مؤمن سمير
.. كان القطار معتاداً على ألا يربط القوسيْن ببعضهما مهما جرى، لهذا لم يُعرف عنه مطلقاً أنهُ سمحَ بحضنٍ يتيمٍ ف ليلة شاردةٍ أو حتى قبلة في الخيال.. كان يحيا بهيئة منشارٍ يقطع ذكريات رجلٍ يكون في النهار شبحاً وفي المساء جيباً في بنطلونٍ مقطوع.. على أية حال، إذا كان المقصود بالحكي هنا رجلاً، فالحقيقة أن الشَبَه بينه وبين أبيه الضخم، صاحب الظِلِّ الذي يتسعُ كلما نظرتَ، عميقٌ وملحوظٌ وراسخٌ في الحكايةِ بامتياز، إلا أن الأمر في السنوات الأخيرة لم يعد يسير على هذا المنوال: فمرةً يكون الرجلُ قصيراً كَشَتْلَةِ نخلٍ منسية، وهذا أمرٌ مُشَرِّفٌ ومفيدٌ، حيث كلما تجوب العواصف الجبارة بكلِ غرورٍ وتعالٍ، سطوح البيوت العريقة، تمرُّ فوقه بهيئةِ مَنْ لم تلهث مطلقاً ولم تحزن (وإن كان ضميرها إذا أردتم الصدق، لا يؤلمها أو يكشط قلبها حتى).. ومرةً يعاني يقينه بالحياة، من أزمةٍ مَرَضيةٍ عارمة، ومن ثَمَّ يحتاج لتنشيطٍ متوهجٍ أو شحذٍ مخلص، فلا يكونُ عليه إلا يحلُمَ بالجيران الجدد لعدة أيام، لتراقب الجماهير المجتمعة أسفل بيته بعدها، عموده الفقري وقد أخذ يطول ويطول حتى يتسلق البطل إلى الطابق الأعلى ويبيت على السرير الصغير، وسطهم، ويتنهد بارتياحٍ بعدما عَبَّأَ صدرَهُ بروائح العائلة.. في أحيانٍ كثيرة، كان قلبه يُذَكِّره بطيور جَدِّه التي اعتاد أن يطبخَها في الغابة متجاهلاً النيران، هذا الرجل المجنون كان يكتفي برشق عيونه في عيون الطير لساعاتٍ، حتى يحترق كبده وتملأ رائحة الشواء الفضاء.. من المؤكد أن جَدَّنا هذا قد عاش فترة من حياته بين الذئاب، وأنهُ قد عاين بعينيه المجرمتين أسرار الجنود والهاربين من سَرَايا الصحراء و فرق الأنهار و كتائب الأزقة التي أخفوها من الطوفان، وهددهم بروحه الكاسرة حتى علموه القتل بمجرد فرد الأصابع، والتمزيق كلما انتفضت المحبة في طريق أو سقطت من حقيبة تلميذ يضحكُ مرسوماً على الكتاب.. جَدٌ لا ظِلَّ له ولا أثر سوى خربشات بعض الشرايين في جمجمة الحفيد الشبح في النهار وفي المساء يكون هو الجيب السارح في هذا البنطلون المقطوع.. كان القطار ماكراً حقاً، بشهادة الجميع هنا وهناك، لهذا كان يختفي ثم يظهر ثم يكرر الأمر بسرعة كأنهُ بهلوان، أمام منظار الكولونيل العظيم الذي يسرح ساعتها ويغيب طويلاً ولا تعيده إلا حبة العَرَق التي تصلَّبت على صلعته اللامعة وتهيأت لأن تشتعل وتشتعل .. كان يفكر دائماً في هيبة أبيه التي ضاعت لما أحرق المدينة فجأة ثم أمر بخنق المساجين في أقبيتهم وتعليق أرواح العجائز على ظهور الأحفاد.. لكن المؤرخين الخونة نسوا كل هذه العَظَمة ولم يذكروا في كراريسهم سوى أن