أسامة كمال
….(وكأن للعيد حارة يسكن فيها مثلما يسكن فى البيوت البشر)…
لسنوات طويلة تمتد بطول شريط قضبان قطار الطفولة اللامع لمعان وميض البرق والمدهش دهشة دخول أول خيوط نور النهار، القطار المسافر خلال سنوات أواخر السبعينيات من صفحة القرن الغارب المغبشة والساحرة فى لمعة الذاكرة برغم فقر الشوارع والبيوت والبشر فى الحى الشعبى العريق بمدينة البحر بورسعيد..
شريط قطار بلا محطات للصعود أو النزول، يسير داخل زرقة السماء ومنها الى لمعة ماء البحر.. شريط متصل من البهحة الخالصة لأطفال تدربوا على اصطياد الفرحة بالرغم من شقاء الحياة وجفائها..
هناك فى بيتنا القابع فى الذاكرة كظل منسى من بناية خشبية عتيقة داخل شارع ضيق كان حينها أبرح من براح العالم..
لم تكن ألعابنا أبعد من حروب مُتخيلة وممتدة بطول اليوم، مزهوة بزهوة وبكارة الانتصارات الاولى ومثقلة بهزائم عابرة لأطفال لا يعترفون بخسائرهم الصغيرة خلف المتاريس وساحات الحرب التى أقاموها داخل أطلال المنازل القديمة والخنادق وخرائب الحرب المنسية كذكرى من تهجير المدينة القاسى لست سنوات أثقل من الموت لم نعشها أو تعرفها ذاكرة طفولتنا.. كنا أيضاً نصنع أشكالا بديعة من أغطية زجاجات المياه الغازية ( بيبسى – كوكا كولا – سفن اب – سباتس ) وبيرة النجمة الشهيرة التى كانت أغطية زجاجاتها ملقاة فى الشوارع مثلها مثل غيرها من الزجاجات ولم تحظ بعد بالرهبة والسرية وكان غطاؤها المزين بالنجمة أغلى الاغطية عند المقايضة أو التبادل بيننا وعادة ما تكون نجوم أغطيتها حلية الواجهة الأمامية فى تشكيلاتنا البديعة التى نشكلها بأيدينا بعد دق الأغطية وفردها وتجميعها ولصقها وتصميمها وتشكيلها.. وتنوعت منابع الدهشة فى العاب اخرى.. البلى : الذى ما زالت ألوانه المتداخلة والمبهجة تضوى فى الروح..النحلة الخشبية التى أجدنا ربطها بالخيط وتفليتها من أيدينا بخفة وبراعة لتدور على الأرض بسرعة متناهية أو تدق بسنها المدبب على نحل المنافسين الأقل مهارة.. أو تشييد منازل من الكراتين وخلق عالم موازى بداخلها يتشابه مع ما نعيشه فى منازلنا.. أوعمل دراجات متخيلة من الخشب الملقى فى الشوارع والحارات..بعدها دخلنا عوالم ألعاب أخرى يكفى ذكر بعضها: شندر، بلتك، السبع طوبات، العقلة والمذراب، المنديل.. ) ليحتفظ ذلك العالم بشفرة دهشته واكتشافه على الدوام منا ومن السنوات التى غرقت فى مياه أيامنا.. وكنا نوفر كل أدوات اللعب من بقايا ومهملات – المنطقة الحرة – التى ختم الرئيس السادات بنسر وعلم الدولة عام ١٩٧٦على انشائها وتحويل مدينة خط النار والدم والبحر الى مدينة من الكراتين المحمولة من كل بحار العالم والمكدسة بالبضائع الملونة بأعلام بلدانها رغبة منه فى تعويض أبنائها عما لاقوه من ويلات متتالية لكن أتت السفن بما لا يشتهى الملاح.. كانت أدوات اللعب مجلوبة من كل أسواق المنطقة الحرة وملقاة ومدفونة على صفحة مياه قناة ساحرة تخترق منتصف المدينة – القنال الداخلى – و اسم القناة يحد من سحرها التى كانت عليه فى عيوننا، وأسموها – القنال الداخلى – حتى لا تتشابه أو يختلط نسبها مع قناة السماء الى الارض وابنة البحر المفضلة – قناة السويس -..وتحولت القناة – القنال الداخلى – مع الوقت الى قناة من المخلفات وتم ردمها تحت طبقات الزمن واختفت من طفولتنا ومن مدينة البحر..المدهش أن طائراتنا الورقية أو الغاب كما كنا نسميها وقتها حين كانت تنفلت من بين أيدينا أو تنهزم فى صراع السماء أمام الطائرات الورقية الأخرى كانت تنفلت منا وتطير تجاه القناة الساحرة ونظل ورائها حتى نمسك ببهجتها وبهجة ألوانها مرة اخرى وكأننا كنا نريد الاحتفاظ بذكرى تجمع بين سحر القناة والطائرة معا فى لمعة سماء الذاكرة.. وكما كان – القنال الداخلى – أو القناة الساحرة التى كانت تخترق منتصف مدينة البحر وتسكن فى خيالنا على بعد امتار من بيوتنا الكائنة فى حى العرب، كانت حارة العيد تسكن هناك فى آخر شارعنا على امتداد أبصارنا التى تنقب عن الدهشة مثلما تنقب عن الحياة..
