضوح.
شكل ربيع 1956منعطفا ثانيا في تاريخ ثورة الجزائر، إذ ازدادت تصعيدا وتنظيما، وازداد الالتفاف حولها لدرجة أن أساتذة الجامعة طالبوا بالتفاوض مع زعماء حركات التحرر وعلى رأسهم لووي ماسينيونن، في حين أصر آخرون على بقاء الجزائر فرنسية مع إعطاء مزيد من الحريات للأهالي .
وشهد الوسط الثقافي حدثا نادرا تمثل في التقرب بين قطبين فكريين متنافرين: ريمون ارون من الصف اليميني وجان بول سارتر العائم في فلك الحزب الشيوعي الفرنسي والمساند لشبكة “جونسن” -حاملي الحقائب للثوار-التي أسسها فرنسيس جونسن، تلميذه ومدير مجلة”الأزمنة المعاصرة”.
تؤكد جل الدراسات على أن أصداء الحرب الدائرة في الجزائر تفاقمت عام 1957 ، عندما خاطرت منشورات مينوي بنشر حكاية التعذيب التي تعرض لها هنري علاق صاحب كتاب “السؤال”، العضو في الحزب الشيوعي الجزائري ومدير جريدة “الجزائر الجمهورية” الذي كان يرزح وقتها في سجون الجزائر الفرنسية.
إلى جانب “السؤال”، نشر كتاب “من أجل جميلة بوحيرد” لصاحبيه جون أرنو وجاك فرجيس، يحكيان فيه كيف يتم الحكم بالإعدام على فتيات لم يبلغن العشرين من عمرهن في فرنسا المبادئ الإنسانية.
مع الزمن، اتخذت الأرضية الثقافية التي وقف عليها كتاب وفلاسفة وصحفيون وناشرون للبحث عن الحقيقة شكل حرب كتابية شاقة ومكلفة: مصادرات، تضييق، سجن، إقصاء، تعذيب…سواء مع السلطات أو مع الأوساط المؤيدة للاحتلال. حرب انتهت بالحسم في القضية عام 1959عبر دعوة الجنود الفرنسيين للعصيان وطرح فكرة الاستقلال في بيان شهير أصدرته مجموعة ال”121″.
بيان مجموعة ال”121″
ويعد أشهر بيان ينشر بعد الحرب العالمية الثانية. بيان لم ينشر في ساعته، فقد ألقي القبض على مسؤول النشر في جريدة “الحقيقة والحرية” التي أزمعت نشره، وصدرت مجلة “الأزمنة المعاصرة” بصفحات بيضاء في أكتوبر 1960، لأن النص تم حذفه من المطبعة.
بعد شهر من هذا التاريخ، نشرت جريدة”لوموند” البيان، فألقت حكومة ميشال دوبري بعشرات المثقفين المنادين بالسلام في السجون، وصدر بيان مضاد أمضاه 300 مثقف يصفون الكفاح المسلح: “بالمفروض على فرنسا من طرف قلة من المتمردين المتعصبين العرقيين”، اتهموا فيه مجموعة ال”121″ بالخيانة العظمى..”إنها لخيانة أن نسمم، يوما بعد يوم، الرأي العام الفرنسي وأن نقول للأمم الأخرى أن فرنسا تتمنى التخلي عن قطعة من أراضيها”.
بيان كان انعكاسا لموقف جزء كبير من النظام الفرنسي تجلى في سياسة “الأرض الخراب” التي انتهجتها المنظمة العسكرية السرية، فشرعت في تصفية “الخونة”من فرنسيين وجزائريين، ممن “تخلوا عن مصالح الوطن الأم”.
يحدث أن يتساءل المؤرخون عن الدور الذي لعبه “جنود الكتابة” في الالتزام بثورة تحريرية بعيدة عن حدود أوروبا ودفع ثمن ذلك غاليا، لكن، ما مدى الدور الذي لعبته فعلا حرب الكتابة في زمن احتلت فيه الصورة والصوت ووسائل الإعلام الحديثة-آنذاك-وهل كان للتحقيقات المصورة في “باري ماتش” أو صوت المذياع وهو يروي حلقات”انقلاب الجنرالات” صدى أكبر أو أصغر من بيان ال”121″ أو لجنة “فانسان” وحبر الكتاب والصحفيين والفلاسفة؟ ذلك ما سوف يفصل فيه التاريخ.