هكذا تعبر خيوط الرواية واهية ما بين اللحظة الواقعة ونتاجها اللاواعي ليمتزج الحدث بالمونولوغ الداخلي الذي ينتج عنه، وبفلسفةٍ تُخرج الرواية من التصنيفات فهي تارة فانتازية وتارة أخرى سياسية وثالثة اجتماعية وكثيراً يدخل فيها التأمل حيث تنساب الأفكار من شخص واحد يمتلك عين الكاميرا ويرصد الصور المتلاحقة، ليبدو مخرجاً للعمل وممثلاً فيه، وكل هذا بدون انتقاص من قيمة كل تصنيف على حدة، فتتقدّم الفكرة السياسية من خلال تسييس الرواية (الضابط / الكعب العالي، القبو، مطاع/ مطيع) حيث يغزو الصفحات ليؤرّقها ويُشعل وتيرة الظلم والاستبداد اللصيقة بالاعتقال والاستجواب وإلصاق التّهم، مضرِماً النار في الرُّوح حتى رمادها.
قمع وتعذيب
مفهوم القمع والتعذيب متداخل مع مفهومي الأممية والقومية بعبور ساخر وتهكّمي، ثم المرأة العاشقة والزوجة المضطهدة والأب الملتصق بغياب ابنه يقتله عبوره إلى قبوه ليسكن قبراً، الساديّة التي لا ترتبط بفرد واحد بل بسلسلة من الأفراد في سلكٍ عسكري متوهمين بدور المخلصين للرعيّة، وهي الدونية النقيض بالنسبة لهم، ودورهم هو إحالتهم مسوخا تتلو تعاليمهم وتنفذ أوامرهم، وهم بالتالي (أي الجلادين والضباط) ضحايا أُخر لأوهامهم ولصورة الضابط المتنفِّذ النافذ المحقون بأفكار واهية، ليصبح سخرةً ورعيةً بل عبداً بدوره، هكذا وتحت مسمّى أنطولوجيا التبويب لا بدّ أن تكون الرواية أيضا من روايات أدب السجون إذا ما اعتُمِدَ القبو والتعذيب في فصولها.
حالة الانتقام من الآخر، والخلط بينها وبين الانتقام من الذات، خيار أن يتحول الضحية إلى جلاد، أو يخرج من ثوب الضحية مسالماً ومسامحاً، ومحاولة الخلاص في ظلِّ الضحايا الكثر فكلٌّ من زاويته الخاصة يبدو ضحية لغيره. ما بين الحبّ والشهوة تضيع الرّغبة ويتعب البحث عن الغاية، صورٌ عابقةٌ بالجسد المُثار بالانحناءات وإن أتت من ذاكرةٍ أو تخيّل، فالخيال أجمل من الحقيقة دوماً.
باستخدام أسلوب سمعي ـ بصري عالي المستوى، يمدُّ القارئ بصورة حية ناطقة تعبر به عتبات الرواية بلا توقعات أو احتمالات خارجها، ويزداد هذا الشعور بلغة الخطاب التي يستخدمها الكاتب متوجهاً إلى القارئ لكأنّه ينتظر تدخّله لحلّ معضلته أو على الأقل مشاركته انفعالاته.
ليس مفاجئاً أن يظهر فيلليني كشبح على مدار الرواية، وهي التي تحمل عنوان “حذاء فيلليني”، بل الغرائبي أن يكون الراوي متأثراً حدّ تجاوز التناص نحو الارتداء التام للفكر والرؤيا بل وتحوّل الراوي إلى رسام للشخصيات من ثم تخيّل دورها وتركها تنساب فيه وهي تحت نظره بارتجالٍ تام، ما بين العبثية والواقعية، ما بين الحلم والحقيقة والهذيان، الفصام وليدُ عزلة الإنسان عن محيطه بكل معطياته وعزلته عن ذاته، والبدء في حالة البحث المبهمة نحو اللاجدوى من الصراخ لمن استطاع إليه سبيله ولذا أهدى وحيد الطويلة روايته إلى “من صرخوا ولم يسمعهم أحد، إلى من لم يستطيعوا أن يصرخوا”، فتتسع الرقعة حتى تتلاشى حدودها، دون أن ينفصل عن شخصياته بل يتقمصها كلٌّ حسب بيئته وردود فعله، بفلسفة سوريالية تعبر الواقع بجنون يفترضه الخيال المبدع، بعدمية مفرطة للخطوات المدروسة والتطور الطبيعي للحدث، والغاية المرجوّة، بهذه الأبعاد مجتمعة يبدو لنا أن فيلليني نفسه هو من كتب رواية تقدِّمه بلغة غير السينما، إنها اللغة الروائية العالية القيمة جمالياً وفنياً وعناصرها المكتملة بتشكيل مختلف، وهيستيريا الصراعات الداخلية والخارجية، ولعل أهمية الرواية كأهمية أحد أفلام فيلليني المعنون “ساتيركون” أي “المأساة الساخرة”، وكونها تؤرخ بغير عمدٍ مرحلة لا تقل عبثية وألماً.
الحتمية
لا وجود للحتميّة أو وجوب الحلّ الصحيح بالمطلق، المرأة النّدية والفاتنة بشغفها المطلق هي ذاتها التاركة الغائبة والعائدة بخيبتها، الزوجة المستبَدَّة هي ذاتها من يغزوها الانتقام مسلوبةً من انتقام وحشيّ ثم سِلْميّ وهي الخانعة بكامل إرادتها على الظلم المطبَق سلفاً، مأمون الذي يبدأ ناقِماً على الظلم والاضطهاد ليتشرَّب شهوة الجلاد في الانتقام ويمارس في طريقها ظلماً آخر أطاح كثيرا من أمثال مُطاع، فكلٌّ منا ضحية وكلٌّ منا جلَّاد.
يمدّ الراوي أخيلته وهواجسه نحوك ليخرج من قبو المفرد، وحالة الزلزلة والذاتيّة إزاء احتدام الاحتمالات، مقشِّراً حركة القارئ الراصدة ليتموَّه في كنف الرواية، بمقاربةِ الشخصيات ونمطها الوجودي، ماداً حلوله لتصبّ في كفّةٍ ليعود يسحبها إلى أخرى، ويشرب من كأس الشخصية ذاته.
ثراء الحبكة واللغة والفكرة في الراوية هو صنيعةُ مناخٍ واضح في تقديم الشخصيات على سجيَّتها بلا مواربة ولا تصبُّ في الأحكام المسبقة، كل المعطيات أمامك تنفثُ فيك صدقية وجودها، تتقصّى من القارئ التسوية وهنا فقط ينطق بالهلوسات نتاج عدمية ينتجها الحسّ العاطفي حيناً والمنطق في كثير من الأحيان.