بمجرد انتهاء آذان المغرب الأخير من شهر رمضان تنطفئ داخلنا مباهج وتطفو على أرواحنا مباهج أخرى.. تنطفئ سبائل النور التى تتواجد فى كل حارة وشارع أمام البيوت على شكل هرم متدرج تتراص عليه القلل القناوى البديعة، لا تجد فيها سبيلا ًيشبه آخر أو قللا تتشابه مع مثيلاتها فى الزخرفة والتزيين.. أصحاب السبائل يعتبرون سبائلهم عنوان ارواحهم الى الله.. ينيرونها بأنوار مخملية ويبدعون فى تصميماتها وتشكيلها على مئة شكل وكأنها سبيلهم الى بهجة الارض وجنة السماء.. وتنطفىء الفوانيس فى أيدى الاطفال وعلى البيوت وعلى واجهات الشوارع بينما تنداح فى الاجواء بهجة جديدة بألوان اخرى وفى مكان آخر ووحيد يسكن فى حارة لا يفرق بيننا وبينها سوى شارع طويل قبل أن نقطعه عرفنا طرق البهجة وطرائقها فى شوارعنا الضيقة ولم يبق لنا غير عبور المفازة السحرية الى العيد فى شوارعه المتداخلة وحارته الواسعة الرحيبة.. كنا نسكن فى شارع يحمل رقم سحرى (٩٩ ) وكأن التسعتين المتجاورتين شفرة مرور من بيوتنا إلى حارة العيد التى كانت تتجاور حينها مع بابين من أبواب الخروج إلى فضائات اللذة والمغامرة: سينما الاهلى بشاشتها المشعة بالضوء وبأفلام أواخر السبعينيات للبطل – بروس لى – البطل المتسرب الى طفولتنا عبر حكايات من يكبروننا من المراهقين الباحثين عن معنى وعن بطل فى غرف ضعفهم وخيباتهم والتى تتحول السينما مع انتصاره الى ساحات معارك حية أمام شاشتها المغوية.. والباب الثانى بحيرة يكتمل بها الثالوث السحرى: البحر والبحيرة والقناة.. البحر المالح كما كنا نسميه وقتها والذى كانت ملوحته تغمر أرواحنا مع شهقة متعة العوم على مائه لاول مرة، والبحيرة التى تسكنها العفاريت والمراكب الشراعية ذات الصواري والأشرعة البيضاء التى تمر كالأحلام من بين ورد النيل الذى يكسو مساحات واسعة من ماء البحيرة.. في الشارع الى حارة العيد كنا نسير جنبا الى جنب مع وهج وبكارة البهجة، بدايةً من ( بدلة حمادة ) التى نرتديها والمزينة برسومات والت ديزنى بخطوطها البديعة والتى كانت حينها الزى الرسمي للدخول من باب العيد.. أو فى اعتلائنا وركوبنا – البكاش – السائر بنا بين سحائب الدهشة في الطريق الى حارة العيد.. بعد العبور الى ضفة الحلم والوصول للعيد نكتشف الألعاب الجديدة التي بدأت تعرف طريقها الى ايدينا: المسدسات بانواعها واشكالها.. العرائس…الطراطير والزمامير والشخاليل والبلالين.. الالات الموسيقية.. العاب الزامبلك بكل تنويعاتها وحيواناتها: القطار، الطائرة، القرد، الدبدوب..،…
نتنقل بين: الدوارية.. الساقية القلابة.. المراجيح.. النيشان…السيرك.. الحاوي… الساحر.. العاب البخت والمقامرة.. كنا نذهب الى العيد في بيته وحارته ونعود باكتشافات والعاب وحياة جديدة الى قباب أرواحنا فى شوارعنا القديمة التي اختفت تحت طبقات الزمن وداخل مدن الملاهى ومحال البلاى ستيشن.