هذه المقدمة البصرية تقودنا إلى الحالة التي ترغب المخرجة الشابة في أن تضعنا عند اعتابها من اجل التأهب للتعاطي مع عناصر الفيلم التي تتخذ من الأحلام بمفهومها السياسي والشعري على حد سواء مادة لعرض الأفكار.
انطلاقا من كتاب الأطفال الشعري المصور”حسن في كل مكان”للكاتب الفلسطيني الشاب حسن حوراني الذي غرق في بحر يافا بعد ان سمحت له سلطات الأحتلال بزيارتها تأخذنا ميس في محاولة لتمثل الوطن عبر أحلام العودة والأستقلال ولم الشمل ونهاية الشتات.
هنا يتعاطي مصطلح الأحلام مع فكرة الأمل والبارقة التي يسعى ورائها هؤلاء الذين لا يزالوا يمثلون الشعب الصامد في ارضه والذي يتحايل يوميا من أجل استمرار هذا البقاء عبر سلة من الأحلام الحية والكاملة حتى ولو لم تتحقق عن قريب، انها احلام تدخل إلى لغة الفيلم من باب الغد الأفضل وليس من باب الوهم اليائس من اي تغيير مهما طال الوقت.
حسن حوراني حاضر بكلماته ورسوماته والتي تمثل جانب بصري هام من التجربة، هذه الرسومات واللوحات تستغلها ميس من خلال اطار الوثائقية الشعرية في تقديم معادل تصويري لفكرة الحلم التي لا يجب أن يموت وذلك عبر افراد لقطات كاملة لعملية رسم لوحات تدب فيها الحياة- صوتيا- وهي تتشكل من سماء وافق وطيور وشواطئ أثيرية ناعمة.
ليس الفيلم رثاء لكاتب شاب غرق في البحر الذي حلم يوما برؤيته، بل هو احتفاء شعري بفكرة الحلم التي لا تموت، عبر المقاطع القصصية التي تحمل روح الشعر لدى الكاتب الراحل والتي تمثل فواصل تأكيدية على فكرة الحلم بين المقابلات المصورة لا نلمح حزنا ولا رثاءا بل تختار المخرجة من الكتاب ما يشعرنا أن حسن رغم وفاته-أو بسببها- تحقق حلمه بأن يكون في كل مكان كما تمنى ذات يوم.
(كل الناس بتعيش في وطنها وأحنا وطنا عايش جوانا)هكذا يختصر أحد الشباب الذي تلتقي بهم ميس في جولتها بفلسطين المحتلة كيف تتحول صدور الفلسطينين إلى سلة كبيرة تحوي حلما بأستعادة الوطن المحتل والحق في الحياة على ارضه كما كل الشعوب التي تعيش في اوطانها، أنها رسالة بسيطة لكنها تحمل الكثير من الدلالات، الوطن ينتهي بانتهاء من يؤمنون بأنه موجود حتى ولو في حيز روحي ونفسي ضيق داخل الأفراد، الوطن ليس هو البوابة التي يحرسها العسكري الأسرائيلي عند الأقصى ويمنع من يمنع ويجيز من يجيز لكنه ذلك الشعور الخالص بأن كل هذه الأقدام الغريبة عن الأرض مصيرها إلى مغادرة حتى ولو لم تكن وشيكة.
هكذا نتعرف من خلال المقابلة الطويلة التي تجريها المخرجة مع ثلاثة من الشبان المقدسيين الذين يتحدثون عن واقعهم اليومي وشعورهم بماهية الأحتلال وعن أحلامهم الطريفة في أن يشاركوا يوما بحرب التحرير قبل أن تنحني ظهروهم ويصبحوا كآبائهم من الجيل الذي اضطر ان يسلم الراية لمن جاء بعده.
هذه المقابلة تتخذ عمقا سياسيا مع اقترانها بمقابلة تالية لها مع أسرة عائدة إلى فلسطين، رجل وزوجته التي نشأت في الشتات وابنتهم التي ولدت في الأرض، حلم العودة إذن ليس مستحيلا لكنه مؤجل للبعض أما العائدون فلا شئ يسترهم من اليأس سوى رومانتيكية الشعور بأن ذات يوم كل هذا العذاب سوف ينتهي ولن يكونوا في حاجة لأن يقولوا لأحد”please ” كما جاء على لسان الزوجة من أجل أن تمر من ارضها إلى ارضها.
وفي تأكيد بصري على تلك الفكرة تقدم لنا المخرجة مشاهد واسعة للجدار العازل الذي يفصل مجازا بين الأرض الواحدة، ثم بحنكة شعرية تمزج مونتاجيا هذه اللقطات مع صور بالأبيض والأسود لفلسطين ما قبل النكبة، تقسم الشاشة إلى قسمين وتعرض لنا في كلا القسمين نفس الصورة لنفس الأرض ونفس الشعب ولكن بينهم خط اسود فاصل يشبه الجدار العازل وكأنها تقول لنا انظروا هل يمكن لهذا الخط أن يجعل الصورتين مختلفتين؟ ان الخط/الجدار الفاصل لا يغير من كون الأرض واحدة في الصورتين والشعب واحد في الحالتين.
ان الحبيب الذي ينتظر ميس عند البحر ليس هو حسن الغارق في امواج يافا بل هو الوطن الذي تبقيه أحلام العودة حيا ونابضا في داخلها، عبر خلال رحلة ميس بين المدن الفلسطينية لم تصور كاميرتها الأسرائيليين سوى من بعيد، عندما كانت في القدس، وكأنهم مجرد شئ عابر ليس له أن يحتل مساحة من زمن الفيلم –يكفيه احتلاله للأرض-.
حتى عندما تتحدث شخصيات الفيلم عنهم فأننا لا ننتقل بصريا إليهم بل يبدوا وكأنهم مثلما قال لها أحد شباب القدس(كل منا يعيش في حياة منفصلة، هم لهم حياتهم ونحن لنا حياتنا)في تأكيد على أن كلا الكيانين الصهيوني والفلسطيني لايمكن أن تمتزج دمائهم الاجتماعية او الانسانية لان كل منهم ينتمي لصنف من البشر يختلف كليا عن الأخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ريفيو:
اسم الفيلم : حبيبي بيستناني عند البحر
سيناريو وإخراج : ميس دروزة
مهرجان دبي 2013- مسابقة المهر العربي للافلام الوثائقية
نشر هذا المقال ضمن مواد النشرة اليومية لمهرجان دبي السينمائي الدولي 2013
بتصريح من المسئول عن النشرة