الكولونيل هرب في قطار بضاعة.. قطارٌ قبيح، اعتاد أن يترنح ويملأ الفضاء بابتسامة كسيحةٍ راضية كأنه مخمورٌ، عتيقٌ لكنهُ ليس بالضرورة محنكاً، له سائق قديم، لا يدرك أو يتوقع حتى، مَنْ يُشَرِّف قطاره الصَدِئ، فكان يُطلق العنان لصوته الأجش ويملأ المحطات التي تحيره باختفائها من أمام عينيه كالبرق، بأغانيه التي يحبها بصدق، رغم أنه بعدما صار ينسى وينسى، اعتادت روحه أن تدلقها بلا كلمات.. كان الكولونيل يكره القطارات وأصواتها الجبارة لأنها تقصد أن تتحدى صوته الرفيع، هو موقنٌ منذ زمن، وطولها الثعباني الذي يُجَسِّدُ مارداً يهز رأسهُ ويضيِّق عيونه خلف النظارة المشروخة ليُذكِّره وسط الساحة الكبيرة بقِصَرِه الموصوف.. لهذا ظلت كلما تهتز وتهتزُّ، تنبتُ في صلعته حبات عَرَقٍ صلبة وقاسية وعلى وشك الاشتعال.. و رغم أنه أمر بقتل كل القطارات، العجوز منها والرضيع، إلا أن المنظار الماكر كشَفَ السِرَّ: هذا شعبٌ لا يستحق حتى الرحمة، المجرمون يخفون القطارات وسط زراعات القرى ويلونوها بألوان سحرية تتضامن مع الشمس في تحويله لمجرد فلاحٍ أعمى، لا يصلحُ بالقطع رائداً ومُلْهِماً في حركة التاريخ .. وكلما جاءت الأعياد، صنعوا دُمَىً ترقص وتغني كأنها عرائس أو قرود لكنها في حقيقتها قطارات، تطير بعيداً وهي تحمل نعشه ورائحته وصوته وبريقه وصولجانه.. غاية الأمر وكل أمر، أن الحقيقة الصافية مهما تدحرجت بعيداً، ستظهر حتماً وتَخْلُدُ للأبد، فالأب في كل الحكايات ليس شرطاً أن يكون هو الجَد وبالتالي فأنا بالأحرى لستُ أبي.. الصور بيننا نحن الثلاثة تكشف الأمر بجلاء: أنا مثلاً، أيقنتُ في وَضَاءَةِ وَجْهِ الحكيم الذي قَصَّ عليَّ حكايات الرجال الشجعان، لما أشعلوا النار في أرواحهم ليتطهروا ويسموا ويصعدوا قرب الآلهة، من أجل هذا لم أعد أربِّي إلا صوراً متفحمة تظل تطقطقُ وتطقطق وأنا أنتشي كالمجذوب.. أما هما، فرغم كونهما يستريبان من بعضهما منذ زمنٍ سحيق، إلا أنهما يشبهان العهود البائدة بجلاء، فكانا يحتفظان بالصور في خزانة مصفحة تشبه التنين ثم في حقيبة على شكل خريطة ليس لها ضفاف وجلدها جلد نمرٍ أرقط.. و هي التي ظلت على إخلاصها وحماسها وهي تَدُسُّ العِظام بين النظرات الخائفة وبين الكربون الأسوَد.. و كلما مرت وسْطَنَا لحظة هائمة، كنتُ ألمح عظام أمي وسط العِظام.. بعد ذلك صدرها المقطوع في الحرب، وشَعْرَها الذي صَنَعَ به الساحر أمجاد البحيرة الكبيرة وزَوَّجَ به عزباوات القرية ونفَخَ به في أنف الميت فقام يسعى رغم أنه كان بلا أسنان ولا عانة ولا عينان، فقط ذكرى رجل كان يعيش بهيئة شبحٍ في النهار وفي المساء مجرد جيبٍ سِريٍّ في بنطلونٍ مقطوع..